منذ اليوم الأول للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كانت روسيا هي “المنصة السياسية” التي اتكأ عليها الموقف العربي في بناء “مسار سياسي” لوقف الحرب، و”تصحيح الأخطاء” التي لحقت بمسيرة السلام الإسرائيلية الفلسطينية، وقادت- بسبب الانفراد الأمريكي بعملية السلام- إلى المشهد المأساوي في الأراضي الفلسطينية، وخاصة في قطاع غزة، والضفة الغربية.
ومن يراجع ساعات أيام الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتفاصيلها، سوف يتأكد له الدعم الروسي الكامل للإنسانية، وللشعب الفلسطيني، والموقف العربي؛ عندما استقبلت موسكو موسى أبو مرزوق، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وبعد ذلك قدمت أول “مشروع قرار” في مجلس الأمن يدعو إلى وقف إطلاق النار. وعندما حاولت واشنطن تحميل حماس والشعب الفلسطيني- وحدهما- مسؤولية الحرب، كانت البعثة الدبلوماسية الروسية في مجلس الأمن “حائط صد” أمام الادعاءات والأكاذيب الإسرائيلية والأمريكية، وهو ما أدى- أكثر من مرة- إلى تلاسن بين البعثتين الدبلوماسيتين الروسية والإسرائيلية في مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد أن نددت روسيا في جميع جلسات مجلس الأمن بالرفض الأمريكي لوقف إطلاق النار.
وطوال أكثر من 82 يومًا من الحرب على غزة، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دائمًا ما يؤكد ضرورة وقف إطلاق النار، ودخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة دون قيد أو شرط. ولا يمكن للدول والشعوب العربية أن تنسى الموقف الروسي القوي والواضح والقاطع عندما شبّه الرئيس فلاديمير بوتين، في 13 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الحصار والمجازر الذي يتعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة بالحصار الطويل الذي تعرضت له مدينة لينينغراد الروسية في الحرب العالمية الثانية، وهي إشارة كافية من الرئيس بوتين، تؤكد أن الشعب الفلسطيني على طريق الحرية والكفاح، وسوف ينتصر في النهاية كما انتصرت روسيا، ومعها كل الشعوب السوفيتية، على النازية في الحرب العالمية الثانية.
وكشفت زيارة الرئيس بوتين للسعودية والإمارات في 6 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، “المساحات المشتركة”، و”الإرادة السياسية المتطابقة” بين روسيا والعالم العربي بشأن مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو ما أكده الطرفان في أثناء انعقاد المنتدى العربي الروسي في مدينة مراكش المغربية في 20 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، وهو ما يؤكد أننا أمام “تقارب تاريخي” بين روسيا والعالم العربي، في مقابل ابتعاد وتباعد عربي عن الولايات المتحدة الأمريكية، التي انحازت- انحيازًا سافرًا وغير مقبول من الشعوب والدول العربية- إلى الاحتلال الإسرائيلي، دون أي مراعاة للمصالح والمشاعر العربية، فكيف لموسكو والدول العربية أن تبلور “مقاربة مشتركة” لليوم التالي لوقف الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة في جميع القضايا السياسية والاقتصادية والأمنية؟ وإلى أي مدى يمكن “للاعتماد المتبادل” بين الطرفين العربي والروسي أن يعزز مصالح موسكو والعالم العربي في مرحلة ما بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؟
المؤكد أن الدعم الروسي الكامل للمواقف والمصالح العربية خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، فتح “فصلًا تاريخيًّا جديدًا” في العلاقة بين الطرفين، هذا الفصل الجدّي في العلاقة بين الطرفين يمكن أن تأخذ صفحاته كثيرًا من المسارات والخطوات، ومنها:
أولًا: شراكة القيم
كشف تقارب المصالح الروسية العربية خلال الحرب الإسرائيلية على غزة عن وجود “شراكة من القيم الحقيقية” التي تجمع بين روسيا والدول العربية، والتي نراها في قضايا وملفات كثيرة، منها:
ثانيًا: خريطة طريق جديدة
هناك اتفاق روسي عربي بشأن “خريطة طريق” لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعد نهاية الحرب على غزة؛ من خلال سلسلة من الخطوات:
ثالثًا: معادلة مشتركة
نجحت الدول العربية وروسيا في بلورة “معادلة مشتركة” بشأن التحديات التي تواجهها سوريا في المستقبل، ويمكن للطرفين العربي والروسي أن يعملا وفق أهدافهما المشتركة نحو تأكيد أهمية الدور العربي الروسي المشترك في دعم الجهود المبذولة لتسوية الأزمة السورية، ومعالجة تبعاتها السياسية، والأمنية، والإنسانية، وفق منهجية خطوة بخطوة، ورفض جميع التدخلات الخارجية في سوريا، وأي وجود أجنبي غير مشروع على الأراضي السورية، وإدانة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عليها، والوقوف إلى جانب سوريا في ممارسة حقها في الدفاع عن أرضها وشعبها.
رابعًا: محاربة الإرهاب
لعل ما يجمع الجانبين العربي والروسي هو رؤيتهما المشتركة بشأن ضرورة مكافحة الأفكار الإرهابية والظلامية والمتطرفة، مع رفض وإدانة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره، ورفض ربط الإرهاب بأي عرق، أو دين، أو جنسية، أو حضارة. ولا يمكن لأحد أن ينسى الدور الكبير الذي اضطلعت به روسيا في مكافحة الجماعات الإرهابية التي حاولت أن تخطف سوريا من هويتها العربية المعتدلة، ويشهد الجميع لدور روسيا والجيش الروسي في هزيمة ودحر التنظيمات الإرهابية التي مولها الغرب في سوريا منذ مارس 2011، وهو ما يجعل للجانين العربي والروسي تاريخًا حافلًا، ورؤية مستقبلية لمكافحة الإرهاب، من خلال تعزيز الحوار، والتسامح، والتفاهم بين الثقافات، والشعوب، والأديان.
خامسًا: عالم متعدد الأقطاب
تؤكد “الهندسة الجديدة” التي شهدها العالم العربي والشرق الأوسط منذ اتفاق العلا في يناير (كانون الثاني) 2021، قدرة روسيا والعالم العربي على إعطاء دفعة قوية للديمقراطية في العلاقات الدولية؛ من أجل بناء “عالم متعدد الأقطاب”، يراعي مصالح كل القوى والدول، بعد أن تم تجاهل مصالح الدول العربية، وكل دول “الجنوب”، منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991. ويشهد التعاون العربي الروسي في منظمة “أوبك بلس”، ومباركة روسيا للتقارب الإيراني السعودي، وعودة العلاقات التركية مع مصر والإمارات والسعودية والبحرين، على أن “الشراكة الروسية العربية” لن تكون “جسرًا للتعاون الإقليمي والدولي” فحسب؛ بل منصة جديدة لبناء عالم متعدد الأقطاب، تجلس فيه روسيا مع العالم العربي على “مقاعد الكبار”.
سادسًا: تشابه الأدوات والأهداف
أثبتت الحرب الإسرائيلية في غزة تشابه “الأدوات والأهداف” العربية الروسية، ومنها المجالات الاقتصادية، في ظل تنامي التعاون الاقتصادي الروسي العربي؛ من خلال “المنتدى العربي الروسي” الذي سيعقد دورته السابعة في موسكو العام المقبل، وسيأخذ هذا التعاون الاقتصادي زخمًا إضافيًّا مع دخول مصر والسعودية والإمارات تكتل “بريكس” بداية من الأسبوع المقبل، وتأكيد الرئيس بوتين قرب توقيع مصر والإمارات اتفاقية تجارة حرة مع “التحالف الاقتصادي الأوراسي”، الذي يضم نحو 190 مليون مستهلك.
الواضح للجميع أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة- رغم كل مآسيها- كشفت لروسيا والدول العربية أنهما في “خندق واحد”، وكما جمعهما في السابق تاريخ مشترك، فإن مستقبلًا وطريقًا واحدًا ينتظران الشعبين الروسي والعربي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.