مقالات المركز

روسيا والميثاق العالمي لحقوق الإنسان.. حرب ثقافية حول المفهوم والاستغلال


  • 24 ديسمبر 2023

شارك الموضوع

يدخل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر (كانون الأول) 1948، والذي اعتُرف به على نطاق عريض بوصفه “دستور” حركة حقوق الإنسان الحديثة، الذكرى الخامسة والسبعين لصدوره، وسط قدر كبير من الاضطرابات. فالنهج السائد في التعامل مع الحقوق التي يتضمنها هو أسلوب الانتقاء والاختيار؛ لذا تعرض مبدأ عالمية هذا البيان نفسه للخرق في بعض الأحيان من جانب الحكومات التي تدعي أن جميع الحقوق نسبية، وفي أحيان أخرى من جانب أولئك الذين يتهمون العالمية بأنها غطاء للإمبريالية الثقافية. ويكتسب الاتهام الأخير مصداقية مع تحول مؤتمرات الأمم المتحدة إلى ما يشبه مواقع التصنيع الخارجية، حيث تسعى مجموعات المصالح الخاصة- جاهدة- إلى فرض أجنداتها على العالم النامي، بوصفها “معايير دولية”.

في عام 1948، كان الاتحاد السوفيتي يعيش تحت حكم الزعيم الشيوعي يوسف ستالين، وكانت هذه فترة صعوبات اقتصادية شديدة في أعقاب الدمار والتفكك الذي سببته الحرب العالمية الثانية، وكان الاتحاد السوفيتي دولة الحزب الواحد، ويحكمها الحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي بأيديولوجية الدولة الماركسية اللينينية، وكانت الحقوق المدنية والسياسية والدينية الفردية مقيدة، ولكن النظام السوفيتي دافع عن أن الحقوق هي للجميع، للأمة، وصور هذا على أنه السمة المميزة للمجتمع الاشتراكي.

امتنع (ولم يكن ضد- هناك فرق قانوني هنا) الاتحاد السوفيتي عن التصويت على الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ودافع عن مفهوم لحقوق الإنسان يختلف عن مفهوم الحقوق السائد في الغرب، حيث أكدت النظرية القانونية الغربية ما يسمى بالحقوق “السلبية”: أي حقوق الأفراد ضد الحكومة. ومن ناحية أخرى، أكد النظام السوفييتي أن المجتمع ككل، وليس الأفراد، هو المستفيد من الحقوق “الإيجابية”، أي الحقوق من الحكومة. ومن هذا المنطلق، ركزت الأيديولوجية السوفيتية على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مثل الحصول على الرعاية الصحية، والإمدادات الغذائية الأساسية الكافية، بأسعار معقولة، والإسكان، والتعليم، وضمان فرص العمل. ومع تعامله مع هذه الضمانات خلال عقود ما بعد الحرب، تطور النظام السوفيتي إلى دولة رفاهية عملاقة، وأعلن الكرملين تحقيق هذه الحقوق والمزايا التي يحصل عليها المواطنون السوفيت منهم، كدليل على تفوق النظام الشيوعي السوفيتي على نظام الغرب الرأسمالي، فالأخير اهتم أكثر بالحقوق المدنية والسياسية الفردية على حساب المجتمع.

مع نهاية الحرب الباردة والمواجهة بين النظامين الشيوعي والرأسمالي، وخلافًا لتوقعات فرانسيس فوكوياما (1989)، لم تحدث “نهاية التاريخ”. وبدلًا من ذلك، ظهرت صراعات أيديولوجية جديدة، من بينها الصراعات الثقافية بين التقدميين والمحافظين. ويظهر هذا- بوضوح- في حالة الأمم المتحدة، حيث بدأ موضوع حقوق الإنسان يجذب مزيدًا من الاهتمام منذ التسعينيات، وأصبحت الحرية الدينية، والصحة الإنجابية والجنسية، والقيم العائلية جزءًا لا يتجزأ من جدول أعمال الأمم المتحدة.

استمرت النظرة الروسية السلبية إلى بيان حقوق الإنسان الأممي، واعتبرت أن هناك دورًا للغة حقوق الإنسان في تسييس صراعات القيم على الصعيدين المحلي والدولي. وتستغل الدول الغربية (الإمبريالية سابقًا) الخطاب الحقوقي وتوظّفه لتحقيق مصالحها من خلال آليات تجعل حقوق الإنسان تتجاوز، بل تهدد الدولة القومية، بل من الناحية القانونية يخلق هذا الخطاب نوعين من البشر، هما:

الأول: البشر المتميزون، يتمتع هؤلاء بجميع الحقوق، وعلى نحو متزايد في ظل اقتصاد سياسي معولم ومحرر، ولا تربطهم المواطنة بالدولة؛ لأنهم يمتلكون وسائل الإنتاج، أو يمتلكون وظائف آمنة أو مهارات قابلة للتسويق تمكنهم من التنقل عبر الحدود. هذه المجموعة ليس لديها اهتمام بحقوق الإنسان إلا بقدر ما تنجح سياسات حقوق الإنسان في جعل العالم أكثر استقرارًا وربحية بشكل عام. ويأتي حراكهم المحمي من وضع جنسيتهم (الغربية غالبًا)، وكذلك من ثرواتهم. فعندما يواجه أحد المتميزين ظروفًا سياسية غير مستقرة أو خطيرة، فمن المرجح أن يعود إلى وطنه، أو يلجأ إلى سلطات الدولة التي ينتمي إليها للتدخل نيابة عنه بدلًا من المطالبة بحقوق الإنسان. ومن ناحية أخرى، قد يكون هؤلاء أكثر ميلًا إلى التماثل مع حقوق الإنسان المعولمة في سياق احترافي داخل أطر عملية، مثل: العمل محامين، أو قادة منظمات دولية غير حكومية، أو باحثين- مع أنهم لا يرون أنفسهم موضوعًا لمطالبات حقوق الإنسان. ومع انفصالهم الهادئ عن الحماسة القومية المبتذلة، قد يكونون أيضًا أكثر ميلًا من غيرهم إلى الاحتفال بالفضائل العالمية على وجه التحديد، ومنها الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان الفردية.

 الثاني: البشر الهامشيون، يُحرم هؤلاء من معظم الحقوق، لا سيما الاقتصادية، فهم ليس لديهم عمل مدفوع الأجر، أو لديهم مشاركة غير آمنة، أو منخفضة الأجر، أو مشاركة جزئية في سوق العمل. ولا تتمتع هذه الفئة بحقوق المواطنة إلا بدرجات متفاوتة، وباختلاف أبعاد عدم المساواة، والتبعية، والتهميش، ومع ضعف الدول القومية (النامية أو ما يسمى العالم الثالث) نتيجة سياسات العولمة، يصبح هؤلاء عرضة أكثر للخطر، ومثال هؤلاء الهامشيين: الفلسطينيون، حيث لم تتمكن الأمم المتحدة من وقف العدوان الإسرائيلي على غزة؛ مما خلف عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين.

منذ عام 2010 تقريبًا، نصّبت روسيا نفسها مدافعًا عن القيم الدينية التقليدية ضد العلمانية، والليبرالية، وحقوق الإنسان الفردية التي تتبناها المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة، أو مجلس أوروبا. وبدت السياسة الخارجية الروسية أكثر انخراطًا ضد هياكل النظام الدولي الليبرالي لتعزيز أجندتها الاجتماعية المحافظة. وأدى نمو الأرثوذكسية الروسية إلى ظهور لاعب جديد بجوار الدول الإسلامية، والفاتيكان، والمنظمات غير الحكومية اليمينية المسيحية الأمريكية؛ مما يعيد تشكيل مفاهيم السياسة الدولية لحقوق الإنسان.

ومنذ تسعينيات القرن العشرين، تغير موقف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية تجاه الدولة الروسية من موقف نسبي في التبعية والشك المتبادل إلى موقف التعاون الوثيق والاعتماد المتبادل. ويؤدي الفاعلون الأرثوذكس الروس دورًا مركزيًّا أكثر من أي وقت مضى في وضع جدول الأعمال، وصنع القرار السياسي. منذ عام 2012 تقريبًا، عندما تولى الرئيس فلاديمير بوتين منصبه للمرة الثالثة، أصبحت المحافظة الأخلاقية الداعمة “للقيم التقليدية” هي النموذج الاجتماعي والثقافي والسياسي المهيمن. وأُقرت قوانين في روسيا تستحضر ديناميكية الحرب الثقافية، مع السماح للدولة بإدارة الاحتجاجات السياسية، والحد منها، وشُرِّعَت قوانين جديدة تستهدف “اللاأخلاقية” (ضد التجديف، و”العلاقات الجنسية غير التقليدية”)، وبلغ التغيير ذروته في تغيير الدستور الروسي عام 2020، الذي يكرس الإيمان بالله، والدفاع عن القيم العائلية التقليدية، والزواج بين الرجل والمرأة بوصفها مبادئ سياسية روسية أساسية.

لا تتوقف الأجندة الاجتماعية الروسية المحافظة عند موضوعات الحرب الثقافية الكلاسيكية المتعلقة بالأسرة، والحياة الجنسية، والتعليم؛ إنها تخلق موضوعات جديدة، وتسيّسها بطريقة تعزز- بشكل إستراتيجي- الاستقطاب بين قواعد عالم أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة، وعالم ترغب موسكو في أن يكون مُتعدد الأقطاب، وذات دور قيادي فيه. وتنضم الصين إلى الرؤية الروسية في هذا الأمر، حيث تدعو بكين هيئة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة إلى التركيز على “الحوار البناء”، والامتناع عن “توجيه أصابع الاتهام”، وعدم استخدام المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان ذريعةً “للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى”.

وفي إشارة إلى إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان، قال وزير خارجية الصين السابق تشين جانج إن التحديات الأخيرة، من جائحة (كوفيد- 19) إلى الجوع العالمي، وتغير المناخ، تُثير مسألة “كيف يمكن تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها بشكل أفضل؟ ودعا مزيد من البلدان إلى عدم “تقليد نموذج الآخرين”؛ بل إلى اختيار “مسارها الخاص لتنمية حقوق الإنسان” الذي يأخذ في الحسبان “خلفيتها التاريخية الفريدة، وتراثها الثقافي، وظروفها الوطنية، واحتياجات شعوبها”.

لكن على صعيد آخر، قد يكون تقديم روسيا بوصفها قوة مُحافظة عالميًّا تتبعها الصين فيه قدر من المُبالغة، حيث يتسم التيار المحافظ الروسي بالاختلاف الشديد حد التشرذم، فالبعض يرى مهمة روسيا في العالم دينية، وهنا يبزغ دور الكنيسة، وآخرون يرونه دورًا جيوسياسيًّا؛ مما يضخم دور مؤسسات الدولة، في حين يرى بعض القوميين المحافظين مثلًا أن هناك ضرورة لتنمية روسيا داخليًّا قبل تطلعها إلى القيام بأي دور على الساحة الدولية، ويرى معارضوهم من داخل تيار المحافظين أن موسكو قادرة الآن على أخذ زمام المبادرة في إعادة تشكيل النظام العالمي جذريًّا؛ لذا من الأدق حاليًا اعتبار أن روسيا تعيش حالة من تنامي الفكر المحافظ أكثر من اعتبارها قوة محافظة عالميًّا.

وفي كل الأحوال، فإن العلاقة بين الأيديولوجيا المحافظة وممارسات الدولة الروسية أضعف مما يُفترض في كثير من الأحيان. في عام 2001، أشار وزير الخارجية الروسي آنذاك إيغور إيفانوف إلى أن “الدبلوماسية الروسية تنجح دائمًا عندما تسترشد باعتبارات واقعية وعملية، وتفشل عندما تهيمن عليها الأيديولوجية الإمبراطورية والطموحات المسيحانية”. وبشكل عام، تظل السياسة الخارجية الروسية- منذ التسعينيات- تُعبر عن دولة تريد أن تجد مقعدًا لها على الساحة الدولية، وليس تخريب النظام العالمي، تريد أن تشارك في صياغة المواثيق المعولمة، لا أن يُفرض عليها ميثاق غربي الطابع لا يأخذ مصالحها في الحسبان؛ لذا فإن موقف موسكو من ميثاق حقوق الإنسان لا يخرج عن هذا المنظور، بل أكثر من هذا فإن حربها في أوكرانيا هي تذكير للغرب بأنها تريد أن تكون شريكًا وليس عدوًّا، ولو أشركها الغرب- ولو بشكل تمثيلي- لقبلوا به، ولكن ما دام الغرب مستمرًا في سياسة فيها إقصاء، بل احتقار للمصالح الروسية، فسيتستمر تعنت روسيا، ويظهر بأسماء كثيرة: إمبراطورية، أو محافظة… إلخ.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع