بريكس بلسمقالات المركز

روسيا ومثلث الشرق الأوسط


  • 28 ديسمبر 2023

شارك الموضوع

تُظهر الديناميكيات النشطة للعلاقات بين دول منطقة الشرق الأوسط تغييرًا في الوضع لا يؤثر فقط في هذا الفضاء الثقافي والتاريخي المهم (بوصفه مركزًا لوجستيًّا وجسرًا للحضارات)، بل أيضًا في السياسة العالمية بكاملها. فمن ناحية، تدرك جميع الأطراف ضعف حضور الولايات المتحدة، على الرغم من استمرار محاولات واشنطن الحفاظ على سيطرتها، بذريعة أو أخرى (لا تزال عقيدة كارتر سارية)، وهذا يؤدي إلى تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، وزيادة حرية العمل. ومن ناحية أخرى، يظل الحذر في السياسة الخارجية، بدرجة أو بأخرى، حيث إن هناك حالة من عدم اليقين بشأن المستقبل على المدى المتوسط، حيث قد تكون هناك مواقف غير متوقعة تعرف بـ”البجعة السوداء”.

ومع ذلك، على الأقل فيما يتعلق باللاعبين الرئيسين: (تركيا، وإيران، وعدد من دول الخليج العربي)، وكذلك روسيا، مع الأخذ في الحسبان الخبرة التاريخية والقضايا المثيرة للجدل، والاتجاه العالمي العام، فإن التحديات المحتملة، والمجالات المستعصية (ولكنها لا تزال قابلة للحل) في العلاقات بعضها مع بعض واضحة. ويشير التقارب بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، اللتين كانتا خصمين جيوسياسيين في المنطقة عقودًا من الزمن، إلى إمكانية إيجاد أرضية مشتركة لإنشاء نموذج للتعاون المتبادل المنفعة، مثلما يشير موقف تركيا تجاه روسيا، مع كونها عضوًا في التحالف العسكري السياسي الغربي، لكن يمكنها اتباع سياسة مستقلة، وعدم الدخول في المواجهة.

إذن، ما السبل الممكنة لتعزيز هذا التفاعل المتعدد الأطراف؟ في نهاية المطاف، بدأ التعاون بالتطور مع بعض البلدان، في حين أصبح هذا التعاون واضحًا بالفعل في بلدان أخرى؛ لذا، إذا نظرت إلى العلاقات بين تركيا وروسيا، فمن الصعب أن تتخيل ما الذي يمكن فعله أكثر لتحسين التفاعل بين البلدين. تتلقى تركيا الغاز الطبيعي اللازم لاحتياجاتها من روسيا، وتجري المفاوضات بشأن إنشاء مركز مشترك للطاقة، وتبني روسيا محطة “أكويو” للطاقة النووية. وفي مجال السياحة والتجارة، حقق التعاون بين البلدين أرقامًا قياسية، وللمفارقة زادت باطّراد بعد تطبيق العقوبات الغربية، حيث يستخدم كثير من المواطنين الروس الخطوط الجوية التركية للسفر إلى الخارج، بما في ذلك إلى أوروبا. في العموم، العلاقات بين البلدين تتطور باستمرار. وحتى في مسألة تطوير الممر الأوسط، الذي تهتم به تركيا كثيرًا، ويتجاوز روسيا في طرق التجارة مع الصين، لا ترى فيه موسكو تهديدًا أو تراجعًا للعلاقة مع أنقرة.

في الوقت نفسه، عليك أن تفهم أن تركيا تساعد أوكرانيا، وقد أعلنت- على نحو لا لبس فيه- أن شبه جزيرة القرم تنتمي إليها (على المدى الطويل، تعتقد أنقرة أن القرم يمكن أن تصبح تركية في يوم من الأيام)، وتسعى أيضًا إلى توسيع نفوذها في مناطق نفوذ تقليدية لروسيا، تحديدًا في القوقاز، وآسيا الوسطى. ومن غير المرجح أيضًا أن تمنح روسيا تركيا أي تفضيلات إضافية، ما لم يكن هناك فهم واضح للفوائد الروسية. ولكي يحدث هذا، يجب أن يحدث شيء غير عادي، على سبيل المثال، انسحاب تركيا، وحلف شمال الأطلسي، مع أن بعض القرارات الدبلوماسية من موسكو مرغوبة لتركيا، على سبيل المثال، الاعتراف بقبرص التركية، أو تغيير موقف روسيا من حزب العمال الكردستاني (موسكو لا ترى هذا التنظيم إرهابيًّا، مما يترك مجالًا للمناورة).

الأمور مختلفة قليلًا مع إيران. في الآونة الأخيرة، تحسن التعاون في المجالات التجارية، والاقتصادية، والعسكرية التقنية، والسياسية، تحسنًا ملحوظًا، وألغت إيران تأشيرات الدخول للمواطنين الروس. بالإضافة إلى ذلك، وقعت إيران تجارة حرة داخل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وهو ما يؤهلها- في الخطوة التالية- أن تنال العضوية الكاملة. إيران أيضًا عضو في منظمة شنغهاي للتعاون، وقد دُعيت بالفعل للانضمام إلى تجمع (بريكس- بلس)، حيث تتمتع روسيا بمكانة قوية. بالإضافة إلى ذلك، يضم ممر النقل بين الشمال والجنوب دولتين رئيستين- روسيا وإيران، وقد تقدم هذا المشروع تقدمًا ملحوظًا خلال العام الماضي. وعلى عكس تركيا، فإن إيران ليست عضوًا في أي هياكل عسكرية سياسية غربية، ولكنها عضو في حركة عدم الانحياز.

ومع أن فرصة التقارب هنا تبدو أكبر، فإن العامل الديني والسياسي لا يزال بحاجة إلى أخذه في الحسبان. إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي- في الواقع- دولة شيعية (ولكن هناك أيضًا أقليات دينية وعرقية)، ولها شكل محدد من أشكال الحكم- مؤسسة ولاية الفقيه، ومجلس الخبراء، وفيلق الحرس الثوري الإسلامي، وما إلى ذلك. وتنظر إيران إلى روسيا من خلال عدساتها الأيديولوجية الخاصة، التي تفرض عليها قيودًا خاصة مختلفة عن تلك التركية؛ مما يجعل نظرة الشك والريبة الإيرانية تجاه روسيا ربما أعمق منها في تركيا، مع أن هذا لا يبرز.

وأخيرًا، دول الخليج العربي، التي تشمل: (المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين، وقطر، والكويت، والعراق، وعمان). تحتل قطر والكويت والبحرين نطاقًا محدودًا في العلاقات مع روسيا، رغم وجودها. وهناك تعاون مع العراق في عدد من المجالات، لكنه لا يزال محدودًا بسبب المشكلات الأمنية. وفي الوقت نفسه، تتعاون روسيا- إلى جانب العراق وإيران- في الحرب على الإرهاب. هناك تعاون مع جميع دول المنطقة في مجال السياسة الهيدروكربونية (قطر منافس في بعض النواحي في بيع الغاز الطبيعي). وترى روسيا أن تطوير العلاقات مع السعودية، والإمارات، وعمان، أمر واعد جدًّا. لقد جعلت إصلاحات السياسة الداخلية والخارجية هذه البلدان أكثر انفتاحًا؛ ومن ثم فإن نافذة الفرص تمثل تبادل التكنولوجيا، والاستثمار، والتدفقات التجارية، فضلًا عن التوسع في قطاع السياحة. وبما أن أوروبا ستكون مغلقة في وجه روسيا إلى أجل غير مسمى، فيمكن أن تصبح السعودية، وسلطنة عمان، والإمارات، واجهات للاستثمار والتعاون التجاري، والسياحة لروسيا. على سبيل المثال، تمتلئ الإمارات بالسياح والمقيمين الروس. ومن ناحية أخرى، يمكن للاستثمارات العربية أن تدخل قطاعات مختلفة من الاقتصاد الروسي، حيث يوجد الآن- بسبب خروج الدول الغربية- كثير من العروض والفرص المربحة.

وبالإضافة إلى نقل رأس المال البشري، والتمويل، والتكنولوجيا، فمن المهم توسيع الحوار المستمر بشأن مختلف القضايا- من التعاون الثقافي، والشؤون الدينية، إلى مناقشة المشكلات الجيوسياسية المعقدة، والتصميم السياسي. الخطاب السائد الآن في روسيا “انسوا الغرب” يعزز تصورًا أوسع من ذي قبل للتعاون مع الشرق عامة، وبلدان الشرق الأوسط على وجه الخصوص، مع الاستعداد لمناقشة الأفكار المختلفة لهذا المفهوم؛ وهنا لا بد من الانتقال من البيانات التصريحية، ولو على مستوى عال، إلى حلول محددة، وتنفيذ المهام المشتركة، سواء أكان ذلك الأمن الغذائي، أم الانتقال إلى الطاقة النظيفة (ولا ينبغي أن ننسى أن التقنيات النووية السلمية الحديثة التي تمتلكها روسيا تتعلق بالطاقة الخضراء)، أم البحث العلمي المشترك في مختلف المجالات، من استكشاف الفضاء وأعماق المحيطات إلى مكافحة الأمراض. ومن الممكن أن تحقق الإمكانات المشتركة فوائد كبيرة، ليس فقط للبلدان المشاركة؛ بل للبشرية جمعاء.

يحتاج التعاون الروسي العربي إلى مزيد من التفاعل بين المراكز البحثية والفكرية، والمثقفين والسياسيين والباحثين من كلا الجانبين؛ لتقديم توصياتهم لصناع القرار في كلا الجانبين لتحويل رؤى الزعماء بالتعاون إلى واقع عملي.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع