مقالات المركز

روسيا وإفريقيا.. “الحب الأول لا يصدأ”


  • 29 مارس 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: voanews.com

شكل إعلان جمهورية إفريقيا الوسطى توصلها إلى اتفاق بشأن استضافة قاعدة عسكرية روسية على أرضها “بداية لعهد جديد”، ليس فقط بين جمهورية إفريقيا الوسطى وروسيا، بل بين مختلف دول “القارة الشابة” والاتحاد الروسي، وهو ما يؤكد زيادة مساحة “المقبولية الروسية” وزخمها في عيون كل الأقاليم الإفريقية وقلوبها، بداية من دول الشمال الإفريقي، والقرن الإفريقي، ومنطقة الساحل والصحراء، وصولًا إلى غرب “قارة المستقبل” ووسطها.

وقبل أيام من إعلان إفريقيا الوسطى، قال وزير الخارجية السوداني، علي الصادق، في كلمة له خلال فعاليات مؤتمر أنطاليا الدبلوماسي، في 5 مارس (آذار) الجاري، إن الخرطوم ليس لديها “أي اعتراضات جوهرية” على بناء قاعدة عسكرية روسية على سواحل البحر الأحمر، واصفًا ذلك بأنه تعهد على الدولة السودانية منذ أيام الرئيس السابق عمر حسن البشير.

 وبعد نجاح الدعم الروسي في تعزيز الاقتصاد والأمن والاستقرار لجمهورية إفريقيا الوسطى، قررت يانجي وموسكو البحث عن موقع ضخم للقاعدة العسكرية الروسية، وفق ما صرح به السفير الروسي لدى إفريقيا الوسطى ألكسندر بيكانتوف، وسبق لفيدل نغوانديكا، مستشار رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، تأكيده أن هناك بنية تحتية جاهزة لبناء القاعدة الروسية في منطقة بيرينغو، التي تقع غرب العاصمة يانجي بنحو 80 كم، ويمكن أن تستوعب القاعدة العسكرية في هذه المنطقة نحو 10 آلاف جندي روسي.

ولا يمكن النظر إلى بناء “قاعدة عسكرية” لروسيا في جمهورية إفريقيا الوسطى بعيدًا عن التطورات التاريخية التي وقعت خلال العامين الماضيين بجوار إفريقيا الوسطى، حيث رفع المتظاهرون في مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، والجابون الأعلام الروسية، وصور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد تولي “الحكام الجدد” مسؤولية الحكم في تلك الجمهوريات التي لفظت النفوذ والجيوش الغربية.

ارتفاع الأعلام الروسية وصور رئيسها فلاديمير بوتين في قلب العواصم الإفريقية، مع مشهد بناء “أول قاعدة عسكرية” روسية في إفريقيا، يقولان إن “القارة الشابة” باتت تبحث عن “معادلة جديدة” بعيدة عن المعادلات القديمة التي ربطتها بالقوى الاستعمارية الغربية والولايات المتحدة، وهو ما تكشفه مستويات التعاون غير المسبوقة بين روسيا والقارة الإفريقية، ومثال هذا التعاون  بناء موسكو “أول محطة للطاقة النووية” في الضبعة بمصر، واقتراب التجارة بين روسيا وإفريقيا إلى نحو 20 مليار دولار في عام 2022، ومشاركة الروس في بناء 330 مشروعًا ضخمًا للبنية التحتية الإفريقية، ومنح روسيا فرص التعليم المجاني لعشرات الآلاف من الأطباء والفنيين والمهندسين والضباط الأفارقة، فضلًا عن نجاح موسكو- رغم كل العقوبات على جهازها المصرفي وبنكها الزراعي- في تصدير نحو 10 ملايين طن حبوب في الشهور العشر الأولى من عام 2023 إلى الدول الإفريقية، وهو ما أسهم في نجاة دول إفريقية كثيرة من المجاعة بحسب تقدير نشرته في فبراير (شباط) الماضي منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو).

ليس هذا فقط، فالثابت أن 12 زعيمًا إفريقيًّا زاروا روسيا في الفترة من عام 2014 حتى عام 2019، كما شارك 43 زعيمًا ورئيس دولة إفريقية في القمة الروسية الإفريقية الأولى في سوتشي عام 2019، وفي القمة الروسية الإفريقية الثانية في يوليو (تموز) 2023، ورغم كل الضغوط الغربية على الدول الإفريقية، حضر 49 وفدًا إفريقيًّا القمة في سانت بطرسبورغ. فما الأسباب التي تعزز “الحضور والزخم” الروسي الجديد في إفريقيا؟ ولماذا يختلف التعاون الروسي مع الأفارقة عن جميع أشكال التعاون السابقة بين إفريقيا والدول الغربية؟

قواسم مشتركة

تحليل التاريخ المشترك لروسيا والشعوب الإفريقية يؤكد أنها علاقة كانت دائمًا تقوم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل في جميع القطاعات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وأبرز القواسم المشتركة التي تقوم عليها العلاقات الروسية الإفريقية في الوقت الحالي هي:

أولًا: الدعم المتبادل  

يشهد التاريخ المشترك بين روسيا والشعوب الإفريقية على “الدعم المتبادل” بين الطرفين منذ أيام روسيا القيصرية التي دعمت مصر والمغرب وتونس ضد الإمبراطورية العثمانية، ثم توجت هذه العلاقات بإقامة السفارات مع مصر وإثيوبيا عام 1943، كما شكل دعم الاتحاد السوفيتي للحركات الإفريقية المناهضة للاستعمار في النصف الثاني من القرن العشرين، أكبر سند للدول الإفريقية للتخلص من الاستعمار الأوروبي للقارة الإفريقية عندما كافح الاتحاد السوفيتي عام 1960 لتمرير “مشروع قرار” في الأمم المتحدة يمنح الاستقلال للشعوب الخاضعة للاستعمار الأجنبي، وينظر إلى هذا القرار باعتباره “الركيزة الأولى” لطرد الاستعمار من إفريقيا. وخلال الحرب الباردة، قدم الاتحاد السوفيتي للدول الإفريقية المساعدة العسكرية والدبلوماسية لحركات التحرير الوطنية في زيمبابوي، وجنوب إفريقيا. وبحلول عام 1984، أقام الاتحاد السوفيتي علاقات دبلوماسية مع 46 دولة إفريقية من إجمالي 53 دولة.

ورغم تراجع العلاقات الإفريقية الروسية بعد تفكك الإتحاد السوفيتي، فإن روسيا عادت بقوة إلى إفريقيا، خاصة بعد استعادة شبه جزيرة القرم عام 2014، وهي عودة رحب بها الأفارقة. وتجسد التقارب الإفريقي الروسي مع بدء العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، حيث رفض الأفارقة الانضمام إلى العقوبات الغربية على الاتحاد الروسي، وفي الوقت الراهن تعد الدول الإفريقية أكبر “كتلة تصويتية” داعمة لروسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ثانيًا: عدم المشروطية السياسية

عندما سُئِلَ المتظاهرون في نيامي وهم يرفعون الأعلام الروسية وصور الرئيس الروسي، لماذا تفضلون روسيا على فرنسا؟ كانت إجابات غالبية السكان أن روسيا لا تتدخل في شؤون الدول الأخرى، روسيا تساعد الشعوب الإفريقية، وتبحث عن مصالحها، دون السعي إلى فرض “نموذجها” السياسي والاقتصادي على الدول الإفريقية.

هذا المنهج الروسي يختلف عن النهج الغربي والأمريكي، فعندما قررت حكومة النيجر في 16 مارس (آذار) الجاري إلغاء اتفاقية التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، وطرد نحو 1100 جندي أمريكي من قاعدتي نيامي وأجاديس العسكريتين، قالت الحكومة إنها ألغت هذه الاتفاقية المبرمة منذ عام 2012 بسبب التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية لشعب النيجر، واشتكت حكومة النيجر من الطريقة التي تحدث بها الوفد الأمريكي، برئاسة مساعدة وزير الخارجية للشؤون الإفريقية مولي في، إلى المسؤولين في حكومة النيجر، وكان هذا “الاستعلاء السياسي” الأمريكي في مخاطبة حكومة النيجر أحد الأسباب القوية لطرد نيامي القوات الأمريكية من النيجر.

ثالثًا: مكافحة الإرهاب والتطرف

 بعد مرور أكثر من عقد كامل من نشر القوات الغربية، سواء أكانت فرنسية أم أممية، لمكافحة الإرهاب في القارة، تأكد للأفارقة أن الإرهاب يتمدد ويتوسع، وأن الجيوش الغربية، وفي مقدمتها الجيش الفرنسي، جاءت لتحقق المصالح الفرنسية في إفريقيا، وليس للقضاء على الإرهاب في إفريقيا، ومن هنا كانت الأولوية الأولى للحكام الجدد في مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، والجابون هي القضاء على التنظيمات الإرهابية، وأنه لا يمكن القضاء على تلك التنظيمات الظلامية إلا بعد “استقلال القرار الوطني”، وأن القرار الوطني لا يمكن أن يكون مستقلًا في ظل وجود الجيوش الغربية؛ لذلك قرر المجلس العسكري الحاكم في مالي طرد كل القوات الفرنسية التي دخلت مالي تحت مظلة “محاربة الإرهاب” عام 2013، باسم “عملية سرفال”، كما أرسلت فرنسا أكثر من 4500 جندي آخرين في الأول من يناير (كانون الثاني) عام 2014 لطرد المتطرفين من شمال مالي، لكن النتيجة كانت مزيدًا من سيطرة الإرهابيين على الأراضي، ليس فقط في مالي؛ بل في كل منطقة الساحل والصحراء، خاصة في دول مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وهو ما دفع القيادة الجديدة في مالي إلى طرد كل القوات الفرنسية التابعة لـ”عملية سرفال”، وطرد القوات الأوروبية الأخرى المنضوية تحت اسم “تاكوبا”. كما قرر المجلس العسكري الحاكم في مالي طرد القوات الأممية التي تعمل تحت مظلة “عملية مينوسما” منذ عام 2020. وبنهاية ديسمبر الماضي خرج آخر جندي من “قوات مينوسما”، التي بلغ مجموعها نحو 15 ألف جندي وشرطي أممي، دون تحقيق أي نتيجة على مدى أكثر من عقد من الزمان.

لكن المشهد على الجانب الثاني يقول إن هناك “مقبولية” للعمل الأمني الروسي في إفريقيا، وهو ما أشاد به حكام إفريقيا الوسطى، ومالي، وبوركينا فاسو، وغيرها من دول الساحل والصحراء في إفريقيا، حيث تعمل القوات الروسية بقوة على تعزيز السلام والاستقرار والأمن والرفاهية في الدول الإفريقية، بعد فشل الجيوش الغربية في مساعدة الدول الإفريقية على القضاء على الإرهاب. وبنهاية عام 2022 أرسلت نحو 30 دولة إفريقية بعثاتها العسكرية لتلقي التدريب في مدارس وزارة الدفاع الروسية وأكاديمياتها.

 رابعًا: معادلة “رابح- رابح”

وهي صيغة روسية بامتياز، تقوم على ضرورة استفادة الدول الإفريقية من العلاقة مع روسيا، حيث تضطلع روسيا بالدور الأكبر في الأمن الغذائي الإفريقي؛ من خلال صادرات الحبوب الروسية، التي كانت بالمجان وبدون مقابل للدول الفقيرة في إفريقيا.

في المقابل، أسهمت الهيمنة الفرنسية في تعميق الفقر في القارة الشابة، فعلى سبيل المثال دولة مثل النيجر، التي طردت فرنسا وقواتها بعد نحو 50 عامًا، لا يزيد دخل الفرد فيها سنويًّا على 400 دولار، وتمنح شركات اليورانيوم الفرنسية النيجر 2 % فقط من عائدات اليورانيوم، في حين تحصل تلك الشركات الفرنسية على 98 % من العائدات، كما أن “الفرنك الإفريقي” عمّق- على مدار أجيال- الفقر المدقع في إفريقيا، وفكرة “الفرنك الإفريقي” تقوم على إيداع البنوك الإفريقية للعملات الصعبة في البنك المركزي الفرنسي، الذي يفرج فقط عن قيمة المشتريات التي تشتريها الحكومات الإفريقية، وهو ما عزز الاقتصاد الفرنسي من جانب، وزاد مستويات الفقر في إفريقيا من جانب آخر؛ ولهذا تطالب الشعوب الإفريقية التي تتعامل دولها بالفرنك الإفريقي بإلغاء الارتباط المالي والاقتصادي مع فرنسا، واستبدال التعاون مع روسيا والصين به، وبدأت الدول الإفريقية تجني ثمار هذا التوجه الجديد، وأبرز تلك الثمار أن هناك اليوم 3 دول إفريقية في منطمة البريكس، وهي جنوب إفريقيا، ومصر، وإثيوبيا، كما أن الاتحاد الإفريقي بات عضوًا في مجموعة العشرين.

خامسًا: عالم متعدد الأقطاب

منذ تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم، عانت الشعوب الإفريقية نظام القطب الواحد؛ ولهذا عندما طرحت روسيا، ومن بعدها الصين، تصوراتهما لعالم “متعدد الأقطاب”، كانت الدول الإفريقية من أوائل الدول التي دعمت وأيدت هذا التوجه من خلال عدد من المواقف والخطوات، أبرزها: رفض الدول الإفريقية الانضمام إلى العقوبات الغربية على روسيا، ورفض دعم الرواية الأمريكي عن الحرب الروسية الأوكرانية، وحضور القادة الأفارقة القمم الإفريقية الروسية، رغم جميع أشكال التهديد والضغط الغربي والأمريكي على الدول الإفريقية لعدم الحضور.

سادسًا: القوة الذكية

ظلت مقاربة الغرب في التعامل مع إفريقيا قائمة خلال العقود الستة الماضية على مسارات محددة، مثل الأمن، والهجرة غير الشرعية، التي يطلق عليها “القوة الصلبة”، ورغم “أنانية الغرب” في التعامل مع القارة الإفريقية في الهجرة غير الشرعية فإنه لم يقدم لإفريقيا أي مقابل لما يحصل عليه من تعاون إفريقي في مجال الأمن والهجرة غير الشرعية، لكن روسيا في المقابل استطاعت أن تقدم رؤية للتعاون مع الأفارقة، تقوم على مبدأ “القوة الذكية” التي تجمع بين “القوة الصلبة” و”القوة الناعمة”، ويتضح ذلك من خلال تقديم موسكو الدعم الأمني والتقني والعسكري للأفارقة، مثل الاتفاقية الأمنية مع إفريقيا الوسطى عام 2018، ومذكرة التفاهم العسكرية مع نيجيريا عام 2021، والدعم العسكري واللوجستي لحكومة مالي، في الوقت نفسه تقوم البيوت الروسية بدور ثقافي، و”قوة ناعمة” لخدمة العلاقة بين الطرفين، وقد زادت البيوت الروسية في إفريقيا إلى نحو 11 بيتًا في الآونة الأخيرة، بما يؤكد أن روسيا تعمل على مسارين متوازيين يشكلان “القوة الذكية” الروسية.

المؤكد أننا أمام مرحلة جديدة من التعاون الروسي الإفريقي تشبه المرحلة التي كانت أيام الاتحاد السوفيتي، وهو ما يؤكد المقولة الخالدة بأن “الحب الأول لا يصدأ”.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع