مقالات المركز

تحليل للرؤية الإستراتيجية لمعهد تساريغراد

روسيا 2050.. صورة المستقبل


  • 9 يوليو 2025

شارك الموضوع

صدر عن معهد “تساريغراد” مؤخرًا تقرير إستراتيجي بعنوان روسيا 2050.. صورة المستقبل، يطرح رؤية شاملة لمستقبل روسيا بحلول منتصف القرن الواحد والعشرين. هذه الوثيقة، التي قُدمت في منتدى “مستقبل 2050” في يونيو (حزيران) 2025 بحضور شخصيات سياسية وفكرية بارزة، تمثل محاولة لرسم إستراتيجية كبرى لمختلف جوانب تطور روسيا في العقود المقبلة. يغطي التقرير مجالات السياسة والحكم، والاقتصاد والتنمية التقنية، والثقافة والتعليم، والديموغرافيا والسكان، والدفاع والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى القيم المجتمعية والهوية الوطنية.

تهدف هذه الدراسة إلى تقديم تحليل أكاديمي متزن لمضامين رؤية “روسيا 2050” كما طرحها معهد تساريغراد، وتسليط الضوء على أبرز محاورها وأهدافها. سنستعرض التحول المفاهيمي الذي يقترحه التقرير من نظام عالمي ليبرالي أحادي القطب إلى نظام ما بعد ليبرالي متعدد الأقطاب، إلى جانب التركيز على مفهوم روسيا بوصفها حضارة مستقلة ذات رسالة تاريخية خاصة متمايزة عن الغرب. كما سنحلل تأكيد أهمية الهوية الروسية، والقيم التقليدية، ودور الكنيسة الأرثوذكسية في حياة المجتمع والدولة، والقلق الذي يبديه التقرير حيال التدهور الديموغرافي، واقتراحاته لتحقيق “اختراق ديموغرافي” يعكس الاتجاه السكاني السلبي. بالإضافة إلى ذلك، سنتطرق إلى طموحات روسيا بأن تصبح قوة عالمية رائدة علميًّا وثقافيًّا، بما في ذلك خطط تطوير التكنولوجيا المتقدمة والعلوم، وكذلك نقد التقرير الضمني للنظام الليبرالي العالمي ومقارنته بالنماذج الأخرى، كالصين والولايات المتحدة. وفي النهاية، سنناقش الإستراتيجيات والسياسات المقترحة لبناء مستقبل روسي قوي ومستقر، مع تقييم عام لواقعية هذه الرؤية وتحدياتها المحتملة.

عالم ما بعد الليبرالية.. نحو نظام متعدد الأقطاب

يؤكد تقرير “روسيا 2050” أننا نشهد حاليًا تحولًا تاريخيًّا في النظام العالمي، يتمثل في انتهاء الحقبة الليبرالية الأحادية القطب التي هيمنت فيها الولايات المتحدة والغرب، وبزوغ عصر جديد متعدد المراكز والأقطاب. بحسب التقرير، وصل النموذج العالمي الليبرالي إلى طريق مسدود، وأصبح عاجزًا عن تقديم حلول لمشكلات الإنسانية، بل يُنظر إليه على أنه سبب لكثير من الأزمات الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية والنزاعات التي يشهدها العالم. يرى كاتبو الوثيقة أن الليبرالية في أقصى تطوراتها قادت إلى حالة “انحطاط وتفسخ وموت” رمزي -موت الإنسان والأسرة والمجتمع والدولة والثقافة التقليدية- من خلال نشر ما يعدّونه ثقافة متدهورة تشرعن “الانحرافات”، وتدمر مؤسسة الزواج والأسرة، وتفرض هيمنة الأقلية ونزعات ما بعد الحداثة (مثل ثقافة الإلغاء، والهوية الجندرية)، وتدفع نحو انهيار معدلات المواليد، واستبدال تدفقات الهجرة بالشعوب الأصيلة، فضلًا عن اضطهاد المسيحية والترويج العلني لما يصفه التقرير بـ”الشيطانية”، وتوظيف العلم لمحاولة إعادة صياغة الطبيعة البشرية. كل ذلك أدى -في نظر التقرير- إلى تهديد وجود الحضارة الإنسانية نفسها، وإلى حافة حروب عالمية كارثية.

في المقابل، يعلن التقرير نهاية حقبة “الليبرالية المعولمة” وهيمنة القطب الواحد، وبداية عصر جديد يتسم بتعدد الأقطاب، وبروز إمبراطوريات كبرى في منافسة صارمة. هذا التحول يراه المعهد عودة إلى “الوضع الطبيعي” للتاريخ بعد انحراف العصر الليبرالي. ويرى أن الشرارة التي سرّعت الانتقال إلى هذه الحقبة الجديدة كانت قرار روسيا مواجهة الهيمنة الغربية مباشرة عن طريق إطلاقها “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. فوفقًا للتقرير، شكّل ذلك نقطة فاصلة أنهت النظام الأحادي، وأثبتت دخول العالم مرحلة تحولات “تكتونية” ستحدد شكل النظام الدولي في القرن الواحد والعشرين.

التقرير ينظر إلى روسيا بوصفها المبادر، وقائد تيار “المنعطف المضاد لليبرالية” على الساحة الدولية. فبوقوفها في وجه الهيمنة الغربية دفاعًا عن سيادتها وسيادة الدول الأخرى، تخوض روسيا -كما يقول التقرير- معركة من أجل حق كل دولة في نهجها التنموي، وحضارتها الخاصة، ودينها وهويتها، وليس فقط معركة تخصها وحدها. وفي الغرب نفسه، يرى التقرير ملامح انعطاف ضد الليبرالية، يتجسد في ظاهرة صعود الشعبوية اليمينية والمحافظة. في الولايات المتحدة مثلًا، تُعد ظاهرة دونالد ترمب و”الترمبية رمزًا لهذا التحول؛ إذ يدعو التيار الترمبي إلى مراجعة جذرية لإستراتيجية الولايات المتحدة وأيديولوجيتها، بما في ذلك التخلي عن الأيديولوجية الليبرالية اليسارية لصالح قيم المحافظين والقوميين، والتخلي عن العولمة والمؤسسات فوق الوطنية لصالح الدولة القومية، وحماية الصناعة المحلية، ورفع شعار “أمريكا أولًا” بدلًا من رسالتها التقليدية لنشر الديمقراطية الغربية عالميًّا. كما يشمل هذا التيار رفض ما يسمى أيديولوجيا “الاستيقاظ” (Woke) ، بما فيها النسوية المتطرفة، وأجندة المثليين، ونظريات العرق الحديثة، والتعددية الثقافية غير المنضبطة، وتشجيع الهجرة، مع العودة إلى المؤسسات والقيم التقليدية، كالعائلة، والدين، والأخلاق العامة. ويتوقع التقرير أنه في حالة انتصار هذا التيار المحافظ في الولايات المتحدة، فإن النظام السياسي هناك سيتحول نحو حكم رئاسي مركّز وأقرب إلى نمط السلطوية، وسوف تشهد أوروبا أيضًا ثورة محافظة تطيح بالنخب العالمية الليبرالية الحاكمة لصالح قوى اليمين الشعبوي والمحافظ؛ مما سيعيد تشكيل الغرب نفسه على أسس جديدة.

وفي الشرق، يستشهد التقرير بتجربة الصين مثالًا بارزًا على صياغة رؤية ما بعد ليبرالية. “الحلم الصيني 2050 الذي وضعته القيادة الصينية عام 2017 كخطة ثلاثينية، يُذكر نموذجًا لإستراتيجية طويلة المدى تهدف إلى جعل الصين القوة العالمية المهيمنة بحلول منتصف القرن، فالصين -كما يشرح التقرير- تتبنى قومية صينية حضارية تطمح إلى إحياء الأمة الصينية، وبناء دولة اشتراكية ثقافية عظمى تهيمن سياسيًّا وتقنيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا في القرن الحالي. ويسلط التقرير الضوء على مبادرة الحزام والطريق” كمشروع جيواقتصادي صيني يجسد هذا الطموح، إذ توسع ليشمل نحو 140 دولة (تمثل مع الصين نحو 75% من سكان العالم ونصف ناتجه الاقتصادي) في شبكة مترابطة تعزز نفوذ بكين عالميًّا. كذلك يلفت إلى المفهوم الأيديولوجي الذي طرحه الرئيس شي جين بينغ عن مجتمع المصير المشترك للبشرية، الذي يقدم رؤية صينية لنظام عالمي بديل يرتكز على التعاون والتنمية المشتركة (وهو في رأي التقرير منافس للرؤية الليبرالية الغربية).

فضلًا عن ذلك، يلحظ التقرير بوادر انعطاف محافظ في العالم الإسلامي وبعض الدول الصاعدة، فهو يشير مثلًا إلى الهند تحت قيادة ناريندرا مودي، حيث يتولى السلطة حزب قومي هندوسي تقليدي (بهاراتيا جاناتا) يرفع شعار “القومية هي إلهامنا، والتنمية والإدارة الرشيدة هي هدفنا”، بما يعكس توجهًا مناهضًا لليبرالية الغربية أيضًا في المجتمع الهندي. هذه الأمثلة وغيرها يستخدمها معدّو “روسيا 2050” لتدعيم فكرتهم بأن العالم يتجه نحو مرحلة حضارية جديدة تتخلى فيها الأمم عن وصفات الليبرالية المعولمة، وتبحث عن نماذج تنبع من خصوصياتها التاريخية والقيمية. في خضم هذه المتغيرات، يضع التقرير روسيا في موقع القلب: قوة كبرى تنافح لاستعادة دورها الحضاري، وتقود معركة صياغة نظام عالمي أكثر عدلًا وتعددية، تقوم فيه “حفنة من الإمبراطوريات” (كما يسميها التقرير) بالتنافس والتعاون على أسس توازن القوى بدلًا من الهيمنة الأحادية.

روسيا بوصفها حضارة مستقلة ومتميزة عن الغرب

ينطلق التقرير من فرضية أساسية هي أن روسيا ليست مجرد دولة قومية بالمعنى الغربي، بل هي “دولة- حضارة” فريدة قائمة بذاتها، ويفرد نصيبًا وافرًا لتأكيد الهوية الحضارية الخاصة لروسيا، بوصفها كيانًا تاريخيًّا وثقافيًّا وروحيًّا مختلفًا جذريًّا عن الحضارة الغربية الحديثة. يستشهد التقرير بعبارة شهيرة للأديب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي: “روسيا… هناك شيء خاص ومستقل تمامًا بشأنها، هي ليست كأوروبا ولا تشبهها في أي شيء جدي، مشددًا على أن روسيا ليست مجرد بلد، بل هي حقًا حضارة مستقلة”. ويذكّر أيضًا بتصريحات الرئيس فلاديمير بوتين نفسه التي وصف فيها روسيا بأنها حضارة منفصلة بحق، ذات طريق مميز.

وفقًا للرؤية المقدمة، تمتلك روسيا فرادة حضارية مستمدة من تاريخها الألفي، وتراثها الديني والثقافي، وقيمها الروحية والأخلاقية، فضلًا عن نمط شخصيتها القومية، وجغرافيتها الشاسعة المتنوعة. كل ذلك يمنحها ملامح تختلف عن أي من الحضارات الأخرى -سواء الغربية أو الشرقية؛ ومن ثم يؤكد التقرير أن على روسيا أن تنتهج دربها الخاص في التطور، دربًا ينبع من خصوصيتها الحضارية، ولا يكون مجرد تقليد للغرب أو انصياع لنماذج مستوردة. ويشدد أن إدراك الروس لهذه الخصوصية ينبغي أن يرافقه قطع التبعية للأيديولوجيات والقيم الأجنبية التي فُرضت في عهود سابقة، والتركيز عوضًا عن ذلك على صياغة نموذج سيادي للتنمية يستند إلى التراث الروسي، وإلى خبرات التاريخ الوطني الطويل.

ويتضمن التقرير دعوة صريحة إلى ترسيخ هذه الرؤية الحضارية في صلب هوية الدولة الروسية ودستورها، فهو يقترح صياغة فكرة وطنية” روسية جديدة تكون بمنزلة الإطار الفكري والأيديولوجي الجامع لإستراتيجية النهضة. هذه الفكرة الوطنية يجب -من وجهة نظره- أن تُدرج رسميًّا في الدستور والقوانين كأساس موجه لسياسات الدولة. ويحدد التقرير جملة من المرتكزات الرئيسة لهذه الأيديولوجية الوطنية المقترحة، من أبرزها:

  • رسالة روحية وتاريخية خاصة: يرى التقرير أن الله أناط بروسيا مهمة روحية وحضارية فريدة في العالم. ويستعين بمفهوم لاهوتي من التراث المسيحي الروسي هو مفهوم “الكاتيخون” (Katechon) أو “القوة الكابحة”. هذا المفهوم مأخوذ من الأدبيات المسيحية (رسائل بولس الرسول)، ويشير إلى القوة أو الكيان الذي أقامه الله لـ”كبح” قوى الشر والفوضى في العالم، ومنع ظهور الشر المطلق (المتمثل في معتقدات مسيحية بظهور المُضاد للمسيح في آخر الزمان). يوظف التقرير هذه الفكرة ليرسم دورًا شبه مقدس لروسيا؛ فهي -في نظره- المعوقة لانتشار الشر العالمي، والحافظة للقيم الإلهية في التاريخ. ويرى أن المعنى الأسمى لوجود روسيا هو اضطلاعها بدور “الكاتيخون”؛ أي حامية العالم من الانهيار الأخلاقي والروحي، ومن هيمنة قوى الشر. هذا الدور مرتبط أيضًا بفكرة روما الثالثة” التي يلمّح إليها التقرير؛ فالتاريخ الروسي أضفى على موسكو لقب “روما الثالثة” بعد سقوط روما القسطنطينية، بمعنى أن روسيا ورثت الإرث الأرثوذكسي الإمبراطوري، وهي الحاملة لواء الدفاع عن الإيمان والقيم المسيحية في العالم.
  • السيادة الكاملة: يشدد التقرير على أن السيادة -بمعناها الشامل- هي حجر الزاوية في فكرة روسيا المستقبل. والمقصود بسيادة روسيا هنا ليس فقط الاستقلال السياسي والعسكري عن هيمنة أي قوة أجنبية؛ بل أيضًا السيادة الثقافية والحضارية والاقتصادية والتكنولوجية، فلن تكون روسيا حرة حقًّا -كما يجادل التقرير- ما لم تتحرر من أي تبعية للغرب أو الشرق في تحديد هويتها ومسارها. وينطلق من دروس التاريخ الروسي ليؤكد أن أي سلطة أو مرجعية تُحكم من الخارج على بلادهم مصيرها الفشل؛ لذلك لا بد أن تكون كل مصادر السلطة -روحية أو فكرية أو اقتصادية- منبعها الداخل الروسي، وخاضعة للإرادة الوطنية وحدها، دون إملاءات أو إكراه من قوى أجنبية. حماية هذه السيادة الشاملة ينبغي أن تصبح مهمة عليا للدولة تتغلغل في جميع مجالات السياسات العامة.
  • الأرثوذكسية بوصفها نواة روحية: يولي التقرير مكانة محورية للكنيسة الأرثوذكسية الروسية وتراثها في صياغة هوية روسيا القادمة، إذ يرى الإيمان الأرثوذكسي “الجوهر الروحي” للهوية الروسية والحضارية، ويذهب إلى أن اعتناق الروس للمسيحية الأرثوذكسية منذ أكثر من ألف عام هو ما شكّل مصير روسيا الفريد، وأعطى دولتها وثقافتها طابعها المميز، ودورها الخاص في التاريخ العالمي؛ لذلك يرى واضعو التقرير أن الحفاظ على الأرثوذكسية وتعزيز حضورها هو عنصر لا غنى عنه لتحقيق النهضة المرجوة، فهم يتصورون روسيا المستقبل دولة تستلهم المبادئ المسيحية في قيمها وسياساتها، وتحمي الكنيسة والإيمان المسيحي في الداخل والخارج، بل يدعو التقرير إلى هدف تاريخي كبير يتمثل في أن تستعيد الكنيسة الروسية مكانتها بوصفها قائدة للعالم الأرثوذكسي، مع نقل كرسي البطريركية المسكونية إلى موسكو بدلًا من القسطنطينية، لتصبح موسكو فعليًّا عاصمة الأرثوذكسية العالمية. هذا التصور ينسجم مع فكرة قيام روسيا بدور حامي المسيحيين في العالم أجمع، وخاصة في ظل ما يراه التقرير اضطهادًا وتفكيكًا للمسيحية في الغرب المعاصر.
  • إحياء فكرة الإمبراطورية والخدمة: تحت مفهوم “الدولة- الحضارة”، يبرز أيضًا تأكيد التقرير البعد الإمبراطوري للدولة الروسية. والمقصود هنا ليس بالضرورة الإمبراطورية بمعناها الاستعماري؛ بل مكانة روسيا بوصفها قوة عظمى مركزية لا يمكن أن تكون “صغيرة أو ضعيفة” إذا أرادت الاضطلاع بمهمتها التاريخية. يشير التقرير إلى أنه كما كانت روما الأولى والثانية دولتين عظميين، فإن روسيا بوصفها روما الثالثة يجب أن تكون إمبراطورية كبرى أو “دولة للدول”. ومن هذا المنطلق، يرفض -صراحة- أي توجه انعزالي أو تقزيم لطموحات روسيا، بل على العكس، يدعو إلى تمكينها كي تؤدي دورًا قياديًّا عالميًّا. وفي السياق نفسه، يُبرز التقرير مبدأ “الخدمة” مقابل الفردية؛ فهو ينتقد بشدة الفردانية الليبرالية ويراها نقيضًا للقيم الروسية الأصيلة، ويطرح -بدلًا منها- أخلاقيات الواجب، وخدمة الدولة والمجتمع كفضائل عليا. يصف الدولة الروسية المنشودة بأنها نوع من “الإمبراطورية الأرثوذكسية” التي تقوم على أعمدة أخلاقية، هي الواجب، والشرف، وخدمة الصالح العام، ويجب أن يحل مفهوم خدمة الدولة والأسرة والوطن محل الركيزة الليبرالية التي تمجد الحقوق الفردية المطلقة. في هذا الإطار، يشدد التقرير على قيم مثل الولاء، والتضحية، والعمل الصادق بوصفها قيمًا ينبغي إحياؤها، وتكريسها مجتمعيًّا.
  • التضامن والعدالة الاجتماعية: يُلاحظ في الرؤية المطروحة تأكيد بناء مجتمع متضامن ومتماسك يخلو من الانقسامات الطبقية الحادة، إذ يجادل التقرير أن الدولة الروسية لن تستطيع النهوض بقوتها الكاملة ما لم يكن نسيج المجتمع موحدًا ومرتكزًا على الثقة والتعاون بين جميع فئاته، الأغنياء والفقراء، النخب والعامة، المركز والأطراف، وينتقد بشدة كل النظريات التي تؤجج الصراعات الداخلية (مثل الصراع الطبقي أو الإثني)، معتبرًا أنها مستوردة ومدمرة للمجتمع)، ويشير تحديدًا إلى تجربة الثورة البلشفية والحرب الأهلية بوصفها كارثة أضعفت روسيا عقودًا. من جهة أخرى، يرى أن العدالة الاجتماعية شرط لازم لتحقيق التضامن. والمقصود بالعدالة هنا تولي الدولة مسؤولية ضمان رفاه الشعب، وتحسين مستوى معيشته، ومعالجة الآثار الطويلة للحروب والاضطرابات التي عاناها الروس في القرن العشرين. ويشدد التقرير على ضرورة رفع معدلات المواليد، وتحفيز الأسر الكبيرة كجزء من مفهوم العدالة، إذ يرى أن توفير الظروف المناسبة للأسرة الروسية وتنميتها هدف تنموي وأخلاقي محوري.
  • المركزية والوحدة السياسية: ينتقد التقرير النموذج الفيدرالي الحالي لروسيا، معتبرًا إياه إرثًا فرضه البلاشفة والليبراليون لإضعاف روسيا الإمبراطورية، ويدعو صراحة إلى الانتقال نحو نظام وحدوي مركزي (unitary state) تُلغى فيه أشكال الحكم الذاتي الإقليمي التي تمنح بعض الجمهوريات صلاحيات سيادية ضمن الاتحاد الروسي. حسب رأيه، لا بد من وجود “عمود فقري” موحد للدولة، مع تسلسل هرمي صارم يمكّن من إدارة فعّالة، واتخاذ قرارات سريعة في بلد مترامي الأطراف. ويقترح التقرير إعادة تقسيم البلاد إداريًّا إلى مقاطعات، أو وحدات إدارية خاضعة تمامًا لسلطة المركز، دون مستويات حكم ذاتي عرقي أو محلي يمكن أن تهدد وحدة الدولة. كما يستشهد بتجربة الإمبراطورية الروسية التاريخية ليدعم فكرة أن ترسيخ الوحدة المركزية كان أحد أسرار قوة روسيا، في حين أدت سياسات مثل منح الاستقلالية لجمهوريات الاتحاد السوفيتي إلى إضعاف الكيان الروسي، وتمهيد الطريق لانفصال تلك الجمهوريات لاحقًا.

هذه النقاط تشكل جزءًا من الفكرة الوطنية الجديدة التي يطرحها التقرير إطارًا جامعًا، ويدعو أن تُتَبنَّى هذه المرتكزات أيديولوجيًّا ودستوريًّا بحيث تصبح موجّهة لسياسات الدولة على المدى الطويل. على سبيل المثال، يطالب أن ينص الدستور على هوية روسيا الحضارية، ودورها الرسالي، وعلى مبادئ السيادة والتقاليد الأرثوذكسية، والتضامن الاجتماعي، والوحدة الوطنية بوصفها قيمًا عليا، ويرى أن هذه الصحوة الأيديولوجية ضرورية لإطلاق مشروع النهضة في كل المجالات الأخرى.

التخلي عن الليبرالية واعتماد الحكم القوي

 الركائز المفصلية التي يشدد عليها التقرير أن روسيا لن تنجح في القرن الواحد والعشرين ما لم تتخلَّ -نهائيًّا- عن النموذج الليبرالي الغربي في الحكم والتحديث، إذ يقدم تاريخ روسيا الحديث -وفق قراءة التقرير- دروسًا واضحة بأن الديمقراطية الليبرالية كانت وبالًا على البلاد كلما جُربت، فهو يستذكر أن أول محاولة لتبني الليبرالية السياسية (حكومة الأمير لفوف والكرنسكي المؤقتة عام 1917) أدت إلى فوضى عارمة وضعت روسيا على شفا الانهيار قبل أن يستولي البلاشفة على السلطة. كذلك يفرد مساحة لنقد إصلاحات ميخائيل غورباتشوف الليبرالية في الثمانينيات، معتبرًا أنها أسهمت في تفكيك الاتحاد السوفيتي. كما يشير إلى حقبة التسعينيات وبدايات الألفية عندما حاولت روسيا تبني اقتصاد السوق الحرة والديمقراطية التعددية على الطريقة الغربية، معتبرًا أنها مرحلة ركود وتراجع خسر فيها البلد كثيرًا من قدراته (حيث يذكر التقرير مثلًا أن الناتج المحلي الإجمالي لروسيا عام 2006 فقط عاد ليعادل مستواه عام 1991 بعد سنوات طويلة من الانخفاض، وأن روسيا بقيت خلال التسعينيات حتى 2022 متأخرة جدًّا في النمو مقارنة بالصين التي حققت طفرات كبيرة).

في المقابل، يجادل التقرير أن الحقب التي شهدت ازدهار روسيا وقوتها كانت تلك التي تمتعت فيها بحكم مركزي قوي وسلطة ذات طابع “أوتوقراطي”، ويستعرض عدة أمثلة تاريخية لدعم هذه الفكرة: يشير إلى عهود القيصر ألكسندر الثالث (1881- 1894) الذي يسمى “العقد الذهبي للتصنيع الروسي”، حيث تضاعف الإنتاج الصناعي، ونما الاقتصاد بمعدلات 5- 9% سنويًّا، في ظل سياسة محافظة وحماية صناعية قادها القيصر شخصيًّا. كذلك يستشهد بعهد ستالين (1929- 1953)، حيث حقق الاتحاد السوفيتي نموًّا اقتصاديًّا غير مسبوق (14 ضعفًا في حجم الاقتصاد، بمتوسط نمو سنوي قرب 14%، باستثناء سنوات الحرب العالمية)، وقفز ليصبح ثاني أقوى اقتصاد عالميًّا، وشهد طفرة في نمو السكان (ازدياد نحو 46 مليون نسمة رغم الحرب، وكان يمكن أن يكون 100 مليون لولا خسائر الحرب). هذه الإنجازات -بحسب التقرير- لم تكن لتتحقق إلا عن طريق نظام حكم سلطوي مركزي، قادر على حشد الموارد وتوجيهها نحو أهداف كبرى، بدلًا من ترك الأمور لقوى السوق، أو نزاعات الأحزاب.

من هنا، يدعو تقرير “روسيا 2050” إلى تأسيس نموذج حكم قوي ومركزي شرطًا للنهضة، فهو يصرح بأن روسيا بحاجة إلى “عمودية صارمة في السلطة التنفيذية، يكون على رأسها قائد للدولة بصلاحيات واسعة جدًّا تمكنه من تنفيذ الإصلاحات الضرورية دون معوقات بيروقراطية أو معارضة داخلية مشلولة، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، باقتراح أن يكون رئيس الدولة مزودًا بصلاحية البقاء في الحكم مدى الحياة (أو على الأقل لولاية غير محدودة بزمن)، مع حقه في تسمية خلف له لضمان الاستقرار والاستمرار في الرؤية الإستراتيجية. هذا النموذج يقترب من أن يكون استعادة -بطريقة ما- للنظام القيصري/ السوفيتي (الرئيس القوي أو القيصر الأبدي)، مع إضفاء طابع قدسي على المنصب. بالفعل يشير التقرير إلى أنه بوعي الشعب الروسي فإن رأس الدولة الذي يقود “الإمبراطورية- الكاتيخون” يكتسب هالة قدسية، ويصبح رمزًا لوحدة الوطن، واستمرار الدولة؛ ولذلك فإن تمكينه الكامل يعدّ أمرًا إيجابيًّا لضمان ولاء الشعب، والتفافه حول القيادة في مسيرة النهضة.

كذلك، فإن إصلاح بنية الحكم لتعمل كجسم واحد متجانس هو عنصر أساسي في هذه الرؤية. يدعو التقرير إلى أن تعمل كل مؤسسات الدولة -التنفيذية والتشريعية والقضائية- بانسجام تحت قيادة مركزية موحدة، ومنهج واحد، أشبه ما يكون بشركة كبرى، أو “حكومة- شركة” تمضي وفق خطة شاملة وأهداف موحدة”. ويقترح لتحقيق ذلك استحداث آليات تنسيق قوية، وربط خطط جميع الوزارات والمحافظات برؤية إستراتيجية عليا (هي “صورة المستقبل 2050” نفسها). بهذا الأسلوب، يأمل التقرير تجاوز عيوب النظم الديمقراطية التعددية، حيث تتنافس الأحزاب، ويعرقل بعضها سياسات بعض، ويرى أن روسيا لا تملك رفاهية هدر الوقت في صراعات داخلية كهذه خلال سباقها المصيري في القرن الحالي.

باختصار، يقدم التقرير نموذج حكم بديلًا يجمع السلطة المركزية المستقرة الطويلة الأمد، والتوجه الأيديولوجي الواضح، والوحدة السياسية والتنفيذية، والتعبئة الشاملة لكل قوى الأمة خلف مشروع نهضة واحد. هذا النموذج يشبه ما قد يسميه البعض “الدولة التنموية السلطوية”، ومعدّو التقرير لا يخفون إعجابهم الضمني ببعض جوانب التجربة الصينية في هذا الصدد (القيادة المستمرة، والخطط الطويلة المدى، وتعبئة الموارد تحت إدارة مركزية). كما أنهم يعتقدون أن اتجاه العالم نفسه نحو حكم الأكثرية القوية (مثالهم فوز تيارات اليمين في الغرب، وتحوّل الصين إلى دولة حزبية قومية، وحتى احتمال تصاعد النمط “الترمبي” السلطوي في الولايات المتحدة) يجعل من الضروري أن تركب روسيا الموجة نفسها إن أرادت المنافسة وعدم التخلف، فالديمقراطية الليبرالية -في نظرهم- هي ترف نظري لا طائل من ورائه في عصر صراع الإمبراطوريات، بل إنها كانت سببًا في ضعف روسيا سابقًا؛ لذا يجب أن تُستبدَل بها ديمقراطية من نوع آخر -إن صح التعبير- قائمة على وحدة إرادة الأمة خلف قيادة قوية، وأهداف كبرى.

بطبيعة الحال، هذا التصور يثير تساؤلات ونقاشات عن مدى توافقه مع الحريات السياسية، وحقوق الأقاليم والقوميات داخل روسيا، لكنه -في منطق التقرير- يبدو الخيار الوحيد لتحقيق “الاختراق” المطلوب، ونقل روسيا إلى مصاف القوى الأولى عالميًّا.

التحدي الديموغرافي نحو “اختراق ديموغرافي” وإنعاش الأسرة

يُبرز تقرير “روسيا 2050” الأزمة الديموغرافية بوصفها أخطر تهديد داخلي يواجه روسيا في العقود المقبلة. فبحسب البيانات الواردة، عانت روسيا في السنوات الأخيرة انخفاضًا حادًا في عدد السكان؛ نتيجة ارتفاع الوفيات وانخفاض المواليد، تفاقم بفعل جائحة كوفيد-19 وتداعياتها. ويشير التقرير إلى أنه بين عامي 2020 و2024 وحدهما توفي نحو 10 ملايين شخص في روسيا، فيما بلغ العجز الطبيعي (زيادة الوفيات على المواليد) نحو 3.4 مليون نسمة، وهذه الأرقام الكبيرة خلال فترة قصيرة نبهت صانعي الإستراتيجية أن البلاد إذا استمرت على هذا المنوال فستواجه كارثة سكانية تهدد اقتصادها، وقدرتها الدفاعية، وتوازنها الاجتماعي.

وعليه، يفرد التقرير فصلًا بعنوان الاختراق الديموغرافي، يطرح فيه حزمة من الإجراءات الجذرية لمعالجة الأزمة السكانية، وقلب الاتجاهات السلبية. ينطلق هذا الفصل من فرضية أن التحدي السكاني ليس مجرد مسألة رقمية؛ بل هو قضية وجودية لمستقبل روسيا بوصفها قوة كبرى، فإذا تقلص عدد السكان كثيرًا، وفشلت البلاد في تجديد أجيالها، ستصبح -بحسب التقرير- على هامش العالم اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا، وربما تتحول إلى مجرد “ملحق مواد خام” للقوى العظمى الأخرى في منتصف القرن؛ لذا يتطلب الأمر قفزة ولادية، وإعادة هيكلة شاملة للسياسات السكانية والاجتماعية بما يضمن وجود شعب روسي كبير العدد، وشاب، وحيوي، بحلول 2050.

الأسرة محورًا للمجتمع

الإستراتيجية المقترحة لتحقيق هذا “الاختراق الديموغرافي” ترتكز -أولًا وقبل كل شيء- على إعادة الاعتبار لمؤسسة الأسرة التقليدية، وتشجيع الإنجاب بوصفه قيمة وطنية عليا. يرى التقرير أن التغيرات الثقافية والاجتماعية في العقود الماضية أضعفت الأسرة الروسية، مع ارتفاع نسب الطلاق (يوضح أن 90% من حالات الزواج الحالية تنتهي بالطلاق، وفقًا لإحصاءات مقلقة يوردها)، وتراجع معدلات الزواج، وازدياد ظاهرة الأسرة وحيدة الوالد (الأم العازبة التي تربي طفلًا واحدًا أصبحت “النموذج السائد” حسب نص التقرير)؛ لذا يدعو -صراحة- إلى ترسيخ ثقافة جديدة تجعل تكوين الأسرة وإنجاب الأطفال هدفًا طبيعيًّا ومبكرًا للشباب.

في هذا السياق، يطرح التقرير سلسلة من السياسات ضمن منظومة يُسميها الأسرة والمحورية الأسرية”، منها مثلًا:

  • إعادة صياغة المناهج التعليمية والتربوية منذ مرحلة المدرسة لترسيخ مفهوم الأسرة: يقترح أن يصبح إعداد الفتى والفتاة لدور الزوج/ الزوجة، والأبوة/ الأمومة، أحد أهداف التربية في المدارس الثانوية، وهذا أمر لافت؛ لأنه يخالف النهج المعاصر الذي يركز على الفرد وتحقيقه الذاتي؛ وهنا يريدون توجيه الشباب منذ نعومة أظفارهم نحو اعتبار الزواج وتكوين أسرة جزءًا من تحقيق الذات.
  • يدعو التقرير إلى إدخال مقررات دراسية جديدة في المدارس، مثل علم الأسرة”، و”أسس الحياة الزوجية الأخلاقية”، و”التدبير المنزلي”. كما يقترح الفصل بين البنين والبنات في التعليم المدرسي لضمان بيئة تعليمية أكثر ملاءمة -في رأيه- للنمو السليم (وهذا يعكس توجهًا محافظًا يرى أن التعليم المختلط ربما يصرف الشباب عن الجدية، ويشجع العلاقات المبكرة غير المراقبة). كذلك يشدد على أن المناهج المخصصة للفتيات ينبغي أن تتضمن مواد إضافية، مثل مبادئ علم التربية، وطب الأطفال، لتكون الفتاة مهيأة عمليًّا ونفسيًّا لأداء دور الأم والمربية مستقبلًا.
  • أما على صعيد السياسات الشبابية العامة، فيدعو التقرير إلى تسريع عملية بلوغ الشباب مراحل النضج والمسؤولية الاجتماعية، إذ يطمح إلى أن يحصل معظم الشباب على تعليم مهني أو جامعي، ويبدؤوا العمل بحلول سن 18، وأن يتزوجوا وينجبوا طفلهم الأول في سن 20 تقريبًا. لتحقيق ذلك، يقترح إعادة النظر في تعريف “الشباب” و”الأسرة الشابة” في القوانين الروسية بحيث يُخفض سقف العمر المشمول بهذه الفئات إلى 28 سنة مثلًا. الفكرة هنا أنه لا ينبغي اعتبار الشخص “شابًا” حتى منتصف الثلاثينات -كما هي الحال في بعض الأدبيات- بل المطلوب تشجيع تحمل المسؤولية في مقتبل العشرينيات.
  • يؤكد التقرير كذلك ضرورة تحسين الظروف المادية والمعيشية التي تشجع على الإنجاب، فهو ينتقد السياسات الحكومية الراهنة التي يراها غير كافية، مثل تحديد مستهدفات لمعدل الخصوبة بحدود 1.7 أو 1.8 بحلول 2030- 2035 (وهو أقل من معدل 2.1 اللازم للإحلال السكاني الطبيعي). وبدلًا من تلك الأهداف المتواضعة، يقترح وضع هدف رفع معدل الخصوبة الكلي إلى ما فوق 3 مواليد لكل امرأة على المدى الطويل، وهو تغيير جذري يستلزم تعبئة وطنية كبرى.
  • ويشجع التقرير ضمنًا على إعلاء قيمة الأمومة ودور المرأة بوصفها راعية للأسرة، حتى إنه يستشهد في أحد المواضع بتعاليم الكنيسة الأرثوذكسية بأن “المرأة تخلص بالولادة” (في إشارة إلى مقولة من العهد الجديد)، معتبرًا أن نساء روسيا القيصرية كنّ يجدن غاية حياتهن في الأمومة”؛ ومن ثم ينبغي -وفق وجهة نظره- إعادة ترسيخ هذه النظرة الإيجابية للأمومة المتعددة الأطفال بوصفها رسالة نبيلة للمرأة، وليست عبئًا أو عائقًا أمام تحقيق الذات.

لا شك أن هذه التصورات تعني تحولًا ثقافيًّا كبيرًا في المجتمع الروسي إذا ما طُبقت، فهي تتطلب تغيير أنماط السلوك السائدة بين الشباب، وإعادة تشكيل أولوياتهم في الحياة. والتقرير واعٍ لذلك؛ لذا يدعو إلى تعبئة شاملة لجميع أدوات التنشئة الاجتماعية -من المدرسة والإعلام إلى الكنيسة والمؤسسات المجتمعية- لإحداث “ثورة قيمية” تعيد الأسرة إلى مركز الصدارة.

دعم مالي وإسكاني غير مسبوق للأسر

إلى جانب التوجيه القيمي والثقافي، يتضمن “الاختراق الديموغرافي” المقترح إجراءات اقتصادية واجتماعية سخية لتحفيز تكوين الأسر الكبيرة، ويدعو التقرير الدولة إلى تقديم دعم مالي قوي لكل مولود جديد، وتشجيع الأسر على إنجاب الطفل الثالث والرابع عبر حوافز متنوعة: منح مالية مباشرة، إعفاءات ضريبية كبيرة، توفير خدمات مجانية أو مدعومة للأمهات والأطفال (كالرعاية الصحية ورياض الأطفال). ويقترح مثلًا توسيع برامج رأس المال الأمومي” (وهي معونات تقدمها روسيا للأسرة عند إنجاب الأطفال)، وزيادة قيمتها لتكون عامل جذب للشباب كي ينجبوا باكرًا.

كما ينتقد الاعتماد على الهجرة الأجنبية لتعويض النقص السكاني، معتبرًا أنه حل قصير المدى، وله تبعات سلبية ثقافيًّا واجتماعيًّا (وهذا سنفصله لاحقًا في قسم سياسة الهجرة). عوضًا عن ذلك، يكرر التقرير أن الحل الجذري هو رفع معدلات المواليد بين السكان الروس أنفسهم، والحفاظ على التركيبة السكانية التاريخية لروسيا.

جانب آخر مهم يتطرق إليه التقرير هو سياسة الإسكان، ودورها في تشجيع الأسر، إذ يرى أن نمط السكن في المدن الروسية -الشقق الصغيرة المكدسة في مبانٍ عالية- يشكل أحد العوائق أمام رغبة الناس في إنجاب أطفال أكثر، وكذلك يدفعهم إلى الهجرة نحو المدن الكبرى، مسببًا تركزًا سكانيًّا ضارًّا؛ ومن هنا جاء طرح مبادرة بيت لكل أسرة”. هذه الفكرة مستوحاة من تجربة ما بعد الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة، حين عاد الجنود ومُنحوا قروضًا وتعليمًا ضمن قانون معروف باسم G.I. Bill ؛ مما أدى إلى طفرة في بناء ضواحي المدن، وانتشار المنازل العائلية الخاصة، ورافق ذلك ارتفاع كبير في معدل المواليد، فيما عرف بظاهرة “جيل الطفرة”(Baby Boom) . يدرس التقرير بتعمق هذا المثال ويراه نموذجًا يُحتذى، داعيًا روسيا إلى تنفيذ برنامج إسكان قومي ضخم يهدف إلى تمكين كل عائلة شابة من امتلاك منزل فردي بحديقة خلال العقود المقبلة.

وفق هذا التصور، ستركز الحكومة على بناء مساكن أرضية في الضواحي والمناطق الريفية، وتوفير أراضٍ وقروض ميسرة للأسر لكي تنتقل من الشقق الضيقة في المدن إلى بيوت واسعة في التجمعات الصغيرة، أو في أطراف المدن. هذا الانتقال سيحقق أهدافًا مزدوجة؛ فمن ناحية، يشجع الأزواج على إنجاب مزيد من الأطفال عندما تتوافر لهم مساحة معيشية أفضل، وشعور بالاستقرار في ملكية خاصة. ومن ناحية أخرى، يكبح النزوح السكاني نحو المدن الكبرى، ويعيد توزيع السكان على مساحة البلاد الشاسعة، خاصة في المناطق التي تعاني تناقصًا مقلقًا في الكثافة السكانية، مثل سيبيريا، والشرق الأقصى الروسي. يشير التقرير إلى أن استمرار الاتجاهات الحالية سيجعل أكثر من 90% من سكان روسيا يتركزون في 25 تجمعًا حضريًّا ضخمًا بحلول منتصف القرن، فيما تصبح مناطق واسعة شبه فارغة، وهذا خطر إستراتيجي؛ لذا، فإن مشروع “بيت لكل أسرة”، مع ما يسميه التقرير السعي إلى “روسيا بطابق واحد” (في إشارة إلى المنازل المنفردة مقابل العمارات متعددة الطوابق) هو رؤية لتحويل نمط الحياة الروسي جذريًّا نحو الضواحي المزدهرة بالحدائق والأطفال، بدلًا من العمارات الأسمنتية المكتظة.

بالطبع، يدرك واضعو التقرير أن هذه المشروعات طموحة جدًّا، وتتطلب موارد ضخمة، وتخطيطًا بعيد المدى؛ لذا فهم يربطون تنفيذها بوجود الإرادة السياسية ضمن النموذج الحكومي القوي الذي تحدثنا عنه. كما يرون أن التجربة الأمريكية في الخمسينيات أثبتت إمكانية نجاح هذه التحولات بدعم الدولة. وفعليًّا، يُدرج التقرير برنامج “بيت لكل أسرة” كإحدى قاطرات النمو الاقتصادي الأساسية التي ينبغي إطلاقها بين عامي 2025 و2050، مبينًا أنه سينعش قطاعات كثيرة (كالبناء، وصناعة مواد البناء، والإسكان، والنقل)، ويولد وظائف كثيرة؛ مما يدفع عجلة الاقتصاد بالتوازي، مع تحقيق الأهداف الديموغرافية والاجتماعية.

سيناريو الانتصار أو الهزيمة ديموغرافيًّا

يلفت التقرير النظر إلى أنه بدون هذه التدخلات الجذرية، قد تواجه روسيا سيناريو قاتمًا بحلول 2050. فهم أجروا محاكاة تستشرف ما قد يحدث إن استمرت السياسات الحالية “على حالها”، ولم يتحقق التحول المنشود. من نتائج هذه المحاكاة:

  • انخفاض عدد السكان “الأساسيين” لروسيا إلى أقل من 120 مليون نسمة (مقارنة بنحو 146 مليون حاليًا)؛ مما يعني تقلص الكتلة البشرية للأمة تقلصًا حادًّا.
  • تفاقم التفكك الأسري بحيث لا يكون متزوجًا سوى ربع البالغين، وتصل معدلات الطلاق إلى 90%، وتصبح غالبية الأسر من فرد واحد، أو والد وحيد مع طفل، بتراجع معدل الخصوبة الكلي إلى مستويات خطيرة (1.2- 1.3 مولود لكل امرأة).
  • تركز السكان بنسبة تفوق 90% في المدن، مع إفراغ الأرياف والمناطق النائية. يتوقع التقرير أنه وفق هذا السيناريو ستكاد بعض الأقاليم الشاسعة (كشرق سيبيريا والشرق الأقصى) تخلو من السكان، مع انخفاض الكثافة السكانية هناك إلى أقل من شخص واحد في الكيلومتر المربع؛ مما يهدد سلامة الأراضي الروسية، وأمن حدودها.
  • الاعتماد المكثف على الهجرة من آسيا الوسطى والقوقاز لملء فجوات سوق العمل، بحيث يشكل المهاجرون نسبة 20- 30% من سكان مدن روسية كبرى، وهذا سيؤدي إلى تغير في التركيبة الإثنية والدينية للبلاد؛ إذ يتوقع السيناريو ارتفاع نسبة المسلمين والناطقين بلغات أجنبية (كالطاجيكية، والأوزبكية، والأذرية) في المدن الروسية، وتكوين “جزر ثقافية” ومناطق نفوذ لجاليات المهاجرين داخل المدن. ويحذر التقرير من أسلمة تدريجية” للسكان الروس الأصليين في بعض المناطق نتيجة الاحتكاك السكاني والتغيرات الثقافية، إلى جانب انتشار الجريمة المنظمة والتطرف الديني في أوساط بعض تجمعات المهاجرين.
  • على الصعيد الاقتصادي، يتوقع السيناريو المتشائم نقصًا في قوة العمل الماهرة؛ مما يبطئ عجلة التطور التكنولوجي. كما أن الأتمتة والرقمنة ستؤدي إلى تسريح كثير من الموظفين من ذوي التعليم المتوسط؛ مما قد يرفع البطالة بين السكان الروس، في حين يحتل المهاجرون الأعمال اليدوية والخدمية.
  • استفحال المشكلات في المدن الكبرى (مثل موسكو وبطرسبورغ)، حيث يشير إلى أزمات بيئية وصحية واجتماعية قد تتفاقم: تلوث، وازدحام، وبطالة، وتراجع جودة الحياة، وربما اضطرابات اجتماعية.

يستخدم التقرير هذه الصورة السوداوية ليؤكد إلحاحية التدخل السريع، ففي رأيه، فإن الربع الثاني من القرن (2025- 2050) سيكون حاسمًا: إما أن تنجح روسيا في وقف الانحدار الديموغرافي، وتحقيق انعطاف إيجابي نحو نمو سكاني واستقرار أسري، وإما أن تجد نفسها في وضع “هزيمة داخلية” إن صح التعبير، بغض النظر عن قوتها العسكرية أو مواردها الطبيعية؛ ولهذا وُضعت الإستراتيجية الديموغرافية المقترحة كإحدى أولى الأولويات الوطنية في رؤية “روسيا 2050”.

إصلاح التربية والثقافة.. بناء جيل جديد بهوية جديدة

إلى جانب محورية الأسرة، يشدد تقرير “روسيا 2050” على ضرورة إعادة بناء المنظومة التعليمية والثقافية في البلاد لتتوافق مع الرؤية الحضارية والقيمية الجديدة، فالتعليم والثقافة في نظر معدي التقرير هما أدوات تشكيل الوعي الجمعي، ومن خلالهما يمكن إحداث التحول المنشود في عقلية الشعب الروسي وقيمه وسلوكه عبر الأجيال القادمة؛ لذلك يقترح التقرير إصلاحات واسعة في قطاع التعليم، وسياسة ثقافية نشطة تضع في الحسبان الأهداف التالية: غرس الهوية الوطنية الحضارية، وترسيخ القيم التقليدية، وسد الفجوة العلمية مع الدول المتقدمة، وإحياء أمجاد الثقافة الروسية الكلاسيكية.

التعليم بوصفه رافعة لإحياء القيم

لقد تطرقنا سابقًا إلى بعض المقترحات في التعليم المدرسي المتعلقة بالتربية الأسرية، والفصل بين الجنسين، لكن الإصلاح التعليمي الذي يدعو إليه التقرير أشمل من ذلك بكثير؛ فهو يرى أن على روسيا التخلص من نموذج التعليم المقتبس من الغرب حاليًا (مثل نظام الامتحانات المعيارية الموحدة)، والعودة إلى نظام تعليمي “سيادي” خاص يستلهم أفضل ما في تقاليد روسيا القيصرية والسوفيتية. على سبيل المثال، يقترح إلغاء امتحان الثانوية العامة الموحد (Unified State Exam) المعمول به منذ العقد الماضي، وإحياء نموذج مدارس النخبة القديمة، مثل المدارس الثانوية المتخصصة (الجمنازيوم)، والثانوية التطبيقية (الريالكوم) التي كانت موجودة قبل الثورة البلشفية. هذه المدارس ستتيح رعاية المواهب بمرونة، والتركيز على مواد معينة (أدبية أو علمية) بدلًا من القالب الموحد. كما يدعو التقرير إلى إحياء “عبادة العلماء والمهندسين” التي سادت في العصر السوفيتي، حيث يُمنح العلماء مكانة اجتماعية راقية، ويُشجَّع الطلاب على اعتبار الباحث والمخترع بطلًا قوميًّا.

في المناهج الدراسية، يقترح التقرير تعزيز تدريس مواد التاريخ الوطني والتاريخ العالمي برؤية معمقة، بحيث يفهم الطلبة مكانة روسيا في العالم عبر العصور، ويدعو إلى إعادة إدراج اللغات الكلاسيكية (كاللاتينية واليونانية القديمة) في مناهج المدارس الإنسانية، وكذلك تعليم اللغة السلافونية الكنسية (وهي لغة الطقوس الأرثوذكسية) في تلك المدارس؛ بغية ربط الأجيال الجديدة بجذورهم الحضارية والدينية القديمة، وفهم تراثهم الأرثوذكسي.

كما يشدد التقرير على التربية الجمالية بوصفها عنصرًا أساسيًّا في تكوين الإنسان الروسي المتكامل. يقترح أن تصبح الفنون (الموسيقى، والفنون التشكيلية، والأدب) جزءًا أساسيًّا من المنهج، فيرغب أن يتخرج كل طالب وهو يمتلك ذائقة فنية رفيعة، ومعرفة بالتراث الموسيقي، والأدبي الكلاسيكي لروسيا والعالم. ولتحقيق ذلك، يمكن تنظيم رحلات ميدانية إلى المتاحف الكبرى، وإدراج أعمال كبار الأدباء الروس والعالميين في المناهج على نحو أعمق من الوضع الحالي. الهدف المعلن هو تكوين الذوق الفني لدى التلاميذ، بحيث يعتادون الفنون الرفيعة بدلًا من ثقافة الاستهلاك، والترفيه السطحي.

وبالطبع لا يتجاهل التقرير تحديث التعليم علميًّا وتكنولوجيًّا، فهو يدعو إلى تبني أحدث التقنيات التعليمية، مثل الذكاء الاصطناعي (مدرسون افتراضيون، منصات تعليم شخصي متكيّف مع احتياجات الطالب)، وتشجيع المشروعات الإبداعية والبحثية للطلاب منذ المراحل المبكرة، لكنه يؤكد أن التركيز ينبغي أن يكون على تنمية التفكير النقدي والابتكاري لدى الطالب، وليس مجرد حشو المعلومات، خاصة في عصر التغيرات السريعة.

يقترح التقرير أيضًا رفع مكانة المعلّمين ماديًّا واجتماعيًّا من خلال اعتبارهم موظفين حكوميين ذوي رسالة سامية؛ ما يستدعي تحسين أجورهم واستقرارهم الوظيفي. كما يشير إلى أهمية أن تمتلك روسيا نظامًا وطنيًّا خاصًا لتقييم جودة المدارس والجامعات (تصنيفات سيادية) بدلًا من الاعتماد على معايير عالمية ربما لا تلائم أهدافها الوطنية.

ثقافة قومية محافظة

على صعيد السياسة الثقافية العامة، يتبنى التقرير توجهًا واضحًا نحو إحياء الثقافة الروسية التقليدية وإعلاء شأنها في المجتمع، فهو ينتقد هيمنة الثقافة الشعبية التجارية و”الثقافة الجماهيرية” المقلَّدة من الغرب، ويرى أنها أسهمت في إضعاف الحس القومي والقيمي لدى الشباب. في المقابل، يدعو إلى تشجيع الإنتاج الثقافي الذي يعزز القيم الروحية والوطنية -من أفلام وبرامج تليفزيونية وأدب- وتقييد المحتويات التي يراها منحلة أو هابطة، ويتماشى هذا مع موقف التقرير المناهض لما يسميه ما بعد الحداثة الليبرالي” في الفن، الذي يصفه بالعدمي وتشويه الذوق؛ لذا يُفهم من سياق التقرير أنه يفضل اتجاهًا نحو الرقابة الأخلاقية على الإنتاج الفني والإعلامي لضمان ابتعاده عن الإسفاف والإثارة الرخيصة، والتعدي على القيم الأسرية والدينية.

كما أن دور الكنيسة الأرثوذكسية في الحياة الثقافية يحظى باهتمام التقرير، فهو يرى وجوب تعزيز حضور الكنيسة في المجال العام، سواء عن طريق إحياء المناسبات الدينية بوصفها جزءًا من الوعي الوطني، أو إدماج المفاهيم الدينية في الفنون والتعليم كما ذكرنا (مثل تعليم اللغة الكنسية، وإدراج مواد عن الأخلاق المسيحية). إنه -باختصار- يدعو إلى تثقيف أرثوذكسي للمجتمع”، بحيث تتشكل هوية ثقافية مميزة لروسيا، في مقابل التأثيرات الثقافية الغربية العلمانية.

ولا يغفل التقرير دور الإعلام والفضاء الإلكتروني في المعركة الثقافية، فهو يشير إلى أهمية تحقيق سيادة رقمية -سنتناولها أكثر في قسم التكنولوجيا- تشمل أيضًا السيطرة على المحتوى المتداول محليًّا، فتقوية المنصات المحلية (مواقع، وشبكات اجتماعية، وخدمات بث) ستتيح لروسيا نشر سرديتها الخاصة ومنظورها القيمي، دون رقابة أو خوارزميات أجنبية، ومن خلال ذلك يمكن دعم الإنتاج الثقافي الوطني، وإبراز الرموز التاريخية والإيجابية للمجتمع.

أخلاقيات العمل وخدمة المجتمع

جانبٌ مهم آخر تطرق إليه التقرير، هو إعادة صياغة أخلاقيات العمل لدى الروس، فمع سنوات التحول الاقتصادي في التسعينيات، وبروز اقتصاد السوق، شعر كثيرون بأن قيم الاجتهاد والتفاني تراجعت أمام قيم المكسب المادي السريع، أو حتى الاتكالية على الدولة؛ لذلك يشدد التقرير على ضرورة تعزيز قيمة العمل بوصفه واجبًا وفضيلة، ويستشهد هنا بالتراث الأرثوذكسي أيضًا، مذكرًا بأقوال القديسين عن قدسية العمل. من منظور التقرير، يجب النظر إلى كل عمل شريف على أنه خدمة للمجتمع ولله، سواء أكان عملًا يدويًّا أم ذهنيًّا، وينتقد -بشدة- عقلية الفرد المستهلك الذي يسعى إلى الراحة على حساب الآخرين، ويرى أنه ضمن التربية الوطنية الجديدة، ينبغي غرس ثقافة الإنتاجية والإتقان منذ الصغر، وتكريم العمال والمهنيين المجتهدين تمامًا كما تُكرّم النخب العلمية. كما يدعو إلى مكافحة أي روح تواكلية، أو فساد في أخلاق العمل؛ لأن النهضة الشاملة تتطلب من الجميع أداء أدوارهم بأمانة وكفاءة.

خلاصة الأمر في هذا المحور أن التقرير يربط بين النهضة الديموغرافية والقيمية؛ فهو يعتقد أن مجتمعًا يستعيد قيم الأسرة والدين والعمل الجاد سيكون أكثر قدرة على النمو والازدهار؛ ومن هنا فإن إصلاح التعليم والثقافة هو استثمار طويل الأجل في الإنسان الروسي ليصبح حاملًا لمشروع “صورة المستقبل”، ومتفاعلًا معه، وليس مجرد متلقٍ لخطط فوقية.

تطوير العلوم والتكنولوجيا.. نحو ريادة عالمية

إلى جانب التركيز على القيم والهوية، يشدد تقرير “روسيا 2050” على أن النهضة المنشودة يجب أن تكون علمية وتقنية بامتياز، فالمنافسة في القرن الواحد والعشرين هي -في جوهرها- منافسة على التقدم التكنولوجي والإبداع العلمي. وإذا أرادت روسيا أن تصبح قوة عالمية أولى، فعليها سد فجوة التكنولوجيا التي تفصلها حاليًا عن الدول المتقدمة، بل تسعى إلى أن تتبوأ مواقع الريادة في بعض المجالات المحورية.

نقد لحالة الركود التكنولوجي العالمي

من المثير للاهتمام أن التقرير يبدأ فصل “العلم والتكنولوجيا” بملاحظة نقدية للوضع العلمي العالمي عمومًا، وليس فقط حالة روسيا، فهو يشير إلى أنه خلال الـ60- 70 سنة الأخيرة لم تحدث اختراقات علمية جوهرية توازي ما شهده القرن العشرون، ويستشهد بكلام رجل الأعمال والمستثمر التكنولوجي المعروف بيتر ثيل (أحد الشخوص المحافظين في وادي السيليكون)، الذي قال في مقال بعنوان “نهاية المستقبل” عام 2011: “لم نعد نتقدم بوتيرة أسرع”. يوافق التقرير على هذا الرأي، مسلطًا الضوء على مثال: سرعة الطائرات المدنية حاليًا (نحو 900 كم/ ساعة) هي أقل مما كانت عليه طائرة “الكونكورد” الأسرع من الصوت (2150 كم/ ساعة) التي صُممت في ستينيات القرن الماضي، ثم أوقفت عام 2003، أي إننا نشهد تقدمًا تدريجيًّا فقط، وليس قفزات نوعية في بعض المجالات. كذلك يعدد التقرير الإنجازات العلمية الكبرى في القرن العشرين (اختراع المضادات الحيوية، والطاقة النووية، والصواريخ النفاثة، والكمبيوتر، والتليفزيون، والإنترنت، واكتشاف الحمض النووي، وأولى الخطوات نحو الذكاء الاصطناعي، إلخ)، ويبين أنها جميعًا حصلت في القرن الماضي. أما العقود الأخيرة، فيرى أنها ركزت على تحسين حياة الإنسان الفردية (مثلًا ثورة الهواتف الذكية)، أو محاولة تعديل الإنسان نفسه (كالتجارب الجينية) بدلًا من السعي إلى اختراقات تغير البنية التحتية للحضارة كما حدث سابقًا.

هذا التحليل يقود التقرير إلى دعوة ذات شقين؛ فمن جهة: ينبغي لروسيا أن تعي أن الغرب ليس في أوج إبداعه العلمي كما يُظن، بل يعاني نوعًا من الركود المبتكراتي بسبب تحوله عن المشروعات العلمية الكبرى إلى اهتمامات ضيقة وربحية. ومن جهة أخرى، يجب أن تتجنب روسيا المنزلقات الأخلاقية لبعض توجهات العلم المعاصر، وهنا يشير التقرير إلى قضايا مثل الاستنساخ البشري، والهندسة الوراثية للبشر، والتغيير الجندري، والإتاحة غير المنضبطة للإجهاض والقتل الرحيم. يرى واضعو التقرير أن هذه المساعي العلمية تحرف العلم عن دوره الحقيقي في خدمة الإنسان إلى أن يصبح أداة لتغيير طبيعة الإنسان، وإثارة أسئلة أخلاقية خطيرة؛ لذا يقترحون إخضاع هذه الموضوعات لرقابة وضوابط دولية، بل يشجعون على أن تتخذ روسيا موقفًا قياديًّا ضد بعض هذه الممارسات علميًّا وأخلاقيًّا (تماشيًا مع قيمها المحافظة).

أولويات البحث والتطوير

في المقابل، يدعو التقرير إلى تركيز الجهود العلمية على التحديات الكبرى التي تحسن نوعية الحياة، وتفتح آفاق المستقبل الخارجي للبشرية، ويضع قائمة بالمجالات التي ينبغي الاستثمار فيها بقوة، منها:

  • الطب والصحة: مثل ابتكار علاجات للأمراض المستعصية، كالسرطان والزهايمر، بدلًا من هدر الموارد في أبحاث تغيير الجنس أو نحوها. الصحة العامة للمواطنين عنصر جوهري لقوة الأمة؛ لذا يجب أن يكون البحث الطبي في مقدمة الأولويات.
  • تقنيات البناء والإسكان: يشجع التقرير على تطوير مواد بناء مبتكرة وتقانة معمارية متقدمة لتقليل كلفة التشييد ووقته، مع رفع الجودة. هذا مرتبط بمشروع “بيت لكل أسرة” أيضًا، حيث سيتطلب البناء على نطاق عريض حلولًا تقنية خلاقة.
  • وسائل النقل المستقبلية: مثل المركبات ذاتية القيادة لتقليل الحوادث وزيادة الكفاءة، والنقل الفائق السرعة (ربما يقصد القطارات المغناطيسية أو غيرها)، والمركبات الطائرة الشخصية (Aeromobiles)، وأيضًا الصواريخ النووية الدفع لاستكشاف الفضاء بفاعلية، والمركبات الفضائية القابلة لإعادة الاستخدام على نحو موسع (تطوير لما بدأته سبيس إكس مثلًا).
  • استكشاف الفضاء: يولي التقرير اهتمامًا خاصًا للفضاء بوصفه ساحة للتنافس القادم، ويضع هدفًا رمزيًّا كبيرًا: رحلة مأهولة إلى المريخ بحلول 2050. بالفعل يذكر أنه في “صورة المستقبل” المتحققة، بتاريخ 12 أبريل (نيسان) 2050 انطلق أول رواد فضاء روس (وربما بالتعاون مع دول صديقة) إلى كوكب المريخ، فاتحين الباب لاستيطانه. يعد هذا المشروع منارة إنجاز علمي يجب العمل عليها من الآن. ويقترح التقرير أن يتم ذلك ضمن اتحاد دولي تقوده روسيا بالتعاون مع دول بريكس مثلًا، حتى تجذب القدرات والخبرات من دول عدة، وتنافس هيمنة وكالات الفضاء الغربية.
  • الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية: لا شك أن التقرير يدرك أهمية الثورة الصناعية الرابعة؛ لذا فهو يدعو إلى جعل روسيا رائدًا عالميًّا في مجال الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، وكذلك في تطوير أنظمة البرمجيات المتقدمة والبنية التحتية الرقمية على نحو مستقل، ليس لتحقيق التفوق الاقتصادي فقط؛ بل أيضًا لضمان السيادة الرقمية كما سنناقش.
  • التقنيات العسكرية المتقدمة: كجزء من أولويات البحث أيضًا؛ لأن القدرة على الدفاع، وردع الأعداء، إحدى ركائز بقاء روسيا. يتطلع التقرير إلى أن تصبح روسيا رائدة في أنظمة التسليح المتطورة (كأسلحة الليزر وفرط الصوتي، والدفاع الجوي الفضائي، إلخ)، بحيث تحتفظ بتفوق نوعي يضمن أمنها في عالم مضطرب. وهو يذكر ضمن الرؤية المستقبلية أن روسيا عام 2050 ستكون رائدًا عالميًّا في تقنيات التسليح المتقدمة، والطاقة النووية، والتقنيات القطبية (لاستغلال القطب الشمالي)، وغيرها من مجالات التكنولوجيا الإستراتيجية.
  • المواد المتقدمة والتصنيع: كإتقان علوم المواد الفائقة التوصيل، وتصنيع السبائك المتطورة، وتقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد (التصنيع بالإضافة)، وتقنيات الليزر، وغيرها من مجالات التصنيع الحديث. يسعى التقرير إلى رؤية روسيا تنتقل من الاعتماد على استيراد هذه التقنيات إلى تطويرها محليًّا، وقيادة مبادرات إقليمية فيها.

زيادة الإنفاق واللحاق بالركب

يعترف التقرير أن روسيا اليوم متأخرة في مؤشرات الإنفاق على البحث والتطوير (R&D) مقارنة بالدول المتقدمة. فهو يورد أرقامًا: إنفاق روسيا على البحث المدني عام 2024 كان نحو 720 مليار روبل (0.37% من الناتج المحلي الإجمالي فقط)، ومع إضافة الإنفاق الخاص يصل الإجمالي إلى نحو 1% من الناتج، وهذا ضئيل مقارنة بدول تنفق بين 2% و3%، وأعلى من ناتجها على البحث (فهو يذكر: إسرائيل 6%، كوريا 5%، الولايات المتحدة 3.6%، اليابان 3.3%، ألمانيا 3.1%، الصين 2.7%). كما ينقل أن وزارة الصناعة الروسية نفسها أقرت عام 2022 أن قطاع أشباه الموصلات الروسي متأخر من 10 إلى 15 سنة عن المستوى العالمي.

هذه المعطيات دفعت معدي التقرير إلى المطالبة بقفزة نوعية في الاستثمار العلمي، فهم يرون رفع الإنفاق على البحث والتطوير إلى 3% من الناتج أو أكثر ضرورة إستراتيجية، ويدعون إلى تعبئة كل من القطاعين العام والخاص لتحقيق ذلك، مع التركيز على المجالات المذكورة ذات العائد الإستراتيجي.

ومن ضمن الأفكار المطروحة استحداث آليات تمويل غير تقليدية، وهنا يظهر مفهوم مهم في التقرير هو استخدام “الروبل الرقمي (عملة رقمية يصدرها البنك المركزي الروسي) أداةً لضخ أموال في المشاريع الإستراتيجية. ويرى التقرير أنه يمكن للبنك المركزي خلق كميات محددة من السيولة الرقمية وتخصيصها مباشرة لتمويل مشروعات البحث والتطوير والتصنيع بأسعار فائدة شبه مجانية (1% للمشروعات الحكومية الكبرى، و2% لغيرها)، ويؤكد أن هذا الإصدار النقدي الموجه لن يكون تضخميًّا إذا ضبط بدقة ووجِّه نحو إنتاج فعلي (وهذا تمييز مهم عن طباعة النقود العشوائية). ويدعو التقرير إلى بناء منصة رقمية سيادية للمدفوعات يشغلها البنك المركزي، بحيث تتمكن روسيا من تمويل التكنولوجيا وتداولها دون قيود من الأنظمة المالية الغربية، كالعقوبات، أو هيمنة الدولار.

بكلمات أخرى، يقترح التقرير نموذج “رأسمالية الدولة الابتكارية، حيث تتدخل الدولة بعمق لضخ التمويل اللازم، وتحديد الأولويات التكنولوجية، وتنشئ شركات وطنية رائدة” في المجالات المختلفة تقود الابتكار على مستوى عالمي، ويطمح أن تصبح لدى روسيا بحلول عام 2050 مجموعة شركات تقنية عملاقة تنافس عمالقة وادي السيليكون وغيرها، مدعومة من سياسات الدولة، وحماية سوقها الداخلية.

السيادة الرقمية والأمن السيبراني

جانب آخر لا يقل أهمية في الرؤية التكنولوجية هو تحقيق السيادة الرقمية؛ إذ يدرك واضعو التقرير أن الاعتماد على بنية تحتية رقمية أجنبية، أو برامج مستوردة، يمثل ثغرة أمنية وسيادية خطيرة (وقد برز هذا في العقوبات التقنية على روسيا عام 2022)؛ لذا فهم يشددون على تطوير كل مكونات البيئة الرقمية محليًّا: من أنظمة تشغيل، وبرامج مكتبية، ومواقع تواصل اجتماعي، ومحركات بحث، وصولًا إلى عتاد الحواسيب، ورقائق المعالجات. الهدف ألا يكون الفضاء السيبراني الروسي رهينًا بشركات ووحدات تحكم غربية.

كما يتحدث التقرير عن استخدام الروبل الرقمي عملة سيادية -تم التطرق إليه- وأيضًا بناء شبكات دفع إلكترونية روسية بالكامل تستخدم تقنية السجلات الموزعة (البلوك تشين) لضمان الشفافية ومنع التلاعب، ويدعو إلى إنشاء بنية إنترنت مستقلة يمكن لروسيا تشغيلها داخليًّا إذا عُزِلت عن الشبكة العالمية، مع الاستمرار في التواصل مع حلفائها من خلال بروتوكولات ومنصات مشتركة (ربما ضمن إطار منظومات بريكس وغيرها).

ويتضمن هذا أيضًا تعزيز أمن المعلومات وحماية البيانات، أي تطوير قدرات قوية في الأمن السيبراني لصد الهجمات الإلكترونية الغربية، وفي المقابل امتلاك قدرات هجومية سيبرانية عند الحاجة. في المستقبل الذي يتصوره التقرير، لا بد أن تكون روسيا من الدول الرائدة في الحرب الإلكترونية والدفاع السيبراني لتأمين بنيتها التحتية ومنشآتها الحساسة.

الاقتصاد والسياسة الاجتماعية.. من ملحق للغرب إلى قوة مكتفية عادلة

يرى تقرير “روسيا 2050” أن التحولات الجيوسياسية والداخلية لا بد أن يواكبها تحول جوهري في النموذج الاقتصادي الروسي، فقد اعتمد اقتصاد روسيا -عقودًا طويلة- على تصدير الخامات (نفط، وغاز، ومعادن)، واستيراد كثير من المنتجات المصنعة والتكنولوجيا الغربية، لكن بعد عام 2022، ومع العقوبات الغربية، بدأ هذا النموذج يتغير. ويشير التقرير إلى أنه منذ 24 فبراير (شباط) 2022 أخذت روسيا تتحول من “ملحق مواد خام للغرب” إلى “سوق مستقلة مكتفية بذاتها”، وهذا تطور إيجابي في نظره ينبغي البناء عليه. في الرؤية المستقبلية، تصبح السيادة الاقتصادية والتكنولوجية هدفًا اقتصاديًّا محوريًّا، وتتغير أولويات التنمية لتصبح: تحقيق الاكتفاء الذاتي التقني، وتنمية الطلب الداخلي، ورفع مستوى معيشة السكان بدلًا من التركيز المفرط على أرباح الشركات الكبرى، أو تصدير المواد الخام.

التصنيع الجديد والتطوير الذاتي

يوصي التقرير بإطلاق برنامج وطني شامل لـ”إعادة التصنيع” (Reindustrialization) يعيد بناء القاعدة الصناعية الروسية على أسس حديثة. هذا البرنامج ينبغي أن يشمل:

  • تحديث المصانع القائمة بالآلات والروبوتات والتقنيات الرقمية لزيادة الإنتاجية والجودة.
  • إنشاء صناعات جديدة تمامًا في المجالات التي كانت روسيا تعتمد فيها على الاستيراد. يذكر التقرير حاجة روسيا مثلًا إلى بناء قدرات محلية في صناعة الشرائح الإلكترونية وأشباه الموصلات، وفي صناعة المعدات الدقيقة (كالأجهزة الطبية والمتخصصة)، وفي صناعة الآلات (لتقليل استيراد الماكينات الغربية).
  • تشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة المبتكرة، بالتوازي مع دعم الشركات الحكومية والكبرى، أي إيجاد مزيج من عمالقة قوميين تقود مشروعات إستراتيجية ضخمة، ومنظومة ريادة أعمال خصبة للشباب تركز على التكنولوجيا والمنتجات ذات القيمة المضافة.
  • تنويع الاقتصاد لكسر الاعتماد على النفط والغاز. وهنا يأتي التركيز على قطاعات مثل الصناعات التحويلية، والزراعة المتقدمة، والخدمات التقنية (تطوير البرمجيات مثلًا)، والسياحة الداخلية، وغيرها.
  • الاستثمار في البنية التحتية على نحو واسع: شبكات نقل حديثة (بما فيها مشروع طرق جديدة وسكك حديدية لربط أنحاء البلاد على نحو أفضل، وتطوير المواني، خاصة في الشرق الأقصى)، وبنية الطاقة (مع التشديد على بناء مزيد من المفاعلات النووية بوصفها مصدر طاقة مستقرًا ورخيصًا)، وبنية الاتصالات (شبكات الجيلين الخامس والسادس المحلية).

ويؤكد التقرير أنه يجب على الدولة أن تأخذ زمام المبادرة في هذه العملية، فيقترح أن تطلق الحكومة برامج استثمار كبرى بتمويل من البنك المركزي (بالروبل الرقمي) كما ذكرنا، لتمنح قروضًا تنموية بفائدة 1-2% للمشروعات الصناعية المهمة، ويُعوَّض ضعف التمويل الخاص (الناجم عن عقوبات أو تردد المستثمرين) من خلال هذه السياسة النقدية غير التقليدية الموجهة.

كما يشدد على استخدام السياسة التجارية بحكمة: فرض حواجز جمركية أو قيود على استيراد السلع التي يمكن تصنيعها محليًّا (سياسة حمائية ذكية)، وفي الوقت نفسه البحث عن أسواق خارجية جديدة للصادرات الروسية ضمن كتلة بريكس، أو الدول الصديقة؛ لتجاوز حاجة السوق الغربية. وفي “صورة المستقبل 2050” يتخيل التقرير أن جميع التجارة الخارجية الروسية تتم بالروبل من خلال منصة دفع رقمية روسية، ما يعني تحررًا كاملًا من هيمنة الدولار، أو أنظمة الدفع التي تتحكم فيها الولايات المتحدة (كالسويفت).

العدالة الاجتماعية وتقاسم الثروة

على الجانب الاجتماعي، يتبنى التقرير خطابًا يركز على العدالة وتقليص الفوارق، إذ يرى أن التفاوت المفرط بين الأثرياء والفقراء يهدد التضامن الوطني. وبناءً عليه، يدعو إلى فرض ضريبة على الأغنياء” بنسبة 50% على الدخول التي تتجاوز حدًّا معينًا مرتفعًا، لكن ما يميز هذا المقترح أنه يقترح أن يتمكن دافعو هذه الضريبة من تخصيص نصف دخلهم الزائد لصالح مشروعات اجتماعية أو خيرية يختارونها بأنفسهم بدلًا من ذهابه إلى خزينة الدولة. بعبارة أخرى، هو نوع من التزام اجتماعي يفرض على أصحاب الثروات الكبيرة، إما بدفع نصف أرباحهم ضريبة، وإما بإنفاقها في مشروعات نافعة (بناء مدارس، مستشفيات، تبرعات للمؤسسات التنموية). يعتقد التقرير أن هذه المساهمة الإجبارية للطبقة الغنية ستساعد على تمويل كثير من المبادرات الاجتماعية، وتخلق لدى الأثرياء إحساسًا بالمسؤولية المجتمعية بدلًا من عقلية الاحتكار والاستهلاك الباذخ.

كما يوصي التقرير بتعزيز نظم الضمان الاجتماعي للفئات الضعيفة، وتوسيع نطاق الدعم الحكومي في مجالات الصحة والتعليم والإسكان للفقراء، ويؤكد أن النهضة الاقتصادية لا قيمة لها إن لم تنعكس على تحسين معيشة المواطن العادي؛ لذا يجب أن يكون رفع الدخل الحقيقي للسكان من أهم مؤشرات النجاح. ففي السيناريو المتفائل للتقرير، يرتفع مستوى دخل الفرد الروسي على نحو ملموس بحلول 2050 مع نمو الاقتصاد، ونجاح برامج التحول.

ويشير التقرير كذلك إلى أهمية القضاء على الفقر المدقع داخل روسيا، وتأمين احتياجات المناطق النائية والأقاليم الأضعف تنمويًّا من خلال خطط خاصة. هذه النقاط تصب في هدف خلق مجتمع أكثر تلاحمًا، حيث يشعر الجميع أنهم مستفيدون من نهوض البلد، وليس النخبة فقط، ويعد هذا ضروريًّا لضمان الاستقرار الداخلي، والدعم الشعبي للسياسات الطموحة التي يقترحها التقرير.

في المجمل، يمكن وصف النموذج الاقتصادي- الاجتماعي الذي يطرحه “روسيا 2050” بأنه اقتصاد تعبئة وتنمية موجه من الدولة، يركز على الاكتفاء الذاتي، والتقنية العالية، والعدالة التوزيعية. إنه نموذج يسعى إلى الجمع بين ديناميكية النمو (من خلال الابتكار والتصنيع) وعدالة التوزيع (من خلال الضرائب على الأغنياء، والرعاية الاجتماعية للأسرة والعامل). وفي كثير من جوانبه، يستلهم التجربة الصينية المعاصرة (التي حققت نموًّا سريعًا، مع توجيه مركزي، وتخفيف الفقر على نحو واسع)، لكن مع إضافة الخصوصية الروسية من حيث تأكيد القيم التقليدية، ودور الكنيسة، وما إلى ذلك.

السياسة الخارجية.. روسيا في النظام العالمي المتعدد الأقطاب

إلى جانب بناء الجبهة الداخلية، يناقش تقرير “روسيا 2050” توجهات السياسة الخارجية الروسية في الحقبة الجديدة. المنطلق الرئيس هنا هو أنه يجب على روسيا أن تعمل على تشكيل نظام عالمي جديد متوازن وعادل يعكس مصالحها ومصالح القوى الصاعدة، بدلًا من النظام القديم المتمحور حول الغرب؛ لذلك يحدد التقرير هدف السياسة الخارجية الروسية حتى عام 2050 بأنه إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب، ويشرح أن هذا النظام يقوم على تعددية مراكز القوة (روسيا، والصين، والولايات المتحدة بعد تحولها، والهند، وأوروبا ربما بعد إعادة تشكلها، إلخ)، واحترام سيادة الدول، وتوازن المصالح بدلًا من فرض إرادة طرف واحد.

بناء التكتلات والتحالفات البديلة

يرى التقرير أن على روسيا قيادة جهود إنشاء مؤسسات وآليات دولية جديدة تدعم هذا النظام المتعدد، فمثلًا، يقترح تعزيز دور تكتلات قائمة، مثل بريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وجعلها منصات أكثر فاعلية للتنسيق السياسي والاقتصادي، ويذكر فكرة إنشاء اتحاد دولي لاستكشاف الفضاء بقيادة بريكس (وقد مر بنا ذلك في قسم التكنولوجيا)، كرمزية لتعاون قوى ناشئة في مشروع كبير ينافس مشروعات تقودها الولايات المتحدة وأوروبا. كذلك يشجع على توسيع بريكس بضم دول مؤثرة من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، ليصبح تجمعًا اقتصاديًّا- سياسيًّا قادرًا على تشكيل قطب موازن للغرب (مثل انضمام دول الشرق الأوسط أو جنوب شرق آسيا إليه).

كما يشير التقرير إلى إمكانية إطلاق عملة احتياطية دولية جديدة بين هذه الدول (قد تكون عملة بريكس، أو تطوير نظام دفع مشترك)؛ لتقليل الاعتماد على الدولار واليورو، وهذا جزء من رؤيته لكسر هيمنة المؤسسات المالية الغربية (صندوق النقد والبنك الدولي) وتكوين مؤسسات تنموية تقودها القوى الصاعدة برؤية مختلفة لتحل محلها.

على صعيد الأمن الدولي، يُبرز التقرير أهمية إعادة بناء ما يسميه “Concert of Powers” أو “وفاق القوى العظمى”، وهو مفهوم مستوحى من القرن التاسع عشر، حين تعاونت القوى الأوروبية الكبرى للحفاظ على استقرار نسبي. ففي القرن الواحد والعشرين، يقترح أن تنسق روسيا مع القوى الكبرى الأخرى (الصين، والهند، وربما الولايات المتحدة إذا تحولت كما يتوقعون) لتسوية النزاعات الإقليمية، ومنع اندلاع حروب كبرى، ويعدّ هذا التعاون بين الإمبراطوريات أساسًا لمنع الفوضى، أو هيمنة طرف واحد تجر الآخرين إلى حروب.

طاق النفوذ الروسي.. استعادة المجال الحيوي

تشدد الوثيقة على أنه يجب على روسيا أن تؤمّن محيطها الإستراتيجي المباشر، وتمنع وجود أي نظام معادٍ قرب حدودها؛ ولذلك تُعرّف جميع أراضي الإمبراطورية الروسية السابقة والاتحاد السوفيتي بأنها ضمن “مجال المصالح الحيوية والنفوذ الحصري لروسيا، ما يعني عمليًّا أن دول الجوار، كأوكرانيا وبيلاروس وجورجيا ودول آسيا الوسطى وغيرها، ينبغي أن تكون إما حليفة لروسيا وإما -على الأقل- غير معادية، ولا يجوز أن تقع تحت سيطرة نفوذ غربي، أو تتبنى نهجًا سياسيًّا “معاديًا للروس”.

في الرؤية المثالية للتقرير بحلول 2050، تتحقق عدة أمور:

  • يُحَل النزاع الأوكراني لصالح روسيا، وتتوقف أوكرانيا عن كونها دولة معادية، إما عن طريق تغيير نظام الحكم هناك إلى نظام صديق لموسكو، وإما ربما عن طريق تفكك أوكرانيا وعودة أجزاء منها إلى الارتباط العضوي مع روسيا (لا يذكر التقرير تفاصيل صريحة، لكن كلامه عن “إزالة الأنظمة المعادية في أراضي الإمبراطورية السابقة” يوحي بهذا). ويشير أيضًا إلى ضرورة تفكيك الأسس الأيديولوجية للهويات المعادية داخل هذا المجال -مثل اعتبار الهوية الأوكرانية منفصلة عن الروسية- ويرى أنه يجب إعادة دمج ما يسمى “الشعب الروسي الموحّد” الذي يشمل الروس والبيلاروس والأوكران، والاعتراف رسميًّا بهذا “الثالوث الروسي” في العلوم، وفي الدستور.
  • اندماج أعمق مع بيلاروس: حاليًا، ثمة اتحاد شكلي بين روسيا وبيلاروس، لكن التقرير على الأرجح يتصور وحدة أو اتحادًا فعليًّا يربط البلدين تمامًا (وقد يكون ذلك نموذجًا لدمج دول أخرى مستقبلًا(
  • إعادة نفوذ روسيا في القوقاز وآسيا الوسطى: بمعنى أن دولًا، مثل كازاخستان وأوزبكستان وغيرها، تبقى في الفلك الروسي أمنيًّا واقتصاديًّا، ربما من خلال منظمات، كمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ولكن على نحو أقوى مما هو عليه اليوم.
  • توسيع النفوذ إلى وسط أوروبا وشرقها: في السيناريو المرسوم، يبدو أن روسيا بحلول عام 2050 تستطيع أن تستعيد حضورها السياسي في أجزاء من أوروبا الشرقية والبلقان، إذ يذكر التقرير دخول “أجزاء من أوروبا الوسطى والشرقية” ضمن “المكروريجن الروسي”. قد يشير ذلك إلى دول مثل صربيا والمجر، وربما غيرهما من الدول التي قد تنجذب إلى روسيا إذا ضعف الاتحاد الأوروبي، وتصاعدت التيارات المحافظة فيها. أيضًا يلمح إلى إمكانية تأثير روسي في بعض دول الشرق الأوسط (ربما سوريا وإيران ومن على شاكلتهما)، وأيضًا “بعض دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية” الصديقة. هذه إشارة إلى أن روسيا تطمح أن تكون قائدة محور عالمي لديه امتدادات خارج جواره المباشر، مثلًا عن طريق التحالفات مع بلدان مثل فنزويلا وكوبا في أمريكا اللاتينية، أو بلدان إفريقية مثل مالي ووسط إفريقيا، حيث بدأ النفوذ الروسي مؤخرًا.
  • تزعّم روسيا لأمن أوراسيا: يتخيل التقرير أنه بحلول منتصف القرن تصبح روسيا ركيزة الأمن والاستقرار في أوراسيا، بمعنى أنها توفر الحماية لدول جوارها، وتضمن عدم اندلاع صراعات كبرى هناك، من خلال وجودها العسكري وتحالفاتها (ربما توسيع منظمة الأمن الجماعي)، وهذا ينسجم مع فكرة أن موسكو ترى نفسها وريثًا لإرث الإمبراطورية القيصرية والسوفيتية في حفظ التوازن في أوراسيا.

يقر التقرير -ضمنيًّا- أن الوصول إلى هذا الوضع قد يستلزم تغييرات جيوسياسية جذرية، بعضها ربما بالقوة (كما يحدث في أوكرانيا حاليًا)، أو بالضغوط السياسية والاقتصادية، لكنه يرى ذلك حقًّا مشروعًا لروسيا بوصفها حضارة عظمى أن تؤمّن جوارها، بل إنه يرى أن النظام العالمي العادل لن يتحقق ما دامت الدول الغربية تسعى إلى تطويق روسيا، أو زعزعة استقرار محيطها؛ لذا فإن إزالة النفوذ الغربي من جوار روسيا شرط لنجاح النظام المتعدد الأقطاب.

دبلوماسية القيم والقوة الناعمة

لا تقتصر طموحات السياسة الخارجية الروسية المستقبلية -وفق التقرير- على الجوانب الجيوسياسية البحتة، بل تمتد إلى قيادة “جبهة أيديولوجية- قيمية” عالمية، فكما ذكرنا، يطمح التقرير أن تصبح روسيا حاملة لواء التقليدية والمحافظة” دوليًّا؛ لذا من المتوقع أن تنتهج دبلوماسية نشطة لدعم الحركات المحافظة والشعبوية في دول الغرب وغيرها، كجزء من تصدير الثورة”، لكن من منظور معاكس للثورات الليبرالية، وربما بالفعل نجد إشارات إلى التواصل مع شخصيات كهؤلاء (حضور مفكرين غربيين محافظين لمؤتمرات موسكو، إلخ).

كذلك ستكون حماية المسيحيين عالميًّا جزءًا من أجندتها، خاصة في الشرق الأوسط، حيث تضاءل وجود المسيحيين بفعل الحروب. وقد تسعى روسيا إلى تشكيل تحالفات أو مبادرات لحماية الأقليات المسيحية، وهذا قد يكسبها تعاطفًا دوليًّا في بعض الأوساط.

ويرى التقرير أهمية القوة الناعمة الروسية عن طريق نشر اللغة الروسية، والثقافة والأدب الروسيين عالميًّا، وتقديم روسيا بوصفها نموذجًا حضاريًّا بديلًا جاذبًا للبلدان التي سئمت ضغوط العولمة الغربية. وقد يستدل على ذلك ببرامج قائمة أو مقترحة، مثل زيادة المنح الدراسية للطلاب الأجانب، ونشاط المراكز الثقافية الروسية، وحتى الدور الذي تقوم به بعض وسائل الإعلام الروسية الدولية. يتخيل واضعو التقرير أنه بحلول 2050 ستكون روسيا قد استعادت كثيرًا من رصيدها الثقافي السوفيتي حين كانت تنافس الغرب فكريًّا من خلال نموذجها الخاص.

القدرات الدفاعية والعسكرية

ضمن منظور السياسة الخارجية، يتم تأكيد ضرورة تطوير القوات المسلحة الروسية لضمان حماية كل هذه المصالح، فرؤية 2050 تفترض أن روسيا تمكنت من الحفاظ على تفوقها النووي والإستراتيجي، وحدّثت جيشها بأحدث الأنظمة، بما فيها أسلحة فرط صوتية، وصواريخ عابرة متطورة، ودفاعات فضائية، وربما يطمحون أيضًا إلى وجود بحري عالمي أقوى (كأسطول محيطات متجدد). الهدف هو أن تبقى روسيا قوة ردع عظمى، فلا يجرؤ أحد على تهديدها، أو تهديد حلفائها المباشرين.

ويتوقعون أيضًا أن يؤدي مجمع الصناعات العسكرية الروسي دورًا مهمًّا في الاقتصاد (ضمن إطار التصنيع والتكنولوجيا)، وأن تصبح روسيا موردًا رائدًا عالميًّا لبعض التقنيات العسكرية للدول الحليفة؛ مما يزيد نفوذها السياسي والاقتصادي.

في المجمل، ترسم السياسة الخارجية المقترحة صورة لروسيا بوصفها قطبًا عالميًّا قائدًا، فهي قوة عظمى تمتد شبكات تحالفاتها إلى عدة قارات، وتنافس النفوذ الأمريكي- الغربي التقليدي، وتدافع عن رؤيتها الحضارية بوسائل دبلوماسية وثقافية، وربما عسكرية عند الضرورة.

الخاتمة

يعطي تقرير “روسيا 2050.. صورة المستقبل” انطباعًا عن مشروع نهضوي شامل تمزج فيه الرؤى الجيوسياسية مع الاجتماعية والاقتصادية في إطار أيديولوجي متماسك. إن الصورة المرسومة لروسيا عام 2050 -وفق هذه الرؤية- هي صورة دولة قوية مزدهرة في الداخل، ومتقدمة علميًّا وتقنيًّا، تسودها قيم تقليدية، وأسرة مترابطة، ومجتمع متضامن، ودولة مركزية مستقرة تحكمها قيادة رشيدة ذات رؤية مستدامة. وعلى الصعيد الخارجي، تظهر روسيا في هذه الرؤية إمبراطورية عالمية مركزية في النظام الدولي، تقود تكتلًا من الدول، وتحفظ توازن العالم، وتنافح عن هويتها الحضارية عبر القارات.

لا شك أن هذه الرؤية طموحة جدًّا، وربما جدلية في بعض جوانبها؛ فهي تتحدى اتجاهات الفكر السياسي والاقتصادي السائدة بعرض نموذج مغاير بشدة، نموذج يرفض الليبرالية السياسية والاقتصادية، ويطرح بديلًا يجمع بين السلطوية السياسية والمحافظة الاجتماعية والاقتصاد الموجه. هذا النموذج قد يثير مخاوف وانتقادات بشأن تكلفة تحقيقه؛ فالتخلي عن الديمقراطية التعددية والحقوق الليبرالية سيراه البعض ثمنًا باهظًا، خاصة أن التجارب التاريخية للأنظمة السلطوية كانت مختلطة النتائج. كما أن إحياء الأيديولوجيات الدينية والقومية -على هذا النحو- قد يقود إلى انقسامات، أو مقاومة داخل مجتمع متنوع كالمجتمع الروسي، فضلًاعن ردود الفعل الخارجية التي قد ترى ذلك نزعة توسعية، أو “إمبريالية جديدة”.

من جهة أخرى، يجب الإقرار بأن التقرير يقدم تشخيصًا صريحًا لكثير من مشكلات روسيا الحالية (الديموغرافيا، والفساد القيمي، والتبعية التكنولوجية، والتفاوت الاجتماعي، إلخ)، ويقترح حلولًا متكاملة تنم عن رؤية إستراتيجية طويلة المدى تفتقدها كثير من الدول. إن دمج البعد الحضاري والروحي في التخطيط التنموي على هذا النحو لافت، ويعكس إدراكًا بأن التنمية ليست مجرد أرقام نمو اقتصادي، بل أيضًا هوية ومعنى. كذلك فإن التركيز على العلم والتقنية بوصفهما محركًا للمستقبل، وضرورة تعبئة الموارد المالية لأهداف إنتاجية، نقاط قوة في الرؤية، تستلهم نجاحات دول أخرى كالصين.

بالطبع، التحدي الأكبر يكمن في كيفية تنفيذ كل هذه الأفكار وتحويلها من تنظير إلى واقع، فالرؤية تفترض توافر إرادة سياسية حديدية، واستقرار داخلي عقودًا، وهذا ليس مضمونًا دائمًا. كما أن المقاومة المتوقعة من الغرب لأي توسع لنفوذ روسيا، أو خروجها عن المنظومة الاقتصادية الحالية، ستكون قوية. يضاف إلى ذلك المخاطر الاقتصادية: فزيادة الإنفاق الاجتماعي والتسليحي والتقني قد ترهق موارد الدولة إن لم تُحسن إدارتها، خاصة في ظل العقوبات.

مع ذلك، يوفر هذا التقرير نقطة انطلاق لنقاش وطني داخل روسيا بشأن اتجاه البوصلة في العقود المقبلة، فهو يطرح أسئلة جوهرية: ما طموح الروس الجماعي لمكانة بلدهم؟ ما الثمن الذي هم مستعدون لدفعه في سبيل ذلك (سواء من حريات سياسية أو غيرها)؟ وكيف يوازنون بين التراث والتقدم، بين الروح والمادة في بناء دولتهم؟

وفي الختام، سواء اتفق المرء أو اختلف مع الأطروحات الواردة في تقرير “روسيا 2050″، لا يمكن إنكار أنها تقدم تصورًا جريئًا متكاملًا يندر صدوره عن مؤسسات فكرية في عالم اليوم. إنها رؤية تحاول استحضار دروس التاريخ الروسية الطويل -من مجد الإمبراطورية القيصرية وقوة الاتحاد السوفيتي- وتمزجها في معطيات الواقع الراهن لتصنع ملامح مستقبل متخيل. وفي عبارة بليغة في خاتمة التقرير، يلخص معدّوه إيمانهم: نحن نرى روسيا القرن الواحد والعشرين عظيمة حرة، تمامًا كما أرادها الله”، وهي جملة تعكس مدى الإيمان العَقَدي الكامن وراء هذه الرؤية. التحدي الآن يبقى في اختبار الزمن: هل ستتجه روسيا فعلًا نحو تحقيق هذه “الصورة المستقبلية”، أم أن الواقع الدولي والمحلي سيخط مسارات مختلفة؟ فقط العقود المقبلة ستحمل الإجابة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع