مقالات المركز

التداعيات الإستراتيجية على شبه الجزيرة الكورية

زيارة ترمب إلى كوريا الجنوبية


  • 20 نوفمبر 2025

شارك الموضوع

في سياق التوترات الجيوسياسية المتزايدة في شرق آسيا، شكلت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى كوريا الجنوبية في أواخر أكتوبر (تشرين الأول) 2025 حدثًا محوريًّا يعكس تحولات في السياسة الخارجية الأمريكية نحو تعزيز التحالفات الاقتصادية والأمنية في مواجهة التحديات الصينية والكورية الشمالية. وقعت الزيارة خلال قمة منتدى التعاون الاقتصادي آسيا- المحيط الهادئ (APEC) في مدينة كيونغجو التاريخية، واستمرت يومين فقط (29-30 أكتوبر/ تشرين الأول)، لكنها حملت في طياتها إعلانات عن صفقات تجارية وأمنية كبيرة، بالإضافة إلى لقاءات ثنائية حاسمة. هذه الزيارة، التي جاءت في إطار رحلة آسيوية أوسع شملت ماليزيا واليابان، لم تكن مجرد إجراء دبلوماسي روتيني؛ بل تمثلت فيها محاولة ترمب لإعادة تشكيل التوازن الإقليمي من خلال نهج “أمريكا أولًا” الموسع، الذي يجمع بين الضغوط الاقتصادية والحوافز الأمنية. أدت الزيارة إلى “تقدم درامي” في المفاوضات التجارية مع كوريا الجنوبية، مع تركيز على خفض التعريفات الجمركية وتعزيز الاستثمارات المتبادلة. كما أثارت تداعياتها تساؤلات عن تأثيرها في الاستقرار الأمني لشبه الجزيرة الكورية، خاصة في ظل الاختبارات الصاروخية الكورية الشمالية التي سبقت الزيارة بيوم واحد فقط.

تعود علاقات الولايات المتحدة بكوريا الجنوبية إلى عام 1953، مع توقيع معاهدة الدفاع المشترك التي جعلت من سيول حليفًا إستراتيجيًّا رئيسًا في مواجهة التهديد الكوري الشمالي، والتوسع السوفييتي السابق. خلال فترة رئاسة ترمب الأولى (2017-2021)، شهدت هذه العلاقة تقلبات، حيث طالب ترمب بزيادة مساهمات كوريا الجنوبية في تكاليف الدفاع المشترك، مما أدى إلى توترات مؤقتة. في الولاية الثانية، التي بدأت في يناير (كانون الثاني) 2025، عاد ترمب إلى نهجه التفاوضي، مستخدمًا الضغط الاقتصادي كأداة لتحقيق مكاسب أمنية. جاءت الزيارة بعد قمة في البيت الأبيض في أغسطس (آب) 2025 مع الرئيس الجنوب كوري لي جاي ميونغ، الذي تولى المنصب في ديسمبر (كانون الأول) 2024 بعد انتخابات تنافسية، حيث أكد لي أهمية التحالف مع واشنطن في مواجهة التهديدات الإقليمية.

في السياق الإقليمي، تزامنت الزيارة مع تصعيد كوريا الشمالية لاختباراتها الصاروخية، حيث أطلقت بيونغ يانغ صواريخ كروز بحرية- أرضية في بحر الصين الأصفر يوم 28 أكتوبر (تشرين الأول)، في خطوة اعتُبرت تحديًا مباشرًا للدبلوماسية الأمريكية. كما أن غياب ترمب عن الجلسات الرئيسة لقمة (APEC)، التي انعقدت في 31 أكتوبر (تشرين الأول)- 1 نوفمبر (تشرين الثاني)، سمح للرئيس الصيني شي جين بينغ بالسيطرة على المنصة الدولية، مما يعكس إستراتيجية ترمب في التركيز على اللقاءات الثنائية بدلًا من المنتديات الجماعية. هذا النهج، الذي يعتمد على “فن الصفقة” كما يصفها ترمب، يهدف إلى تعزيز المصالح الأمريكية الفورية، لكنه يثير مخاوف بشأن تراجع النفوذ الأمريكي في المحيط الهادئ.

كانت الزيارة مكثفة، مع تركيز على ثلاث لقاءات رئيسة؛ أولًا: اللقاء الثنائي مع الرئيس لي جاي ميونغ في قصر كيونغجو الوطني يوم 29 أكتوبر (تشرين الأول)، حيث ركز الجانبان على تحديث التحالف العسكري وصفقة تجارية جديدة. أعلن ترمب “تقدمًا دراميًّا” في المفاوضات، بما في ذلك خفض التعريفات الأمريكية على الواردات الكورية الجنوبية من 25% إلى 15%، مقابل استثمارات كورية تصل إلى 350 مليار دولار في الولايات المتحدة، تشمل 150 مليارًا في بناء السفن، و100 مليار في غاز الطبيعة المسال. كما منحت كوريا الجنوبية ترمب أعلى وسام مدني، إلى جانب تاج ذهبي تاريخي يعود إلى عصر سلالة سيلا (القرن الخامس)، رمزًا للقيادة الإلهية، والاحترام الدبلوماسي.

ثانيًا: اللقاء مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في قاعدة غيمها الجوية ببوسان يوم 30 أكتوبر (تشرين الأول)، الذي استمر 90 دقيقة، وأسفر عن اتفاقات تجارية جزئية. وافق شي على استئناف شراء فول الصويا الأمريكي، وتدفق المعادن النادرة، مقابل خفض ترمب للتعريفات على الصين بنسبة 10%، مما أنهى تهديدًا سابقًا بفرض تعريفات إضافية بنسبة 100% بسبب قيود الصين على الصادرات هذا اللقاء، الذي وُصف بأنه “أساسي” لاستقرار السلسلة التوريدية العالمية، عكس توازنًا دقيقًا بين الولايات المتحدة والصين، مع تركيز على مكافحة تجارة الفنتانيل غير الشرعية.

ثالثًا: لقاءات جانبية مع قادة آخرين، منهم رئيس الوزراء الياباني سايناي تاكايشي، ورئيس الوزراء الكندي مارك كارني، خلال عشاء رسمي في كيونغجو، حيث ناقش ترمب تعزيز التعاون الاقتصادي في إطار (APEC). وعلى الرغم من الترحيب الرسمي، شهدت الزيارة احتجاجات من مئات المتظاهرين ضد سياسات ترمب التجارية، مما يبرز التوترات الداخلية في كوريا الجنوبية. أعرب ترمب عن رغبته في العودة إلى لقاء كيم جونغ أون، مشيرًا إلى “ذكريات إيجابية” من قمم 2018- 2019، لكن الجدول الزمني لم يسمح بذلك.

أدت الزيارة إلى دفعة اقتصادية فورية لكوريا الجنوبية، التي تعتمد على التصدير بنسبة 40% من ناتجها المحلي الإجمالي، مع الولايات المتحدة بوصفها شريكًا تجاريًّا رئيسًا. الصفقة التجارية الجديدة، التي تشمل تسهيلات في الاستثمارات، من المتوقع أن تخلق آلاف الوظائف في قطاعات السيارات والإلكترونيات، حيث يُقدر أن خفض التعريفات سيوفر لشركات مثل هيونداي وسامسونغ مليارات الدولارات سنويًّا. كما أن الاتفاق مع الصين يعزز استقرار أسعار المواد الخام، مما يدعم نمو الاقتصاد الجنوب كوري المتوقع بنسبة 2.5% في 2026، وفقًا لتقديرات بنك كوريا المركزي.

أما فيما يتعلق بكوريا الشمالية، فإن التداعيات غير مباشرة لكنها حاسمة. الاتفاقات الأمريكية- الصينية على المعادن النادرة قد تعزز الضغوط على بيونغ يانغ، التي تعتمد على الصين بنسبة 90% من تجارتها، لكنها قد تفتح أبوابًا لتفاوض اقتصادي إذا عادت كوريا الشمالية إلى المائدة. ومع ذلك، يُخشى أن يؤدي التركيز الأمريكي على الصفقات الثنائية إلى تجاهل التحالفات الإقليمية، مما يعمق العزلة الاقتصادية للشمال، حيث يبلغ ناتجها المحلي الإجمالي أقل من 40 مليار دولار. على مستوى شبه الجزيرة، تعزز الزيارة من تكامل الاقتصادات الجنوبية مع الغرب، مما يعمق الفجوة مع الشمال، لكنه يفتح إمكانات لمشروعات مشتركة في حالة تحسن العلاقات.

من الناحية الأمنية، كانت الزيارة خطوة نحو “تحديث” التحالف الأمريكي- الكوري؛ حيث طالب ترمب بزيادة الإنفاق الدفاعي الكوري الجنوبي إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي (من 2.3% حاليًا)، مقابل موافقة أمريكية على بناء غواصات نووية جنوب كورية، مما يعزز القدرات الدفاعية في بحر الصين الشرقي. هذا الاتفاق، الذي يشمل تدريبات عسكرية مشتركة موسعة، يأتي كرد على الاختبارات الصاروخية الكورية الشمالية، التي أطلقت أكثر من 100 صاروخ في عام 2025 وحده.

فيما يتعلق بشبه الجزيرة بكاملها، يعزز التحالف من الردع تجاه بيونغ يانغ، لكنه يثير مخاوف من سباق تسلح؛ فالزيارة قد تؤدي إلى تعاون دفاعي أعمق بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، مما يحد نفوذ روسيا وكوريا الشمالية، اللتين وقعتا اتفاقًا عسكريًّا في يوليو (تموز) 2025. ومع ذلك، رفضت كيم يو جونغ، أخت الزعيم الكوري الشمالي، أي “هجوم تهدئة” من سيول، مما يشير إلى استمرار التصعيد. في الختام، تعزز الزيارة الأمن الجنوبي، لكنها قد تؤجل حلًا سلميًّا لشبه الجزيرة إذا لم تُتبع بلقاءات مع الشمال.

سياسيًّا، عكست الزيارة تحولًا في ديناميكيات القوى في شرق آسيا، حيث استخدم ترمب اللقاءات لتعزيز صورته كـ”صانع سلام”، مستفيدًا من الهدايا الرمزية، مثل التاج الذهبي الذي أثار جدلًا واسعًا على وسائل التواصل. اللقاء مع شي جين بينغ، الذي أسفر عن “إجماع” بشأن قضايا اقتصادية، يشير إلى إمكانية تهدئة التوترات الأمريكية- الصينية، مما يخفف الضغط على كوريا الجنوبية كحلقة وصل.

عززت الزيارة -فيما يخص السياسة الداخلية الكورية الجنوبية- موقف الرئيس لي، الذي واجه انتقادات بسبب محاكمة سلفه، لكنها أثارت احتجاجات من اليسار الذي يرى في سياسات ترمب تهديدًا للاستقلال الاقتصادي. على مستوى شبه الجزيرة، قد تشجع الزيارة كوريا الشمالية على تكثيف تحالفها مع روسيا، خاصة مع دعم موسكو العسكري المتزايد، مما يعقد الدبلوماسية. كما أن غياب ترمب عن (APEC) سمح لشي باللقاءات البارزة مع اليابان وكندا، مما يعزز النفوذ الصيني، ويضعف الولايات المتحدة سياسيًّا.

أخيرًا، شكلت زيارة ترمب إلى كوريا الجنوبية في 2025 نموذجًا للدبلوماسية الاقتصادية- الأمنية، مع لقاءات أنتجت صفقات ملموسة، لكنها أثارت تحديات إقليمية. انعكاساتها على شبه الجزيرة تشمل تعزيزًا للاقتصاد والأمن الجنوبيين، لكن مع خطر تصعيد سياسي مع الشمال والصين. لتحقيق سلام دائم، يجب أن تتبع واشنطن جهودًا متعددة الأطراف، بعيدًا عن النهج الثنائي. في نهاية المطاف، تؤكد الزيارة أن التوازن في شرق آسيا يعتمد على دمج المصالح الاقتصادية مع الحوار الأمني.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع