في حدث دبلوماسي لافت، جاء بعد نحو عام من سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، قام الرئيس السوري أحمد الشرع بأول زيارة رسمية له إلى العاصمة الروسية موسكو ولقاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين. تأتي هذه الزيارة في توقيت شديد الأهمية؛ فهي تتزامن مع مرحلة انتقالية حساسة تمر بها سوريا في عامها الأول بعد تغيير النظام، ومع سعي موسكو إلى إعادة تموضع نفوذها في المنطقة. لقد كانت روسيا الحليف الأبرز للأسد على مدى عقد ونصف العقد، ودعمت بقاءه خلال الحرب الأهلية، لكنها تجد نفسها الآن أمام قيادة سورية جديدة قادمة من صفوف الثورة؛ لذلك تحمل هذه الزيارة دلالات تتجاوز البروتوكول، إذ تهدف إلى إعادة تعريف العلاقة بين دمشق وموسكو على أسس مختلفة عما كان في السابق. ويشير المراقبون إلى أن توقيت اللقاء يعكس رغبة مشتركة في طي صفحة الماضي، وفتح فصل جديد يقوم على المصالح المتبادلة، واحترام السيادة، خاصة بعد سنوات من الصراع الذي مزّق سوريا، وخلط الأوراق الإقليمية. في هذا المقال التحليلي سنتناول بالتفصيل الأبعاد السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية لهذه الزيارة التاريخية، لفهم كيف تعكس إعادة صياغة العلاقة بين البلدين، وما قد تحمله من تحولات في المديين المتوسط والبعيد.
تعكس زيارة الشرع لموسكو واقعًا جديدًا في علاقات سوريا الدولية، يقوم على البراغماتية وتوازن العلاقات بعد سنوات من الاصطفافات الحادة. فلطالما كانت روسيا الداعم الدولي الأهم لنظام بشار الأسد، وقد تورطت عسكريًّا في الصراع السوري دعمًا له، مما أكسبها نفوذًا واسعًا، ولكن أيضًا تركها في مواجهة مع قطاعات عريضة من الشعب السوري، حملتها مسؤولية قتل آلاف المدنيين خلال قصفها مناطق المعارضة. أما الآن، وبعد الإطاحة بحليف الكرملين القديم، فإن موسكو مضطرة إلى إعادة صياغة دورها في سوريا بناءً على معطيات جديدة؛ فقد انتقلت سوريا إلى مرحلة “الدولة لا النظام، والمؤسسات لا الأفراد”. بوتين نفسه حرص أمام الكاميرات على التأكيد أن علاقة بلاده هي مع الشعب السوري، وأنها “عميقة جدًّا”، في إشارة إلى أنه يتعامل مع سوريا وطنًا وشعبًا، وليس فقط من خلال شخص الرئيس كما في الماضي. وردّ أحمد الشرع بتصريح واضح عن هدف المرحلة الراهنة بقوله إنه يسعى إلى إعادة تعريف العلاقة مع روسيا على نحو يضمن سلامة سوريا، ووحدتها واستقلالها. هذا التبادل للعبارات الدبلوماسية يوضح إدراك الجانبين أن حقبة التحالف غير المشروط مع شخص الأسد انتهت، وأن العلاقة الجديدة ستُبنى على أسس احترام سيادة سوريا ومصالحها الوطنية، إلى جانب مصالح روسيا.
منذ الأيام الأولى لتولّي الشرع الحكم في دمشق، أبدت روسيا واقعية سياسية في التعامل مع الواقع المستجد. فعلى عكس موقفها الشرس في سنوات الحرب، امتنعت موسكو عن عرقلة الهجوم الواسع لقوات الثورة الذي أسقط النظام السابق في ديسمبر الماضي، بل سارعت إلى تهنئة الشرع بتنصيبه رئيسًا، وإظهار الاستعداد للتعاون معه. اعتُبر هذا الموقف إشارة مبكرة إلى تفاهم ضمني، أو على الأقل تقبّل روسي لتغيير موازين القوى، وربما جاء نتيجة تنسيق غير معلن مع قوى دولية وإقليمية (مثل تركيا التي دعمت فصائل المعارضة فترة طويلة)؛ ومن ثم لم تنظر موسكو إلى القيادة الجديدة بعداء، وإنما انتهجت خيار الانفتاح السريع على دمشق الجديدة حتى لا تفقد نفوذها تمامًا في سوريا. وقد شهدت الشهور الماضية بالفعل تبادل زيارات بين مسؤولين من الجانبين، منها زيارة وزير الخارجية السوري الجديد لموسكو في يوليو (تموز) الماضي، ما عُدّ تمهيدًا إيجابيًّا قبل لقاء القمة بين الرئيسين.
على الجانب السوري، يظهر الشرع نهجًا براغماتيًّا حذرًا يسعى إلى تفكيك الخصومات القديمة، وفتح أبواب التواصل مع الجميع قدر الإمكان، فالنظام السوري الجديد يدرك أنه ورث بلدًا منهكًا، وعلاقات خارجية شبه معزولة؛ ومن ثم لا يمكنه تحمل رفاهية قطع الجسور مع أي قوة كبرى. من هذا المنطلق، ورغم الغضب الشعبي السوري من الدور الروسي خلال الحرب، تعاملت دمشق بهدوء مع الوجود الروسي المستمر على أراضيها: لم تُغلق القواعد الروسية، ولم تطرد الخبراء العسكريين الروس، بخلاف ما فعلته تجاه المليشيات الإيرانية التي ساندت الأسد. هذا التفريق في التعامل يكشف إستراتيجية الشرع في تقليل عدد الأعداء بدلًا من زيادتهم؛ فهو يعي أن فتح جبهة صراع مع موسكو لن يخدم مصلحة سوريا التي تحتاج إلى كل دعم ممكن في هذه المرحلة الحرجة؛ لذا اختارت القيادة السورية الجديدة استيعاب روسيا كجزء من الحل المستقبلي بدلًا من النظر إليها كجزء من مشكلة الماضي، ما دامت موسكو قبلت بدورها الجديد، وتخلّت عن سياسات الوصاية.
بطبيعة الحال، لا يخلو الجانب السياسي من ملفات خلافية عالقة بين دمشق وموسكو، وأبرزها ملف محاسبة رموز النظام السابق، فقد أكدت مصادر سورية أن الشرع قدّم خلال الزيارة طلبًا رسميًّا للرئيس بوتين لتسليم بشار الأسد والمسؤولين الآخرين الموجودين في روسيا إلى السلطات السورية من أجل محاكمتهم بتهم جرائم حرب. هذا الطلب يشكّل اختبارًا حساسًا للنيات الروسية، إذ ترفض موسكو حتى الآن بحث تسليم حليفها السابق، معتبرة منحه اللجوء قضية إنسانية لتجنيبه “انتقامًا جسديًّا” محتملًا. كما أن روسيا ليست عضوًا حاليًّا في المحكمة الجنائية الدولية (بعد انسحابها من توقيعها السابق على نظام روما)، فيما تسعى دمشق إلى جعل ملاحقة الأسد ضمن إطار قانوني دولي لتجنب تسييس الملف. ومع ذلك، فإن إثارة الشرع الموضوع علنًا توجّه رسالة مهمة للرأي العام السوري بأن القيادة الجديدة لم تنسَ قضية العدالة والمساءلة، وإن كانت ستتابعها من خلال القنوات القضائية المناسبة، وليس بالثأر السياسي. الجانب الروسي -من جهته- يفضل إبقاء هذا الملف معلّقًا في الوقت الراهن، وحصره في المسار القانوني البطيء، في حين يركز مع دمشق على القضايا الإستراتيجية المشتركة الأكثر إلحاحًا كتأمين الاستقرار الداخلي، وإعادة بناء الدولة السورية. وهكذا أمكن للطرفين ترحيل الخلافات السياسية الصعبة إلى المستقبل، ريثما تتعزز الثقة المتبادلة، والتفرغ حاليًّا لترميم ما تهدّم في العلاقة الثنائية على أسس المصلحة المشتركة.
على الصعيد الاقتصادي، تحمل زيارة الشرع إلى موسكو بعدًا حيويًّا لإعادة إعمار سوريا، وإنعاش اقتصادها المنهار، كما تمثل فرصة لروسيا للحفاظ على موطئ قدم اقتصادي في بلاد الشام. لقد خرجت سوريا من الحرب ببنية تحتية مدمّرة، واقتصاد منهار يرزح تحت وطأة العقوبات الدولية، وهي تحتاج عاجلًا إلى شركاء دوليين للمساعدة على إعادة الإعمار، وتأمين احتياجات الشعب الأساسية. وفي هذا السياق، تجد دمشق وموسكو أرضية مشتركة واسعة للتعاون الاقتصادي. تؤكد التصريحات الرسمية أن المباحثات في موسكو ركزت على الاحتياجات السورية العاجلة: القمح، والطاقة، وإعادة الإعمار. فروسيا، رغم انشغالها بأزمات أخرى، ما زالت من أكبر منتجي الحبوب في العالم، ويمكنها سدّ جزء من فجوة الغذاء في سوريا من خلال توريد القمح بأسعار تفضيلية، خاصة أن الأخيرة لا تزال تعتمد جزئيًّا على الواردات لتأمين خبز شعبها. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالطاقة، إذ كانت روسيا خلال الحرب مورّدًا رئيسًا للمحروقات إلى مناطق سيطرة النظام حينذاك، واستمر هذا الدور بشكل ما حتى بعد التغيير السياسي، حيث أرسلت موسكو شحنات نفط إلى سوريا في الأشهر الماضية للتخفيف من أزمة الوقود الخانقة. هذه المعونات النفطية تعد مؤشرًا على استعداد روسيا لدعم الاقتصاد السوري المتهالك، ومنع انهياره، تمهيدًا للانتقال إلى مرحلة الاستثمار الطويل الأمد في إعادة الإعمار.
وقد أولى الجانبان اهتمامًا كبيرًا لموضوع إعادة إعمار البنية التحتية السورية، وهو ملف اقتصادي- إستراتيجي من الطراز الأول. الشركات الروسية كانت تراقب من كثب فرص الاستثمار في مشروعات إعادة البناء (من طرق وجسور ومحطات توليد كهرباء ومنشآت نفط وغاز وغيرها)، والآن، بعد استتباب الوضع نسبيًّا لصالح الحكومة الجديدة، بات الباب مفتوحًا أمامها للمشاركة. خلال الزيارة، أُعيد تفعيل اللجنة الحكومية المشتركة للتعاون الاقتصادي بين البلدين، وأُعلن استعداد موسكو للإسهام بخبراتها وأموالها لإعادة تأهيل المنشآت السورية الحيوية، وتشغيل حقول النفط والغاز التي تعطلت سنوات. بالمقابل، جدّدت دمشق التزامها بجميع الاتفاقيات السابقة المبرمة مع روسيا في مجالات الاقتصاد والطاقة، مع تأكيدها رغبتها في إعادة صياغة تلك الشراكات بما يحفظ سيادة القرار السوري. فعلى سبيل المثال، عقود التنقيب عن النفط والغاز التي مُنحت لشركات روسية في عهد الأسد ستُحترم، لكن يتوقع السوريون الآن مزيدًا من الشفافية والتوازن في تنفيذها بحيث تحقق فائدة للطرفين، وليس امتيازات مجانية لطرف واحد. من جهة أخرى، تدرك روسيا أن عليها تقديم حوافز حقيقية للسوريين في هذا المجال، خاصة مع وجود منافسة إقليمية محتملة؛ إذ أبدت بعض الدول العربية استعدادها للمساهمة في إعمار سوريا بعد زوال الأسد، كما أن الصين وإيران قد تسعيان للحصول على حصة أيضًا؛ لذا فإن موسكو حريصة على ترسيخ حضورها الاقتصادي مبكرًا لكي لا تخسر السباق على الفرص الاستثمارية الواعدة في سوق سورية جديدة تحتاج إلى كل شيء تقريبًا.
ولا ينفصل التعاون الاقتصادي عن المناخ السياسي العام؛ فسوريا تأمل أن تساعدها روسيا في تخفيف وطأة العقوبات الدولية المفروضة عليها. وفي هذا الشأن، أشارت موسكو إلى أنها ستدعم دمشق في مجلس الأمن وغيرها من المحافل لرفع ما يمكن من العقوبات، مستثمرة شبكة علاقاتها الدولية لهذا الغرض. وقد نجحت بالفعل الجهود الروسية -إلى جانب جهود عربية- في استصدار بعض الاستثناءات الإنسانية، وتجميد بعض بنود عقوبات “قيصر” الأمريكية لأغراض الإغاثة. هذه الخطوات -وإن كانت محدودة- تبعث برسالة إيجابية للسوريين بأن الانفتاح على روسيا يساعد على كسر العزلة الاقتصادية التي عانوها طويلًا. في المقابل، تستفيد روسيا أيضًا من موقع سوريا الإستراتيجي لإطلاق مبادرات اقتصادية أوسع؛ إذ تخطط مثلًا لاستخدام المواني والقواعد السورية على البحر المتوسط كمراكز لوجستية لإيصال المساعدات والأسمدة والحبوب إلى دول إفريقية في إطار توسيع نفوذها التجاري والإنساني عالميًّا. بهذا الشكل، يمكن للعلاقة الاقتصادية السورية- الروسية المعاد صياغتها أن تتحول إلى شراكة تنموية تعود بالنفع على الاقتصاد السوري المنهك، وتضمن لموسكو نصيبها من الكعكة الاقتصادية في مرحلة ما بعد الحرب، بعد أن كانت علاقتها بدمشق خلال الحرب تقتصر غالبًا على الدعم المالي والعسكري دون آفاق استثمار حقيقي.
العلاقات السورية- الروسية لا يمكن فهمها دون النظر إلى جانبها العسكري والأمني، حيث كان التعاون العسكري حجر الزاوية خلال سنوات الحرب، ويتطلب الآن إعادة تنظيم بما يتلاءم مع حقبة السلام وإعادة بناء الدولة. أبرز ملف عسكري على طاولة المباحثات في موسكو كان مستقبل الوجود العسكري الروسي في سوريا المتمثل في القواعد والمنشآت الروسية، وعلى رأسها قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية، وقاعدة الدعم البحري في ميناء طرطوس. هذه القواعد التي تأسست في ذروة التدخل الروسي لدعم الأسد أصبحت رمزًا لنفوذ موسكو الإقليمي، لكنها أيضًا محل جدل بين السوريين الذين ينظر بعضهم إليها على أنها مساس بالسيادة. تفيد التقارير أن الزيارة تركزت على تجديد اتفاقية القاعدتين الروسيتين فترة قادمة، مع إعادة النظر في شروط عملهما بحيث تُضمَن مصالح الطرفين. دمشق الجديدة لا تريد قطع التعاون العسكري مع روسيا، بل على العكس تحتاج إليه لضمان أمن البلاد، لكنها في المقابل ترغب في ضبط دور القوات الروسية بحيث يخدم استقرار سوريا، ولا يتحول إلى أداة ابتزاز سياسي. من التصورات المطروحة أن يُعاد تعريف مهمة الوجود الروسي ليشارك في مهام دعم الاستقرار الإقليمي، ومكافحة الإرهاب، وتقديم الإغاثة عند الضرورة، بدلًا من أن يُنظر إليه كقوة لحماية النظام الحاكم كما كان إبان عهد الأسد. وقد ألمح الجانبان إلى تفاهم بهذا الصدد، حيث أكد الجانب الروسي تفهّمه أن السيادة السورية لها الأولوية، وأن قواته ستعمل بالتنسيق الكامل مع حكومة دمشق. ويتوقع محللون أن أي اتفاق نهائي بشأن القواعد الروسية سيأخذ في الحسبان الواقع الجديد: فروسيا تريد الاحتفاظ بموطئ قدم إستراتيجي على البحر المتوسط، وسوريا تريد مساعدات أمنية دون انتقاص استقلالية قرارها؛ لذا سيكون الحل الوسط استمرار القواعد الروسية، ولكن ضمن أطر قانونية جديدة قد تشمل تحديد مهامها الدفاعية بدقة، وامتناعها عن إيواء مطلوبين لدمشق، وربما وضع سقوف زمنية قابلة للتجديد باتفاق الطرفين.
إلى جانب القواعد، هناك ملف تحديث الجيش السوري وإعادة تسليحه. خلال اللقاء أُعلن توقيع عقود جديدة لتزويد الجيش السوري بمنظومات تسليح حديثة، مع تركيز خاص على الدفاع الجوي. هذا الأمر مفهوم بسبب للتحديات الأمنية التي تواجهها سوريا في حماية أجوائها، سواء من الاختراقات الإسرائيلية المتكررة، أو خطر تسلل طائرات مسيّرة للجماعات المتطرفة. لقد تضررت قدرات الدفاع الجوي السورية كثيرًا خلال الحرب بسبب كثافة الضربات، والتخريب، ونقص الصيانة؛ ومن ثم فإن الدعم الروسي لتحديث رادارات الدفاع الجوي وصواريخه سيعيد إلى سوريا جزءًا من سيادتها الدفاعية المفقودة. كما تشمل خطط التعاون العسكري تطوير قدرات القوات البرية السورية عن طريق التدريب، وتزويدها بمركبات وأسلحة نوعية، لتتمكن من بسط سيطرة الدولة على التراب السوري كله، وتعزيز الأمن الداخلي. وتشير مصادر مطلعة إلى أن روسيا تعهّدت بدعم جهود دمشق لإعادة دمج جميع الفصائل المسلحة تحت مظلة الجيش الوطني السوري، ومنها وحدات كانت معارضة سابقًا، أو قوات محلية مثل التشكيلات الكردية التي تم التوصل إلى اتفاق لدمجها مؤخرًا. وجود خبراء ومستشارين عسكريين روس سيساعد على إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية السورية على أسس مهنية حديثة، مستفيدين من خبرة موسكو الطويلة مع الجيش السوري، وكذلك التجارب القتالية المشتركة في السنوات الماضية. ولعل إحدى الثمار المهمة للتعاون العسكري الجديد هي إنهاء حالة الانقسام التي عاناها الجيش إبان عهد الأسد، حيث انشق كثير من الضباط والجنود، أو همّشوا بسبب المواقف السياسية. الآن، مع صفحة جديدة، من مصلحة روسيا وسوريا معًا بناء جيش وطني موحّد يكون ولاؤه للوطن لا لأشخاص، أو ولاءات خارجية.
ومن التحولات اللافتة في المشهد الأمني السوري تراجع النفوذ العسكري الإيراني في سوريا بعد تشكيل الحكومة الجديدة وسقوط نظام الأسد، إذ أفادت تقارير أن دمشق طلبت من الميليشيات المرتبطة بإيران مغادرة البلاد عقب سقوط الأسد، معتبرةً وجودها عائقًا أمام توحيد القرار العسكري الوطني، واستفزازًا لدول الجوار. هذا التطور حظي ضمنًا برضا موسكو؛ لأن النفوذ الإيراني العسكري كان دائمًا منافسًا غير معلن للدور الروسي في سوريا. الآن وقد أصبحت روسيا الشريك الخارجي الأبرز لسوريا في المجال العسكري، فإن التنسيق الأمني بين البلدين يمكن أن يمضي بوتيرة أسرع، ودون تعارض أجندات كما كان يحصل أحيانًا في عهد الأسد حين كانت أوامر موسكو وطهران تتضارب على الأرض. ومن شأن تقليص الدور الإيراني أن يخفف أيضًا من التوتر مع إسرائيل، التي كانت تبرر ضرباتها داخل سوريا بوجود قوات إيرانية قرب حدودها، فدمشق اليوم حريصة على تهدئة الجبهات، وتجنب أي تصعيد جديد، وهو ما يتفق مع رؤية موسكو التي تسعى إلى حلول سياسية، لا حروب مفتوحة مع إسرائيل، أو غيرها. وهكذا يتضح أن العلاقة العسكرية بين دمشق وموسكو يعاد بناؤها على أسس تختلف نوعيًّا عما سبق؛ إذ تنتقل من علاقة المُنقذ بمستنجِده في زمن الحرب إلى علاقة شراكة إستراتيجية لمصلحة استقرار سوريا على المدى الطويل. روسيا -من جهتها- تعترف ضمنيًّا أنها خسرت رهانها على النظام السابق، لكنها الآن تعيد تموضعها بالانفتاح على النظام الجديد، فيما تثمّن سوريا الدعم الروسي، لكن من منطلق الشراكة لا التبعية. وسيكون على الطرفين إدارة هذه العلاقة الأمنية بحذر؛ لضمان استمرار التوازن الدقيق: سوريا تستفيد من قوة روسيا وخبرتها، وروسيا تحافظ على آخر مواقع نفوذها العسكري في الشرق الأوسط، وكل ذلك مع تفادي تكرار أخطاء الماضي عندما طغى البعد الأمني على حساب سيادة سوريا وقرارها المستقل.
للزيارة أبعاد اجتماعية داخلية سورية، لا تقل أهمية عن الملفات السياسية والاقتصادية. فعلى مدى سنوات الحرب، تشكلت في وجدان الشعب السوري صورة عن روسيا كطرف مشارك في معاناته، نتيجة الدعم العسكري الضخم الذي قدمته موسكو للأسد، وما نجم عنه من دمار وخسائر بشرية. هذه الخلفية تجعل إعادة بناء الثقة الشعبية في العلاقة مع روسيا تحديًا كبيرًا أمام القيادة السورية الجديدة التي تعمل على سياسة صفر مشكلات مع الكل، ومن هنا يمكن فهم حرص الرئيس أحمد الشرع على التأكيد، وهو يقف بجانب بوتين، أن العلاقة مع موسكو ستُعرَّف من جديد لضمان استقلال سوريا ووحدتها، فهو يوجّه رسائل متعددة بهذا التصريح: رسالة طمأنة للسوريين بأن زمن الارتهان للإملاءات الخارجية قد ولّى، وأن أي تعاون مع روسيا مستقبلًا سيكون بما لا يمس السيادة الوطنية. وكذلك هي رسالة تذكير للروس بأن الدعم الذي قدموه سابقًا لشخص الأسد لا يمنحهم حق الهيمنة على قرار سوريا، بل إن الشعب الذي صمد وثار هو صاحب المصلحة العليا، وصوته يجب أن يُحترم. هذا الخطاب المتوازن يسهم في امتصاص الحساسية الشعبية حيال التقارب مع موسكو، ويؤسس لرؤية مفادها أن التقارب مع روسيا الآن يخدم مصلحة السوريين أنفسهم إذا ما أدى إلى إعمار بلدهم وحمايته، عكس ما كانت عليه الحال حين استخدمته السلطة السابقة لإطالة أمد حكمها فقط.
لقد لمس السوريون بعض المؤشرات الإيجابية التي تواكب هذا التحول في السياسة الخارجية. فعلى سبيل المثال، طريقة استقبال بوتين للرئيس الشرع في الكرملين اتسمت باحترام ملحوظ لهيبة الدولة السورية الجديدة؛ حيث تم اللقاء في القصر الكبير، وبجميع الاعتبارات الرسمية؛ ما أوحى بأن موسكو تعترف بشرعية القيادة الحالية، وتعاملها بندية دبلوماسية. ورغم تداول البعض لمقارنات بين حفاوة الاستقبال الآن وفي زيارات سابقة لبشار الأسد، حيث كان الأخير يظهر أحيانًا بانتظار اللقاء في مواقف حرجة، فإن الأهم هذه المرة أن الرئيس الشرع بدا واثقًا ومتمسكًا بموقفه خلال المؤتمر الصحفي، حتى إنه استهل حديثه بعبارة طريفة موجهة إلى بوتين: “درجكم طويل ونحن رياضيون”، في إشارة إلى سلالم الكرملين العالية. هذه العبارة العفوية لاقت تفاعلًا إيجابيًّا بين السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ رأى فيها البعض رمزًا للطريق الشاق الذي سلكته الثورة السورية حتى وصلت إلى قمة السلطة، وأن القيادة الجديدة مستعدة لبذل الجهد والتعب في سبيل تحقيق مصالح البلاد. كما أعجِب كثيرون بظهور الشرع الواثق وهو يتحدث عن مصالح سوريا دون تلعثم أو خوف، مما أعاد إلى الأذهان صورة الزعماء السوريين المستقلين في حقب سابقة، قبل أن تطغى عليهم هيمنة شخص واحد وعائلته عقودًا.
على صعيد الوضع الاجتماعي الداخلي، فإن تقارب دمشق مع موسكو بشروط جديدة ينعكس أيضًا على مزاج الشارع السوري وتطلعاته، فغالبية السوريين اليوم منشغلون بهموم إعادة الإعمار، وعودة الحياة الطبيعية بعد حرب طاحنة، ويرحبون بكل انفتاح خارجي يسهم في تحسين ظروفهم المعيشية. إن رؤية مشروعات البناء تنتعش بدعم روسي، واستئناف المصانع والمعامل عملها بمعدات روسية، ووصول القمح والوقود لتشغيل الأفران ومحطات الكهرباء، كل ذلك من شأنه تخفيف معاناة الناس اليومية، ويجعلهم ينظرون ببراغماتية للعلاقة مع روسيا، رغم الندوب العميقة التي خلفها تدخلها العسكري سابقًا. كذلك يأمل الملايين من اللاجئين والنازحين السوريين أن تسهم التفاهمات الروسية- السورية الجديدة في خلق بيئة أكثر أمنًا واستقرارًا تمكّنهم من العودة إلى مدنهم وقراهم. وقد بدأت بالفعل بعض مؤشرات التحسن الأمني تظهر مع توقف المعارك، وانخفاض حاد في معدلات العنف، مما يشجع العائلات على التفكير بالعودة إذا توافرت مقومات العيش، وإعادة الإعمار. وفي هذا الصدد، تؤدي روسيا دورًا مهمًّا ليس فقط في توفير الموارد؛ وإنما أيضًا في ضمان الاستقرار، ومنع تجدد الصراع، وهو ما يهم كل مواطن سوري يتطلع إلى عيش حياة آمنة وكريمة.
من جانب آخر، يبرز بُعد المصالحة الوطنية كإحدى ثمار إعادة صياغة التحالفات الخارجية، فحين اتخذت القيادة السورية الجديدة قرارات جريئة بطرد الميليشيات الأجنبية المتعددة (وعلى رأسها المجموعات الموالية لإيران)، وتسريح بعض التشكيلات العسكرية المثيرة للجدل، فإنها كانت تبعث برسالة وحدة داخلية: سوريا لن تكون بعد الآن ساحة صراع بالوكالة بين قوى متناحرة، بل ستكون وطنًا لجميع أبنائها بمختلف أطيافهم. وقد عززت هذه الرسالة مشاعر الفخر والارتياح لدى قطاعات عريضة من السوريين، الذين رأوا في ذلك استعادة لكرامة لطالما انتهُكت خلال سنوات الحرب. ولم يكن ممكنًا لدمشق أن تنتهج هذه السياسة المستقلة لولا أنها استطاعت تحرير قرارها الداخلي نسبيًّا من خلال تحقيق توازن في علاقاتها الخارجية؛ فهي اليوم تتواصل مع روسيا والغرب والعرب والجوار الإقليمي وفق منطق المصلحة السورية أولًا، دون ارتهان كلي لمحور ضد آخر. هذا التوازن الخارجي ينعكس استقرارًا داخليًّا، ويتيح للحكومة التركيز على ملفات المصالحة وإعادة اللحمة الوطنية. وقد بدأت بالفعل بوادر مصالحة مجتمعية مع عودة كثير من أبناء المعارضة في الخارج للمشاركة في بناء المستقبل، ودخول الفصائل الكردية والعربية في الجيش الوطني، وانخراط الجميع في ورش صياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات برلمانية حرة (حصلت لأول مرة مؤخرًا ونالت إشادة دولية). كل هذه التطورات الاجتماعية الإيجابية تحفّزها أجواء الانفراج الدولي بشأن سوريا؛ فكلما شعرت الطبقة السياسية والجمهور بأن بلدهم لم يعد معزولًا أو مهددًا، زاد الأمل بمستقبل أفضل، وتراجعت نوازع التطرف والانتقام.
باختصار، على الصعيد الاجتماعي ترمز زيارة الشرع لموسكو إلى طي صفحة حقبة مؤلمة، وبداية عهد جديد يمكن أن يؤدي فيه التعاون الخارجي المدروس إلى تحسين حياة الناس. وإذا نجحت القيادة السورية في ترجمة الوعود إلى نتائج ملموسة -من كهرباء منتظمة ومشروعات إسكان ومستشفيات ومدارس تُبنى بمساعدة دولية- فإن نظرة السوريين لروسيا ستتحول تدريجيًّا من الخصومة إلى الشراكة. بالطبع ستبقى الذاكرة المثقلة بسنوات القصف حاضرة، ولن يغيب عن بال السوريين ما ينتظرونه من روسيا على صعيد التعويض وجبر الضرر في المدى الطويل، لكن المزاج الشعبي العام الآن يميل إلى منح فرصة للسلام وإعادة البناء. ولعل أكبر خدمة اجتماعية تقدمها إعادة صياغة العلاقات السورية- الروسية هي إعادة الأمل للسوريين بأن تضحياتهم طيلة عقد من الثورة لم تذهب سدى، وأن بلدهم يستعيد عافيته وعلاقاته على نحو يحفظ كرامتهم وحريتهم التي انتزعوها بتضحيات جسيمة.
مثّلت زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو لحظة مفصلية تؤشر إلى تحول عميق في نمط العلاقة بين سوريا وروسيا، من علاقة رعاية أحادية الجانب في عهد الأسد إلى علاقة شراكة متوازنة تسعى إلى خدمة مصالح دولة سوريا الجديدة. فعلى المدى المتوسط، يُتوقع أن تترجم التفاهمات التي أرستها هذه الزيارة إلى خطوات عملية تعزز استقرار سوريا وانتعاشها التدريجي: سنشهد استمرار التعاون الوثيق في تحديث الجيش السوري وتسليحه لمواجهة التحديات الأمنية، إلى جانب دوريات روسية- سورية مشتركة لضمان الأمن في المناطق الحساسة. ومن المحتمل أيضًا أن يتواصل التنسيق السياسي بين دمشق وموسكو في المحافل الدولية، سواء لتمرير قرارات تخفف العقوبات، أو لمواجهة أي تهديدات لسيادة سوريا (كالمحاولات الإسرائيلية لفرض أمر واقع في الجولان المحتل). اقتصاديًّا، خلال السنوات القليلة المقبلة، سنرى مشروعات روسية بارزة على الأرض السورية -كمحطات توليد كهرباء، أو مصافٍ نفطية، أو إعادة تأهيل لميناء طرطوس- تبدأ بالعمل، مسهِمةً في تخفيف أزمات السوريين المعيشية، ومقدمةً دليلًا ملموسًا على مصداقية الدعم الروسي. وفي المقابل، ستستفيد روسيا على المدى المتوسط من تعافي سوريا لتحصيل بعض العوائد الاقتصادية (عبر عقود الاستثمار والتصدير)، وتعزيز صورتها كقوة عالمية ساعدت على حل أزمة معقدة، بعد أن كانت متهمة بإطالة أمدها. ولعل ملف محاسبة أركان النظام السابق يبقى في المدى المتوسط ورقة تفاوضية ومحل تجاذب؛ فإذا تطورت الثقة بين الجانبين ربما تقدم موسكو تنازلات محدودة (كإبعاد بشار الأسد عن الأضواء، أو تقييد حركته)، لكن من غير المتوقع حله نهائيًّا قبل استقرار الوضع الداخلي أكثر.
أما على المدى البعيد، فتشير الدلائل إلى أننا أمام إعادة تموضع إستراتيجي لسوريا في الخريطة الإقليمية والدولية. فمن جهة، تسعى سوريا ما بعد الحرب إلى انتهاج سياسة خارجية مستقلة ومتوازنة تستفيد من علاقاتها مع جميع الأطراف بدلًا من الارتهان لمحور واحد، فإذا استمرت علاقتها الإيجابية مع موسكو دون انزلاق إلى التبعية، وفي الوقت نفسه نجحت في تطوير قنوات تواصل مع واشنطن وأوروبا، وتحسين علاقاتها مع القوى الإقليمية (كتركيا ودول الخليج ومصر)، فإن سوريا مرشحة لتصبح نقطة التقاء وموازنة في الشرق الأوسط، بدلًا من أن تكون ساحة صراع كما كانت. هذا التحول سيعزز مكانتها، ويكسبها نفوذًا دبلوماسيًّا يمكن توظيفه لخدمة إعادة الإعمار، وجذب الاستثمارات من شتى الاتجاهات. من جهة أخرى، سيكون على روسيا أيضًا التأقلم مع واقع أن سوريا الجديدة ليست “جمهورية موز”، أو حديقة خلفية لها؛ بل دولة ذات سيادة تقع في ملتقى ثلاث قارات، ومصالح دولية متشابكة. إذا أحسنت موسكو قراءة هذا الواقع، وعاملت دمشق على أنها شريك إستراتيجي يحترم مصالحه ومصالح الآخرين، فستضمن علاقة طويلة الأمد يكسب منها الطرفان: سوريا بالاستفادة من الخبرة والقوة الروسية عند الحاجة، وروسيا بالحفاظ على حضورها العسكري والسياسي في المنطقة من خلال بوابة سوريا المستقرة. أما إذا حاولت أي من العاصمتين فرض رؤيتها بالقوة على الأخرى مستقبلًا -كأن تتجاوز روسيا حدودها بدعم طرف داخل سوريا ضد آخر، أو أن تنقلب سوريا على التزاماتها فجأة تحت إغراءات خارجية- فإن أسس هذه الشراكة الجديدة قد تهتز. غير أن التجربة المريرة للسنوات الماضية علّمت الطرفين قيمة الحلول الوسط والنهج البراغماتي، وهو ما يعطي التفاؤل بأن مسار العلاقة سيظل متجهًا نحو التعميق الإيجابي.
في المحصلة، أعادت زيارة الشرع إلى موسكو رسم الخطوط العريضة لتحالف سوري روسي بحلّة جديدة، تحالف يقوم على الاعتراف المتبادل بأن مصالح الدولتين تتقاطع في الحفاظ على دولة سورية موحدة ومستقرة، وفي الوقت نفسه احترام خصوصية كل طرف: موسكو تحترم تطلعات السوريين بعد الثورة، ولا تختزل سوريا في شخص حاكم مستبد، ودمشق تقدّر مصالح روسيا الإستراتيجية، ولا تنكر دورها المهم في مرحلة التعافي. هذا التحول قد يثمر خلال السنوات القادمة شرق أوسط أكثر توازنًا؛ فسوريا التي استعادت عافيتها ستسهم في التخفيف من حدة الاستقطاب الإقليمي بين المحاور، وروسيا التي تعلمت دروس الماضي ستعمل كشريك بناء لا كطرف صراع. بالتأكيد سيبقى الطريق محفوفًا بالتحديات، لكن الأكيد أيضًا أن معادلة موسكو- دمشق لن تعود إلى ما كانت عليه قبل 2025. لقد وضعت هذه الزيارة أسس حقبة جديدة يتطلع فيها السوريون إلى دعم الأصدقاء دون الارتهان لهم، ويتطلع فيها الروس إلى حليف في دمشق يحفظ مصالحهم دون أن يلغي إرادة شعبه، وما بين التطلعين يُصاغ مستقبل العلاقة خطوة بخطوة، في توازن دقيق قد يصبح نموذجًا لعلاقات إقليمية جديدة، ويؤسس لتحولات جوهرية في سوريا والمنطقة على المديين المتوسط والبعيد.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير