إستراتيجيات عسكرية

روسيا والناتو

أحلام تحطمت على صخرة حقيقة الجيوبوليتيك


  • 4 مارس 2025

شارك الموضوع

عندما تولى السلطة الزعيم السوفيتي الرابع ليونيد بريجنيف (1964- 1982)، حدث نوع من التفاهم بين الحلفين العسكريين الكبيرين (حلف الناتو، وحلف وارسو)، لتظل الحرب بينهما “باردة”، وتدار على أراضي الآخرين، ودخل الاتحاد السوفيتي في هذه الفترة فيما يسمى “عصر الجمود”. تلا ذلك تولي المُسنيَن للسلطة، ووفاتهما السريعة دون تحقيق شيء يذكر، يوري أندروبوف (1982- 1984)، وقسطنطين تشيرنينكو (1984- 1985)، حتى جاء ميخائيل غورباتشوف، الشاب نسبيًّا (تولى السلطة وكان يبلغ من العمر 54 عامًا).

تخيل غورباتشوف أن مشكلة روسيا مع الغرب تعود إلى “سوء فهم”، وأن هناك حاجة إلى مبادرة “حسن نية” من روسيا، وبعدها سيصبح كل شيء على ما يرام بين الطرفين. بعدما قدم عدة “تنازلات” للغرب حسب منتقديه، وصولًا إلى قبول وحدة شطري ألمانيا، ودخولها حلف الناتو مقابل “كلمة شرف” أمريكية عن طريق وزير الخارجية آنذاك جيمس بيكر، الذي وعده في أثناء المحادثات، وفق الدبلوماسي الأمريكي السابق، ومدير وكالة المخابرات المركزية الحالي وليام بيرنز: “أن المصالح السوفيتية ستكون أكثر أمانًا مع انضمام ألمانيا الموحدة إلى حلف الناتو بدلًا من ألمانيا غير مرتبطة بحلف الناتو، وربما في النهاية بأسلحتها النووية”. وقال أيضًا إنه لن يكون هناك تمديد لولاية الناتو أو قواته “بوصة واحدة إلى الشرق” من حدود ألمانيا الموحدة [1].

لقاء وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر بالزعيم السوفيتي الأخير ميخائيل غورباتشوف في موسكو يوم 9 فبراير/ شباط 1990 – المصدر (The Burning Archive)

بعد نهاية الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفيتي، بدا أن العلاقات بين الناتو وروسيا في طريقها -لأول مرة- إلى التحسن، وذلك عندما انضمت روسيا إلى مجلس تعاون شمال الأطلسي عام 1991، ثم خليفته مجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية (EAPC) عام 1997، الذي يضم جميع أعضاء الحلف، والدول الشريكة في المنطقة الأوروبية الأطلسية. كان التعاون العملي بين الطرفين قد بدأ بعد انضمام روسيا إلى برنامج الشراكة من أجل السلام (PfP)، ونشر قوات مشتركة لدعم عمليات السلام التي يقودها الناتو في غرب البلقان في أواخر التسعينيات. كما تأسست العلاقة بين الطرفين وفق إطار عمل المجلس المشترك الدائم بين الناتو وروسيا (PJC) عام 1997. تعرض هذا التعاون الناشئ لأول ضربة أدت إلى تراجعه عام 1999، في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسن، على إثر أزمة كوسوفو وتدخل الناتو لدعمها، وانسحاب روسيا من المجلس[2].

عام 2000، صعد فلاديمير بوتين إلى السلطة، وكان كسابقيه يحدوه الأمل في عقد علاقة تحالف، أو على أقل تقدير تفاهم مع الغرب والناتو، وقرر استعادة العلاقات مع الحلف من خلال آلية تعاون جديدة عام 2002، عبر المجلس المشترك بين الناتو وروسيا (NRC)، ليكون منتدى للتشاور بشأن القضايا الأمنية الآنية، وتوجيه التعاون العملي في مجموعة واسعة من المجالات، وأصبح لدى الطرفين بعثة تمثيل دبلوماسي، وبعثة اتصال عسكري، وافتتح الناتو مكتبًا إعلاميًّا له في موسكو [3].

صورة تجمع الرئيس الروسي بوتين مع الأمين العام السابق لحلف الناتو أندرس فوغ راسموسن – المصدر (NRC)

مرة أخرى، توترت العلاقة من جديد بين روسيا والناتو بعد قمة بوخارست عام 2008، على إثر قبول الحلف مبدأ التفاوض مع جورجيا وأوكرانيا للانضمام إليه. وفي أبريل (نيسان) 2014، علق الناتو جميع أشكال التعاون المدني والعسكري العملي؛ ردًا على “التدخل العسكري الروسي والأعمال العدوانية في أوكرانيا، وضمها غير القانوني وغير المشروع لشبه جزيرة القرم”، حسب وصف الناتو. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2021، قررت روسيا تعليق عمل بعثتها الدبلوماسية لدى الناتو، وطلبت من الأخير إغلاق مكتب معلوماته، وتعليق عمل بعثة الاتصال العسكري الخاصة به في موسكو.

تمددت “البوصة الواحدة” إلى (1,177,459) كم²، وتوسع الناتو بدءًا من 12 مارس (آذار) 1999، وضم على عدة مراحل: (التشيك، والمجر، وبولندا، وبلغاريا، وإستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، ورومانيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، وألبانيا، وكرواتيا، والجبل الأسود)، ومنذ عام 2008، قبل مبدأ التفاوض لضم جورجيا وأوكرانيا. وفي عام 2023 انضمت فنلندا، وبعدها بعام السويد، ومنذ تلك اللحظة ظل الجدل بين روسيا التي تتحدث عن “خيانة” أمريكا لكلمة “الشرف”، ورد الأخيرة بعدم وجود أي نص مكتوب بخصوص هذا “الوعد” الروسي المزعوم، وأن أحاديث المسؤولين السابقين غير الموثقة غير ملزمة للإدارات التالية ما دامت لم تُوثَّق توثيقًا قانونيًّا.

الدول الثلاثون الأعضاء في حلف شمال الأطلسي– الناتو

 

ما لم يدركه قادة الكرملين المتعاقبون أن الحلف لم يتأسس لمواجهة الشيوعية، أو الاتحاد السوفيتي ككيان سياسي ممثل لهذه الأيديولوجية. لقد كان تشرشل واضحًا في خطابه الشهير حول “الستار الحديدي”، عندما قال: “من شتيتين في بحر البلطيق إلى ترييستا في البحر الأدرياتيكي”[4]. لقد ذكر الجيوبوليتيك قبل الأيديولوجية، وهو ما أدركه الروس متأخرًا؛ إنه صراع على روسيا ودورها في أوروبا، بغض النظر عمن يحكمها، والأيديولوجية التي تتبناها.

بلدان الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي عام 1946

مهدت كل هذه العوامل لحدث الرابع والعشرين من فبراير (شباط) 2022، وصولًا إلى الذكرى الثالثة لهذه الحرب، وسط آمال شعبية روسية- أوكرانية، بأن تنتهي سريعًا بين الشعبين الشقيقين.

 

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع