تُعد العلاقات الأمريكية الباكستانية واحدة من أكثر العلاقات الدبلوماسية تعقيدًا في العالم، حيث تتشابك فيها المصالح الإستراتيجية والتوازنات الإقليمية والتحديات الأمنية. وفي يونيو (حزيران) 2025، شكّلت زيارة المشير عاصم منير، رئيس أركان الجيش الباكستاني، إلى الولايات المتحدة، نقطة تحول بارزة في مسار هذه العلاقات. لقد كانت الزيارة، التي تضمنت لقاءً غير مسبوق مع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، بمنزلة إشارة قوية إلى إعادة ضبط العلاقات بين البلدين، في ظل سياق إقليمي ودولي مضطرب.
لطالما اتسمت العلاقات بين الولايات المتحدة وباكستان بتقلبات حادة، مدفوعة بالمصالح المتغيرة والظروف الجيوسياسية. منذ تأسيس باكستان عام 1947، كانت الولايات المتحدة شريكًا إستراتيجيًّا رئيسًا، خاصة خلال الحرب الباردة، عندما انضمت باكستان إلى تحالفات غربية، مثل منظمة حلف جنوب شرق آسيا (سياتو)، وحلف بغداد لمواجهة النفوذ السوفيتي. خلال الغزو السوفيتي لأفغانستان في الثمانينيات، أدت باكستان دورًا محوريًّا كقاعدة لدعم المجاهدين، بدعم أمريكي مالي وعسكري كبير. ومع ذلك، شهدت العلاقات فترات من التوتر، خاصة في التسعينيات بعد انتهاء الحرب الباردة، عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على باكستان بسبب برنامجها النووي.
بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، عادت باكستان إلى صدارة الأولويات الأمريكية بوصفها حليفًا رئيسًا في “الحرب على الإرهاب”. تلقت إسلام آباد مساعدات عسكرية واقتصادية بمليارات الدولارات، لكن العلاقة ظلت مشوبة بالتوتر بسبب اتهامات أمريكية لباكستان بدعم جماعات متشددة، خاصة في أفغانستان. وصلت العلاقات إلى أدنى مستوياتها في عام 2011 بعد العملية الأمريكية التي أسفرت عن مقتل أسامة بن لادن في أبوت آباد، مما أثار تساؤلات عن مدى الثقة المتبادلة بين البلدين. في السنوات الأخيرة، ومع انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان عام 2021، بدا أن الأولوية الأمريكية قد تحولت نحو تعزيز العلاقات مع الهند كجزء من إستراتيجية مواجهة الصين؛ مما أدى إلى شعور باكستاني بالتهميش.
تكتسب زيارة المشير عاصم منير إلى الولايات المتحدة في يونيو (حزيران) 2025 أهمية استثنائية لعدة أسباب؛ أولًا: تعد هذه الزيارة الأولى من نوعها لرئيس أركان جيش باكستاني في الخدمة يلتقي مباشرة برئيس أمريكي في البيت الأبيض دون أن يكون في منصب سياسي. هذا اللقاء، الذي تخللته مأدبة غداء رسمية، يعكس الدور المحوري الذي يضطلع به الجيش الباكستاني في صياغة السياسة الخارجية للبلاد، وهو أمر ليس جديدًا في سياق السياسة الباكستانية، لكنه يكتسب رمزية خاصة في هذا التوقيت. ثانيًا: جاءت الزيارة في أعقاب تصاعد التوترات الإقليمية، ومنها الاشتباكات الحدودية بين باكستان والهند في مايو (أيار) 2025، التي انتهت بوقف إطلاق نار بوساطة أمريكية، فضلًا عن التوترات المتصاعدة بين إيران وإسرائيل.
خلال الزيارة، ناقش المشير منير والرئيس ترمب مجموعة واسعة من القضايا، منها التعاون الأمني، ومكافحة الإرهاب، والتوترات الإقليمية، مثل قضية كشمير، والصراع الإيراني الإسرائيلي. ومع ذلك، كان التركيز اللافت على الجوانب الاقتصادية، حيث أبدى الطرفان اهتمامًا بتوسيع التعاون التجاري في مجالات مثل التعدين، والطاقة، والذكاء الاصطناعي، والعملات المشفرة. هذا التحول نحو الاقتصاد يعكس رغبة مشتركة في إعادة تعريف العلاقات، التي كانت تقليديًّا تركز -على نحو شبه حصري- على الأمن.
من الناحية السياسية، تعكس الزيارة جهود باكستان لاستعادة مكانتها بوصفها شريكًا إستراتيجيًّا للولايات المتحدة في منطقة جنوب آسيا. في السنوات الأخيرة، شعرت إسلام آباد بأن واشنطن قد أعطت الأولوية للهند على حساب باكستان، خاصة من خلال تعزيز التعاون العسكري والاقتصادي مع نيودلهي. هذا الشعور تفاقم مع توقيع اتفاقيات مثل الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، رأت فيها باكستان محاولة لتهميشها إقليميًّا. زيارة المشير منير -والاستقبال الحار الذي لقيه في البيت الأبيض- يمكن أن تُفسر على أنها محاولة أمريكية لإعادة التوازن في علاقاتها مع دولتي جنوب آسيا النوويتين.
من وجهة نظر باكستانية، كانت الزيارة فرصة لإبراز دور إسلام آباد بوصفها وسيطًا إقليميًّا، فقد أشاد المشير منير بالدور الأمريكي في التوسط لوقف إطلاق النار بين باكستان والهند؛ مما يعزز صورة باكستان بوصفها دولة تسعى إلى الاستقرار الإقليمي. في الوقت نفسه، حاولت باكستان، من خلال هذه الزيارة، إرسال رسالة إلى إيران، التي تمثل مصالحها السفارة الباكستانية في واشنطن، بأنها قادرة على أداء دور دبلوماسي فعال في احتواء التصعيد بين طهران وإسرائيل.
من جانب الولايات المتحدة، يبدو أن إدارة ترمب تسعى إلى إعادة إحياء العلاقات مع باكستان كجزء من إستراتيجية أوسع لمواجهة التحديات الإقليمية، ومنها نفوذ الصين وروسيا في جنوب آسيا والشرق الأوسط. باكستان، بفضل موقعها الجغرافي الإستراتيجي، وعلاقاتها الوثيقة مع دول مثل السعودية والصين، تُعد شريكًا لا غنى عنه في هذا السياق. ومع ذلك، فإن هذا التقارب يثير قلق الهند، التي ترى في أي تحسّن في العلاقات الأمريكية الباكستانية تهديدًا محتملًا لمصالحها الإستراتيجية، خاصة في ضوء التنافس التاريخي مع باكستان بشأن كشمير.
تظل الأمن قضية مركزية في العلاقات الأمريكية الباكستانية، وكانت الزيارة فرصة لمناقشة قضايا مثل مكافحة الإرهاب، وأمن الترسانة النووية الباكستانية، والاستقرار في أفغانستان. لقد أشاد ترمب خلال اللقاء بالتعاون الوثيق بين البلدين في مكافحة الإرهاب، وهو تصريح يعكس تقديرًا أمريكيًّا للجهود الباكستانية في محاربة الجماعات المتشددة، خاصة بعد قرار إسلام آباد وقف المفاوضات مع حركة طالبان الباكستانية، واستخدام القوة العسكرية ضدها.
ومع ذلك، هناك تحديات أمنية مستمرة. من الجانب الأمريكي، لا تزال هناك مخاوف بشأن أمن الأسلحة النووية الباكستانية، وهي قضية تُثار بانتظام في جلسات الكونغرس. من جانب باكستان، هناك حساسية تجاه أي محاولات أمريكية للتدخل في شؤونها الداخلية، خاصة بعد مشروع قانون أمريكي اقتُرح في مارس (آذار) 2025 لفرض عقوبات على المشير منير بزعم “اضطهاد المعارضة السياسية”. هذه الخطوة، مع أنها لم تُطبق، أثارت استياءً في الأوساط الباكستانية، التي رأت فيها محاولة للضغط على المؤسسة العسكرية.
ربما كان الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في زيارة المشير منير هو التركيز غير المسبوق على التعاون الاقتصادي. تقليديًّا، كانت العلاقات الأمريكية الباكستانية تهيمن عليها القضايا الأمنية، لكن اللقاء بين منير وترمب شهد مناقشات بشأن توسيع التبادل التجاري، الذي بلغ نحو 7.3 مليار دولار في عام 2024. أبدى ترمب اهتمامًا كبيرًا بإقامة شراكة تجارية متبادلة المنفعة، مع التركيز على قطاعات مثل التعدين، والطاقة، والتقنيات الناشئة. هذا التوجه يتماشى مع رؤية باكستان لتنويع اقتصادها، وتقليل اعتمادها على المساعدات الخارجية.
من وجهة نظر باكستانية، يمكن أن يسهم تحسين العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة في تعزيز الاستقرار الداخلي، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد، والتي تفاقمت بسبب انخفاض الصادرات، وارتفاع أسعار الغذاء. ومع ذلك، هناك تحديات، منها المنافسة مع الهند، التي تمتلك سوقًا أكبر وعلاقات اقتصادية أقوى مع الولايات المتحدة. من جانب الهند، هناك قلق من أن أي تقارب اقتصادي أمريكي باكستاني قد يؤثر في مصالحها التجارية، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والدفاع.
على الرغم من الإشارات الإيجابية التي حملتها زيارة المشير منير، فإن العلاقات الأمريكية الباكستانية لا تزال تواجه تحديات كبيرة؛ أولًا: هناك قضية الثقة المتبادلة، فالولايات المتحدة لا تزال تشكك في مدى التزام باكستان بمحاربة جميع الجماعات المتشددة، في حين ترى باكستان أن واشنطن تتبع سياسة ازدواجية المعايير، خاصة في دعمها للهند. ثانيًا: العلاقات الوثيقة بين باكستان والصين، خاصة من خلال الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (CPEC)، تشكل عقبة أمام تعميق التعاون مع الولايات المتحدة، التي ترى في الصين تهديدًا إستراتيجيًّا.
من ناحية أخرى، هناك فرص واعدة؛ إذ يمكن لباكستان أن تكون جسرًا دبلوماسيًّا بين الولايات المتحدة ودول مثل إيران والصين، بفضل علاقاتها المتوازنة. كما أن التعاون الاقتصادي يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة، خاصة إذا نجحت الولايات المتحدة في تقديم استثمارات كبيرة في قطاعات حيوية، مثل الطاقة والتكنولوجيا. فيما يتعلق بباكستان، يمكن أن يساعد هذا التعاون على تعزيز الاستقرار الاقتصادي، وتقليل الاعتماد على الصين.
من منظور هندي، تثير زيارة المشير منير مخاوف بشأن احتمال إعادة توجيه السياسة الأمريكية نحو باكستان، فالهند، التي استفادت من التقارب مع واشنطن في السنوات الأخيرة، تخشى أن يؤدي أي تحسّن في العلاقات الأمريكية الباكستانية إلى تقليص نفوذها الإقليمي. قضية كشمير، التي كانت محور نقاش خلال الزيارة، تظل نقطة توتر رئيسة، إذ ترى الهند أن أي دعم أمريكي للموقف الباكستاني قد يعقد جهودها لتأكيد سيادتها على الإقليم. ومع ذلك، يبدو أن الولايات المتحدة حريصة على الحفاظ على توازن دقيق، حيث أكد ترمب في تصريحاته رغبته في إبرام صفقة تجارية مع الهند، مما يشير إلى أن واشنطن لن تضحي بعلاقاتها مع نيودلهي من أجل باكستان.
أخيرًا، تمثل زيارة المشير عاصم منير إلى الولايات المتحدة في يونيو (حزيران) 2025 نقطة انعطاف في العلاقات الأمريكية الباكستانية، حيث أعادت إحياء الشراكة الإستراتيجية بين البلدين في سياق إقليمي ودولي معقد. لقد أظهرت الزيارة إمكانية الانتقال من علاقة تركز على الأمن إلى شراكة أكثر شمولية تشمل التعاون الاقتصادي. ومع ذلك، فإن نجاح هذا التقارب يعتمد على قدرة الطرفين على بناء الثقة المتبادلة، ومعالجة التحديات الهيكلية، ومنها التنافس الإقليمي مع الهند، والعلاقات الباكستانية مع الصين. في نهاية المطاف، يمكن أن تكون هذه الزيارة بداية فصل جديد في العلاقات الأمريكية الباكستانية، شريطة استغلال الفرص المتاحة بحكمة، وتفادي العقبات التي أعاقت هذه العلاقة في الماضي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير