يقول المغني الأمريكي الأشهر بول سيمون: “الأرقام لا بد أن تترك لك علامة على الباب”، فمنذ عام 2013 التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكثر من 40 لقاء وقمة مع نظيره الصيني شي جين بينغ، منها 4 لقاءات هذا العام وحده، الأول كان في موسكو، والثاني في بيجين، والثالث في الأستانة على هامش قمة شنغهاي، والرابع سوف يكون في شهر أكتوبر المقبل بمناسبة استضافة روسيا قمة “بريكس”.
هذه القمم الروسية الصينية تكشف مدى الانسجام والتوافق في العلاقة بين موسكو وبيجين، في ظل تحديات مشتركة غير مسبوقة على جميع المستويات السياسية، والعسكرية، والأمنية، والاقتصادية، وهو ما يؤكد فشل كل محاولات واشنطن إفساد العلاقة بين بيجين وموسكو، فالبلدان بات لهما هدف مشترك للوصول بالتجارة إلى أكثر من 300 مليار دولار، بعد أن ظلت الصين الشريك التجاري الأول لروسيا على مدار 13 عامًا، وصعدت روسيا إلى المركز الرابع في ترتيب الشركاء التجاريين للصين منذ عام 2023، وبداية من عام 2022، أعلنت بكين وموسكو شراكة “لا حدود لها”.
وفيما حلت هذا العام الذكرى الخامسة والسبعون للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بات كلا الشعبين الروسي والصيني أكثر إدراكًا ووعيًا بخطورة الاندفاعة الغربية لمحاصرة أحلام البلدين وجهودهما في تغيير مسار الكوكب نحو عالم متعدد الأقطاب، وديمقراطية حقيقية في العلاقات الدولية، وقد تجسدت هذه الإرادة السياسية المشتركة في توقيع روسيا والصين على “وثيقة تعميق الشراكة الشاملة والتعاون الإستراتيجي”، التي أكدت أن روسيا والصين مصممتان على الدفاع عن حقوقهما ومصالحهما المشروعة، ومقاومة أي محاولات لعرقلة التطور الطبيعي للعلاقات الثنائية والتدخل في الشؤون الداخلية للدولتين، أو تقييد الإمكانات الروسية والصينية على صعيد الاقتصاد، أو التكنولوجيا، أو السياسة الخارجية، وهو ما جعل العلاقات الروسية الصينية “عامل استقرار” على الساحة الدولية، وهدف روسيا والصين من كل ذلك هو المساهمة في بناء “مصفوفة من القيم المشتركة” ترتكز على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، واحترام النمط التنموي والسياسي لكل دولة، والالتزام بالمعايير الدولية وقرارات الأمم المتحدة. فما المرحلة الجديدة التي تستعد روسيا والصين للعمل بها؟ وكيف تسهم المصالح المشتركة والرؤية الواحدة في بناء “عالم جديد” ينظر بعدالة وإنصاف إلى أوجاع البشرية التي تعمقت جراحها منذ هيمنة نظام “القطب الواحد” على عالم ما بعد نهاية الحرب الباردة؟
كل يوم يؤكد أن المساحة المشتركة والمصالح الوطنية هي التي تشكل الركائز الحقيقية للتعاون الصيني الروسي، فضلًا عن “الاستهداف المزدوج” من الغرب لكل من روسيا والصين؛ ولهذا قال الرئيس بوتين في شهر مايو (أيار) الماضي عندما كان في بيجين: “الشراكة الروسية الصينية تقوم على مبادئ المساواة والثقة والاحترام المتبادل للسيادة، ومراعاة مصالح بعضهما بعضًا، وهناك دور خاص ومهم في تطوير علاقاتنا قام به سياسيون حكماء، وبعيدو النظر، ورجال دولة مثل الرئيس الصيني شي جين بينغ”.
هذه المواقف والكلمات القوية تؤكد أننا أمام تقارب تاريخي بين روسيا والصين يقوم على مجموعة من الروافع، وهي:
أولًا: تحدٍّ واستهداف
أكثر العوامل التي تجمع بين روسيا والصين هو استهدافهما من جانب الغرب بقيادة الولايات المتحدة، فواشنطن تقود حلف دول شمال الأطلسي (الناتو) للتوسع شرقًا على حساب الأمن القومي الروسي، وتزود أوكرانيا بكل السلاح والذخيرة بهدف إنزال الهزيمة الإستراتيجية بروسيا، وبالتزامن مع ذلك تؤسس التحالفات العسكرية، وتبني القواعد في الحديقة الخلفية لمنع الصين من التقدم والوصول إلى قمة هرم القيادة الدولية. وبالإضافة إلى إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية منذ ديسمبر (كانون الأول) 2017 التي تقول إن روسيا والصين تشكلان الخطر الإستراتيجي على الولايات المتحدة، أكد التقرير السنوي للاستخبارات الوطنية الأمريكية، الصادر في 11 مارس (آذار) 2024، استمرار تصاعد التهديد الصيني والروسي لمكانة الولايات المتحدة في العالم، وهي المعاني نفسها التي جاءت في التقرير السنوي لعام 2023 لحلف “الناتو”، الصادر في مارس (آذار) العام الجاري 2024، القائم على الموقف المتشدد للحلف تجاه الصين وروسيا، الذي حذر مما سمّاه “تنامي التحالف” بين روسيا والصين.
ثانيًا: رؤية قيادية مشتركة
نجحت الأجيال المتعاقبة من القيادة في روسيا والصين في الحفاظ على زخم العلاقات القوية بين الشعبين والبلدين، ففي عام 1992 أعلنت موسكو وبيجين أنهما تسعيان إلى “شراكة بناءة”، وفي عام 1996، تقدمتا نحو “الشراكة الإستراتيجية الشاملة”، وفي عام 2001، وقع البلدان على معاهدة الصداقة والتعاون”، لكن مع تولى الرئيس بوتين الرئاسة في روسيا، والرئيس شي للقيادة في الصين، ومع انتخاب الرئيس بوتين حتى عام 2030، والرئيس شي حتى 2028، وجد البلدان أنهما أمام نمط تفكير متشابه لدى القيادتين يقوم على تعزيز المصالح المشتركة، واستقلال القرار الوطني، لذلك عملا معًا من أجل أهداف كثيرة ناجحة، مثل “مجموعة البريكس”، ومنظمة “شنغهاي للتعاون”، وتعزيز العلاقات مع “عالم الجنوب” الذي بات ساحة دعم حقيقية للمواقف الصينية والروسية على الساحتين الإقليمية والدولية.
ثالثًا: الاعتمادية المتبادلة
شهدت العلاقات الروسية الصينية أعلى مستوى من “الدعم المتبادل والمشترك” منذ اليوم الأول للحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير (شباط) 2022، فروسيا تدعم سياسة “صين واحدة”، وأن تايوان هي جزء من الأراضي الصينية، في حين تدعم روسيا الأمن والاستقرار في الصين من خلال ضمان الأمن والاستقرار على الحدود بين الدولتين التي يبلغ طولها نحو4300 كم. كذلك تدعم روسيا الاستقرار في أقاليم الصين التي تشهد تدخلات غربية، مثل هونغ كونغ والتبت، وتساعد روسيا على تحقيق السلام والاستقرار في الحديقة الخلفية للصين، خاصة في منطقة آسيا الوسطى، وجنوب القوقاز التي يمر من خلالها مشروع “الحزام والطريق” الصيني. على الجانب الآخر، تدعم الصين -على نحو غير مباشر- المواقف الروسية فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية، ووقفت الصين “كتفًا بكتف” بجوار روسيا، من خلال زيادة حجم التجارة البينية بين البلدين إلى أكثر من 240 مليار دولار عام 2023، وهو ما يشكل “دعمًا نوعيًّا”، وغير مسبوق، خاصة ما تحصل عليه روسيا من بضائع مدنية بدلًا من البضائع الغربية التي أوقفت الولايات المتحدة والدول الغربية تصديرها إلى روسيا. وتدعم روسيا “الرؤية الصينية” الرافضة للسياسة الأمريكية “لعسكرة” بحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي، وهذا تعكسه المناورات العسكرية الروسية الصينية المشتركة، التي كان آخرها مناورات “المحيط 2024”، التي استمرت من 10 إلى 16 سبتمبر (أيلول) الجاري.
رابعًا: أهداف جيو- اقتصادية
بعيدًا عن الأرقام التي تعكسها زيادة معدلات التجارة بين البلدين، هناك أهداف جيو- اقتصادية تتعلق بالعمل الروسي المشترك على “إضعاف الدولار”، من خلال زيادة معدلات التبادل التجاري “بالعملات الوطنية”، وإيجاد وسائل جديدة للتحويلات المالية، بعيدًا عن “نظام سويفت” الغربي، وأن يكون الناتج القومي ونسبة المشاركة في التجارة الدولية لمجموعة “بريكس” أكبر من الناتج القومي لمجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى. ويشكل التعاون الاقتصادي الصيني مع روسيا “شريانًا حيويًّا” لسلاسل الإمداد للصناعات الروسية، خاصة تلك التي فُرضت عقوبات اقتصادية عليها، وفي مقدمتها التكنولوجيا الدقيقة، ومستلزمات الإنتاج الصناعي. في المقابل، تحقق روسيا “أمن الطاقة” للصين، التي هي أكبر مستورد للطاقة في العالم، حيث تصدر روسيا الغاز والنفط والفحم واليورانيوم والكهرباء إلى الصين، ويسعى البلدان إلى بناء خط مباشر لنقل الغاز من روسيا إلى الصين، وهو خط “قوة سيبريا الثاني”، ليعمل بجوار خط “قوة سيبريا الأول”، والخط الجديد سوف ينقل 55 مليار متر مكعب من الغاز، وبذلك يساوي خط “نورد ستريم 2” الذي فُجِّر في سبتمبر (أيلول) 2022، والذي كان سينقل 55 مليار متر مكعب من الغاز الروسي إلى ألمانيا وأوروبا.
خامسًا: نظام متعدد الأقطاب
تصب كل خطوات التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري الروسية الصينية نحو هدف واحد، وهو تشكيل نظام عالمي جديد “متعدد الأقطاب”؛ لأن البلدين يرفضان سياسة الهيمنة التي يقوم بها القطب الواحد الأمريكي منذ نهاية الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991؛ ولهذا دعا الكرملين في وثيقة مبادئ السياسة الخارجية الروسية الجديدة، التي دخلت حيز النفاذ في 31 مارس (آذار) 2023، إلى إقامة نظام عالمي “عادل ومستدام” يضمن الأمن الموثوق به، ويحافظ على “الهوية الثقافية والحضارية” للدول، وأيضًا على “تكافؤ الفرص” في التنمية لجميع الشعوب، وكثيرًا ما طالب الرئيسان الصيني والروسي بضرورة بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب يضمن الديمقراطية والعدالة في الساحة الدولية.
سادسًا: معارضة التحالفات العسكرية
رغم التعاون الكبير والتاريخي بين روسيا والصين في مجالات التسليح والمناورات المشتركة، وتبادل الخبرات العسكرية، فإن موسكو وبيجين لم تعلنا -في أي وقت من الأوقات- بناء “تحالف عسكري” بينهما، حتى لو كانت طبيعة العلاقات بين الصين وروسيا وصلت إلى مستوى أعلى وأسمى من التحالف؛ ولهذا ترفض القيادة في البلدين نمط “التحالفات العسكرية الغربية” التي تؤسسها وتوسع دائرتها الولايات المتحدة لاستهداف روسيا والصين، مثل تحالف “أوكوس” الذي أسسته الولايات المتحدة في 21 سبتمبر (أيلول) 2021 مع أستراليا وبريطانيا، وتحالف “كواد الرباعي” الذي يضم مع الولايات المتحدة كلًا من الهند، واليابان، وأستراليا، كما تعارض الصين سياسة توسع “الناتو” ناحية الحدود الغربية لروسيا، وتعارض روسيا استنساخ نسخة آسيوية من حلف “الناتو” فى آسيا، أو منح حلف “الناتو” الحالي أي دور في شرق آسيا وجنوب شرقها.
سابعًا: حسابات إستراتيجية
أقوى شيء يربط بين روسيا والصين هو احترام كل طرف للحسابات والمعادلات الإستراتيجية للطرف الآخر، فبينما الحرب مفتوحة بين روسيا والغرب، لا تزال الصين تحتفظ بعلاقات تجارية تصل إلى تريليوني دولار مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوربي، وحلفائهما الآسيويين (اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا)؛ ولهذا لا تطلب روسيا من الصين أكثر مما تقدمه في الوقت الحالي، كما أن الصين تعلم تمامًا أن كل خطوة تخطوها روسيا ضد الغرب تؤجل خطط الغرب تجاه الصين.
المؤكد أن القمة المقبلة بين الرئيس بوتين ونظيره الصيني في روسيا سوف تبني على ما تحقق من ثمار كثيرة تحققت للبلدين على مدى السنوات الماضية، والمؤكد أيضًا أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة لن يتوقف عن محاولات زرع بذور الشك بين روسيا والصين، وهو ما تدركه جيدًا كل من بيجين وموسكو.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.