مقالات المركز

روسيا وإفريقيا.. شراكة في القيم والمصالح


  • 25 ديسمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: kuna.net.kw

يقول المثل الإفريقي الشهير: “الماضي هو صفحة في كتاب، لكن المستقبل هو الكتاب الذي لم يُكتب بعد”. ومن تابع فعاليات “المؤتمر الوزاري الثاني لمنتدى الشراكة الروسية الإفريقية”، الذي استضافته القاهرة يومي 19 و20 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، سوف يتأكد من “الكيمياء المشتركة” التي تجمع بين الشعوب الإفريقية وروسيا، وهو ما ظهر جليًا في كلمات وفود أكثر من 50 دولة شاركت في المنتدى الذي كشف للقريب والبعيد أن الأجيال الجديدة من الأفارقة والروس عازمة على كتابة فصول جديدة في تاريخ العلاقات الروسية الإفريقية التي كانت دائمًا عنوانًا “للدعم المتبادل” في أوقات الشدة والأزمات، منذ دعم الاتحاد السوفيتي السابق لتحرر الدول الإفريقية من الاستعمار.

فمن يدقق في توجهات النخبة الإفريقية الحالية سوف يكتشف الارتباط العميق الذي ربط الروس بالأفارقة على مدار أكثر من 6 عقود، حيث كافحت روسيا والاتحاد السوفيتي السابق من أجل دعم طموحات الشعوب الإفريقية في التنمية والازدهار، منذ نجاح الاتحاد السوفيتي السابق عام 1960 في اعتماد إعلان الأمم المتحدة بشأن منح الاستقلال للدول والشعوب المستعمرة، الذي أعطى الحق للدول الإفريقية للتخلص من جميع أشكال الاستعمار العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي. ورغم تراجع العلاقات الإفريقية الروسية نتيجة لتفكك الاتحاد السوفيتي السابق في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991، فإن القوة والعافية عادت تدب من جديد في شرايين العلاقات الروسية الإفريقية مع وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى الحكم في نهاية ديسمبر (كانون الأول) 1999، وهو ما أضفى من جديد زخمًا وقوة في العلاقات الروسية الإفريقية؛ حيث زار روسيا أكثر من 40 زعيمًا إفريقيًّا منذ عام 2015، واستضافت مدينة سوتشي القمة الإفريقية الروسية الأولى عام 2019، كما استضافت مدينة سانت بطرسبورغ القمة الإفريقية الروسية الثانية في يوليو (تموز) 2023. وتستعد روسيا والدول الإفريقية لعقد النسخة الثالثة من القمة الروسية الإفريقية في العام الجديد، الذي يحمل آمالًا كبيرة لزيادة مستويات التعاون الإفريقي الروسي بعد أن وصل معدل التجارة البينية العام الماضي إلى نحو 27 مليار دولار، وهناك رؤية للوصول بالتجارة بين الطرفين إلى نحو 50 مليار دولار عام 2030. فما الذي يجمع بين الروس والأفارقة؟ وكيف يمكن تعظيم مكاسب الجانبين خلال الفترة المقبلة؟ وإلى أي مدى يمكن بناء معادلات وحسابات جديدة تكون رافعة لتغيير شكل العلاقات بين الدول بما يرسخ النموذج القائم على احترام خصوصيات الدول والشعوب؟

5قرون

لم تبدأ العلاقات بين إفريقيا وروسيا أيام الاتحاد السوفيتي السابق الذي أسس للعلاقات الدبلوماسية مع مصر منذ عام 1943، لكن العلاقات بين الشعوب الإفريقية وروسيا تعود إلى القرن السادس عشر، وتحديدًا عام 1556، في عهد “إيفان الرابع”، الذي كان حريصًا على دعم العلاقات الروسية مع مصر. وعندما حاول الوالي علي بك الكبير عام 1772 أن يستقل بمصر، وقفت “الإمبراطورة كاترينا الثانية” إلى جانب مصر، وأرسلت أسطولًا بحريًّا في شرق المتوسط لدعم الرغبة المصرية في الاستقلال. ومنذ عام 1882 افتتحت روسيا القيصرية “قنصلية عامة” لها في القاهرة، وقدمت روسيا خلال تلك الفترة كل المساعدات التي كانت تحتاج إليها مصر، خصوصًا ما يتعلق بالتعدين والصناعة وبناء السفن. وحاليًا يوجد في إفريقيا نحو 330 مشروعًا عملاقًا دعمته روسيا والاتحاد السوفيتي وأسهمت في إنجازه، منها أكثر من 90 مشروعًا هنا في مصر. أبرز هذه المشروعات الضخمة بالطبع مشروع بناء السد العالي؛ حيث دعم الاتحاد السوفيتي السابق الإرادة المصرية في بناء هذا المشروع الطموح بعد توقف الغرب بقيادة الولايات المتحدة عن تمويله، فضلًا عن الدعم الروسي الكامل وغير المشروط لإنشاء أول محطة للطاقة النووية في إفريقيا في “الضبعة” وتمويلها، وإنشاء أكبر منطقة اقتصادية للصناعات الروسية ضمن محور قناة السويس، لتكون مصر بوابة للصناعات الروسية إلى كل إفريقيا.

“البصمة الروسية” يمكنك أن تلمسها في جميع أقاليم إفريقيا؛ من جنوب البحر الأبيض المتوسط إلى حوض النيل والقرن الإفريقي، مرورًا بمنطقتي الساحل والصحراء، وصولًا إلى إفريقيا جنوب الصحراء، حيث تتعمق “المقبولية الروسية” لدى الشعوب الإفريقية. فبعد طرد القوات الفرنسية والأمريكية من دول مثل النيجر، وبوركينا فاسو، ومالي، وتشاد، وغينيا بيساو، باتت روسيا هي الوجهة الموثوق بها؛ ففي الفترة من 2015 حتى 2023، أرسلت أكثر من 40 دولة إفريقية أبناءها لتلقي الخبرة في المعاهد والمدارس العسكرية الروسية. كما أن الأفارقة باتوا “الوجه الأبرز” بين الحضور في مختلف المنتديات الاقتصادية الروسية، مثل منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي، ومنتدى قازان الدولي، وأسبوع الطاقة الروسي.

لماذا روسيا؟

السؤال الذي تطرحه كثير من الدول الغربية يدور حول الأسباب التي جعلت روسيا “الصديق القريب” من كل الدول الإفريقية بلا استثناء. ورغم وجود عشرات الأسباب، فإن هناك 5 أسباب رئيسة، وهي:

أولًا- شراكة القيم

المؤكد أن هناك مصالح كثيرة وعميقة تجمع بين روسيا وإفريقيا، لكنَّ هناك شيئًا يفوق المصالح، وهي “القيم المشتركة”؛ فمن يراجع الخطاب السياسي والإعلامي الغربي يتأكد أنه خطاب يقوم على “الاستعلاء السياسي”، وعلى تصنيفات سياسية وأخلاقية ترفضها جموع الدول الإفريقية؛ فالرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترمب وصف الدول الإفريقية بأبشع الأوصاف، ولم يعتذر عنها في يوم من الأيام، وخلال ولايته الأولى لم يزُر أي دولة إفريقية. والرئيس الأمريكي السابق جو بايدن قسّم العالم إلى فسطاطين؛ الأول أسماه تحالف “القيم”، وكان يقصد بها القيم الغربية والأمريكية، وضم تحالف القيم هذا نحو 100 دولة، وهذا يعني أنه استثنى واستبعد نحو 100 دولة أخرى غالبيتها من إفريقيا.

لكن على الجانب الآخر، تتقاسم روسيا وإفريقيا “القيم” نفسها التي تقوم على “عدم المشروطية السياسية”، واحترام النموذج التنموي لكل دولة دون التدخل في شؤونها الداخلية؛ ولهذا رفعت غالبية الشعوب الإفريقية -التي طردت الجيوش الفرنسية والأمريكية- صور الرئيس بوتين، وهو ما يشبه الاستفتاء على قبول التعاون مع روسيا التي لا تضع شروطًا، ولا “فيتو” على أي نوع من التعاون مع دول “القارة الشابة”، فلم يسبق لروسيا أن تدخلت في الشؤون الداخلية لأي دولة إفريقية؛ حيث تنطلق روسيا من “المساحات المشتركة” التي تجمعها مع الشعوب الإفريقية منذ عقود وقرون طويلة، فالتاريخ شاهد على أنه لم يكن في يوم من الأيام أي خلافات بين روسيا وإفريقيا.

ثانيًا- روح الجنوب

طوال عقود طويلة من الاستعمار الغربي لإفريقيا غاب فيها الصوت الإفريقي عن الساحة الدولية، في حين تدعم روسيا بوضوح “العدالة” في العلاقات الدولية التي تعطي إفريقيا “مكانها ومكانتها” في صياغة القرارات الدولية، خصوصًا تلك القرارات التي تتعلق بمستقبل القارة الشابة التي يصل عدد سكانها إلى ما يزيد على 1.4 مليار نسمة، وبلغ إجمالي الناتج القومي في 2024 نحو 2.8 تريليون دولار، وهو ما يؤكد وجهة النظر الروسية التي تدعم حصول إفريقيا على مقعد أو مقعدين دائمين في مجلس الأمن الدولي، وتعمل الدبلوماسية الروسية على جعل “القارة الشابة” مركزًا مؤثرًا في العالم المتعدد الأقطاب. وتأتي هذه الأولوية في صدارة أهداف السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية، التي تؤكد حق الأفارقة في تقرير مساراتهم ونماذجهم للتنمية على نحو مستقل، واختيار شركائهم الدوليين باستقلالية كاملة.

ثالثًا- الدعم المتبادل

يشهد التاريخ، وكذلك الحاضر، أن روسيا وإفريقيا دعما بعضهما بعضًا على مدار العقود الماضية، فلم ينس الأفارقة قط موقف الاتحاد السوفيتي الذي ظل يدعم الدول الإفريقية حتى بعد استقلالها بالمال والغذاء والسلاح. وخلال جائحة كورونا، شاركت روسيا اللقاحات التي أنتجتها مع الدول الإفريقية دون مقابل. وتكرر ذلك عندما أرسلت روسيا آلاف الأطنان من القمح إلى عدد من الدول الإفريقية؛ دعمًا للأمن الغذائي في هذه الدول؛ ولهذا رفضت الدول الإفريقية الانضمام إلى “العقوبات الأحادية” التي فرضتها الدول الغربية على روسيا بعد فبراير (شباط) 2022. وعندما مارست الولايات المتحدة ضغوطًا على الدول الإفريقية لعدم المشاركة في القمة الروسية الإفريقية الثانية في يوليو (تموز) عام 2023، رفضت الدول الإفريقية هذه الضغوط، وشارك 49 وفدًا إفريقيًّا في هذه القمة. وكانت هذه المشاركة الإفريقية الواسعة بداية النهاية لحديث الإعلام الغربي عن “عزلة روسيا” على الساحة الدولية. ورغم الضغوط السياسية والاقتصادية التي يمارسها الغرب ضد روسيا خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، فإن دعم روسيا لإفريقيا لم يتوقف يومًا، خصوصًا في ملفات التنمية، ومحاربة الإرهاب. وتؤكد روسيا دائمًا أنها في “الخندق الإفريقي” نفسه عند مواجهة إفريقيا أي تحدٍّ من التحديات، وهو ما دفع عشرات الدول الإفريقية لكي تطرق باب التعاون والشراكة مع موسكو.

رابعًا- أرباح للجميع

النتيجة التي لا يختلف عليها اثنان هي أن الاستعمار نهب مقدرات إفريقيا على مدار ما يقرب من قرن ونصف القرن، وحتى عندما خرج عسكريًّا، ربط الاقتصاد الإفريقي بالاقتصاد الأوروبي عن طريق أدوات كثيرة، منها الشركات الأوروبية العابرة للحدود، و”الفرنك الإفريقي”، وهو ما جعل إفريقيا تعيش في فقر، ونزاعات حدودية، وصراعات داخلية، لكن المقاربة الروسية تختلف تمامًا؛ لأنها تقوم على معادلة “الجميع رابحون”؛ فروسيا لا تسعى وراء المواد الخام والمعادن النادرة مثل الدول الغربية، حيث تصل مساحة روسيا إلى أكثر من 17.5 مليون كم²، وفيها جميع مصادر الطاقة من فحم وبترول وغاز وكهرباء ويورانيوم، ولدى روسيا كذلك جميع المعادن النادرة التي تحتاج إليها الصناعات الحديثة؛ لذلك تقوم العلاقات الروسية الإفريقية على “الطموح الواحد”، و”المكاسب المشتركة”. وفي الجوانب الأمنية والعسكرية، لم يقدم النموذج الغربي أي مكاسب لإفريقيا؛ فجميع العمليات الأمنية، مثل “سرفال”، و”برخان”، و”مينوسما”، فشلت في القضاء على الإرهاب في إفريقيا، بل تقول كل المؤشرات -ومنها مؤشرات الإرهاب التي صدرت خلال السنوات العشر الماضية من الأمم المتحدة- أن معدلات الإرهاب في إفريقيا تزداد سنويًّا، وهو ما دفع قادة الدول الإفريقية وشعوب إلى العمل مع روسيا من أجل محاصرة الإرهاب، وتجفيف منابعه.

المؤكد أن العلاقات الروسية الإفريقية على أعتاب مرحلة جديدة ونوعية في ظل الاستعدادات لعقد القمة الإفريقية الروسية الثالثة في العام الجديد، في ظل جني إفريقيا وروسيا ثمارًا كثيرة نتيجة لهذا التعاون في جميع المسارات السياسية والأمنية والتنموية. وبينما تضع روسيا القارة الشابة في مقدمة أولوياتها، جاءت إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي لتؤكد من جديد أن إفريقيا في آخر اهتمامات السياسة الخارجية الأمريكية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع