تقدير موقفمقالات المركز

تعزيز التحالفات الإقليمية ومواجهة التحديات الجيوسياسية في بحر قزوين

زيارة بوتين إلى أذربيجان


  • 29 أغسطس 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: bbc.com

وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى العاصمة الأذربيجانية باكو يوم الأحد 18 أغسطس (آب)، في زيارة رسمية استغرقت يومين. خلال هذه الزيارة، التقى بوتين بالرئيس الأذربيجاني إلهام علييف على ضفاف بحر قزوين، وناقشا تعزيز علاقات الشراكة الإستراتيجية بين البلدين، إلى جانب تناول قضايا دولية وإقليمية راهنة. تأتي هذه الزيارة في سياق التحولات الجيوسياسية المعقدة التي تشهدها المنطقة، وتحديدًا في ظل التوترات المستمرة بين أذربيجان وأرمينيا على خلفية النزاع في إقليم قره باغ.

بالنظر إلى الخلفية التاريخية، يُعد بحر قزوين والمناطق المحيطة به مسرحًا مهمًا للتنافس الجيوسياسي بين القوى الإقليمية والدولية. الولايات المتحدة تنظر إلى منطقة بحر قزوين كجزء من إستراتيجيتها لتعزيز نفوذها في أوراسيا، حيث ترى أن هذه المنطقة الغنية بالطاقة تمثل فرصة إستراتيجية لتعويض النقص في إمدادات الطاقة القادمة من روسيا، خاصة بعد فرض العقوبات الغربية على موسكو إثر حربها على أوكرانيا؛ ومن هنا، يبدو أن بوتين لا يسعى من خلال زيارته إلى باكو إلى تعزيز علاقاته مع أذربيجان فحسب؛ بل أيضًا الحد من نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها في هذه المنطقة الحساسة.

لم تكن الزيارة مجرد خطوة دبلوماسية روتينية؛ بل جاءت بعد فترة توتر استمرت نحو ست سنوات منذ آخر زيارة لبوتين إلى أذربيجان عام 2018. خلال تلك الفترة، شهدت العلاقات بين موسكو وباكو تباينًا، خاصة مع الاتهامات الأذربيجانية المتكررة لموسكو بالانحياز إلى أرمينيا. ومع انتهاء حرب قره باغ لصالح أذربيجان في سبتمبر (أيلول) 2023، بدعم روسي، فإن زيارة بوتين الأخيرة تشير إلى إعادة تقييم موسكو لإستراتيجيتها في القوقاز.

أحد أبرز الموضوعات التي تمثل مصدر قلق لروسيا هو زيادة صادرات الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا، التي بلغت نحو 24 مليار متر مكعب عام 2024. هذه الزيادة جاءت في وقت حساس بعد تراجع إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا بسبب الحرب الأوكرانية؛ لذا من المحتمل أن يكون بوتين قد ناقش مع علييف كيفية إدارة هذه المسألة بما يخدم المصالح الروسية، وربما سعى إلى إقناع أذربيجان بدعم مشروع مركز تصدير الغاز الطبيعي المزمع إنشاؤه في تركيا بالتعاون مع موسكو.

كما أن هذه الزيارة قد تمثل محاولة روسية للحد من تأثير الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل في المنطقة، فإسرائيل تتمتع بعلاقات قوية مع أذربيجان، حيث توجد قاعدة عسكرية تجسسية إسرائيلية كبيرة بالقرب من الحدود الإيرانية. كما أن تعزيز العلاقات بين موسكو وباكو قد يهدف أيضًا إلى منع الغرب من استغلال التوترات بين أذربيجان وإيران لتحقيق أهداف جيوسياسية أوسع.

في الوقت نفسه، تُعد هذه الزيارة محاولة لتعزيز التوازن في العلاقات الإقليمية، خاصة بين أذربيجان وإيران، وتحسين العلاقات بين هذين البلدين قد يكون جزءًا من خطة أوسع تهدف إلى تعزيز التحالف الثلاثي بين تركيا وإيران وروسيا، وهو تحالف بدأ يتشكل على حساب بعض القضايا الإقليمية، مثل قضية سوريا.

تأتي زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أذربيجان في ظل تحولات جيوسياسية معقدة تشهدها منطقة القوقاز- كما ذكرنا آنفًا- حيث تسعى روسيا إلى تعزيز نفوذها ومصالحها الإستراتيجية في المنطقة، خاصة في ضوء التوترات المتزايدة مع الغرب، وهذه الزيارة، التي تعد الأولى لبوتين إلى باكو منذ عام 2018، تأتي بعد مرحلة من العلاقات بين موسكو وباكو شهدت توترات نتيجة النزاع الطويل الأمد بين أذربيجان وأرمينيا على إقليم قره باغ. ورغم الدور الروسي التاريخي في هذا النزاع، الذي اتسم غالبًا بالتحيز لصالح أرمينيا، فإن موسكو تسعى الآن إلى إعادة ضبط علاقاتها مع باكو لتعزيز شراكتها الاستراتيجية.

زيارة بوتين إلى أذربيجان تأتي في وقت شهدت فيه العلاقات بين موسكو ويريفان، حليفة روسيا التقليدية في المنطقة، تدهورًا ملحوظًا. بعد النزاع الأخير في قره باغ، شعرت أرمينيا بخيبة أمل تجاه روسيا، حيث اتهمتها بالتخلي عنها في مواجهة أذربيجان. هذا التوتر دفع يريفان إلى البحث عن دعم غربي، مما زاد من تعقيد العلاقات في المنطقة. وبناءً على ذلك، تسعى موسكو من خلال زيارتها إلى باكو إلى تعزيز موقعها في القوقاز، ومنع أي انزلاق نحو النفوذ الغربي، خاصة في ضوء تحركات يريفان الأخيرة التي شملت تقاربًا مع الولايات المتحدة، وإجراء مناورات عسكرية مشتركة معها..

وإلى جانب تعزيز الشراكة مع أذربيجان، تسعى موسكو أيضًا إلى تقليص أي فرصة للولايات المتحدة لاستغلال التوترات الإقليمية لتحقيق مصالحها الخاصة؛ فالولايات المتحدة، التي تربطها بأذربيجان علاقات وثيقة، تسعى إلى توسيع نفوذها في بحر قزوين، ومنطقة القوقاز بكاملها، خاصة من خلال تعاونها العسكري والاستخباراتي مع باكو. في هذا السياق، فإن تعزيز العلاقات الروسية- الأذرية يأتي كخطوة وقائية من موسكو للحفاظ على نفوذها التقليدي، ومنع واشنطن من تحقيق “ثغرة جيوسياسية” في منطقة تعد حيوية لمصالح روسيا الإستراتيجية.

بالإضافة إلى ذلك، تأتي هذه الزيارة في وقت تشهد فيه موسكو تحديات داخلية كبيرة، خاصة في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا، وتزايد الضغوط الاقتصادية والعسكرية عليها. بناءً على ذلك، يمكن القول إن بوتين يسعى من خلال هذه الزيارة إلى تأمين جبهته الجنوبية، وتعزيز نفوذه في القوقاز، في محاولة للحد من تأثير التحديات التي تواجهها موسكو على جبهات أخرى. ومن خلال إعادة ضبط علاقاتها مع أذربيجان، تسعى روسيا إلى تأكيد أنها لا تزال قوة رئيسة في منطقة القوقاز، رغم التحديات المتزايدة التي تواجهها على الصعيدين الداخلي والخارجي.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع