تقدير موقف

منعطفٌ إستراتيجي في ميزان النفوذ الإقليمي

روسيا وأحداث الساحل السوري


  • 16 مارس 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: aljazeera

يرى كثير من المراقبين أن روسيا لطالما سعت إلى توسيع نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص في سوريا، لاعتبارات تاريخية وسياسية وإستراتيجية. بدأت تلك العلاقة مع حقبة الاتحاد السوفيتي، عندما كان الحفاظ على موطئ قدم في البحر المتوسط يتطلب وجود شراكة قوية مع دول حليفة، وكان يُنظر إلى سوريا بوصفها منطلقًا لتأمين المصالح السوفيتية في مياه البحر المتوسط. لم تتغير الرؤية الروسية كثيرًا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، إذ واصلت موسكو الحفاظ على صلاتها مع دمشق، وسعت في مراحل عدة إلى التمسك باتفاقات التعاون العسكري والاقتصادي الموقعة منذ عقود. في خضم الاضطرابات التي شهدتها سوريا، ازدادت أهمية القواعد العسكرية الروسية، وبخاصة قاعدة حميميم الجوية بالقرب من اللاذقية، وقاعدة طرطوس البحرية، حتى باتتا ركيزة أساسية لأي حديث عن الدور الروسي في هذا البلد.

في السنوات الأولى للأحداث السورية، اتخذت روسيا موقفًا مدروسًا، تمثل في رفض أي تدخل خارجي يهدف إلى إسقاط النظام القديم من دون المرور بقنوات أممية شرعية. وعندما تسارعت التطورات الميدانية، عززت موسكو حضورها العسكري في سوريا من خلال إرسال قوات ومستشارين عسكريين، إضافة إلى توقيع اتفاقيات تعاون أمني ودفاعي طويلة الأمد. ومع مرور الوقت، تحول هذا التدخل العسكري إلى رافعة أساسية مكّنت روسيا من ترسيخ نفوذها الإقليمي على نحو متسارع، إذ وجدت موسكو في الضعف الذي ألمّ بالجيش النظامي السوري حينذاك فرصة لإعادة بناء شراكتها معه بما يضمن لها دورًا مؤثرًا على المدى الطويل.

الأهمية الإستراتيجية للساحل السوري

دور الساحل السوري في الإستراتيجية الروسية اكتسب أهمية فائقة؛ نظرًا إلى موقع المنطقة الجيوسياسي، وتركيبتها السكانية، ودورها المحوري في المعادلة السورية. يرتبط الساحل بالذاكرة الجمعية للنظام السابق وعلاقاته الإقليمية، كما يُعدّ حاضنة اجتماعية تلتف حول مؤسسات الدولة. عملت موسكو على توفير مختلف أشكال الدعم العسكري واللوجستي في هذه المنطقة، فكانت قاعدة حميميم رمزًا لتكريس الوجود الروسي، ونافذةً لمراقبة مسارات التحول في الساحة السورية. ومع اتساع دائرة التوتر الأمني، عززت روسيا وجودها أكثر من خلال اتفاقيات تضمن لها التحكم بمجريات الأحداث، وتتيح لها مراقبة أي تطور قد يهدد استقرار المنطقة التي تمثل لها قلب توازن القوى في البلاد.

التحولات السياسية بعد سقوط نظام الاسد

ظهر في الفترة الأخيرة منعطف تاريخي في المشهد السوري بعد سقوط نظام الاسد وتولي إدارة انتقالية برئاسة الرئيس أحمد الشرع. شكلت هذه النقلة تحديًا جديدًا لطبيعة التعامل الروسي مع المستجدات، خاصة بعدما تكرست المرحلة السابقة على قاعدة أن النظام كان حليفًا أساسيًّا لموسكو. في هذه الأثناء، تحول الساحل السوري إلى مسرح لأحداث دراماتيكية، فقد شهد السكان هناك موجة احتجاجات واشتباكات عسكرية بين فلول النظام القديم والقوات الأمنية التابعة للإدارة الجديدة؛ مما أثار مخاوف بشأن إمكانية انزلاق المنطقة نحو فوضى أوسع.

تحملت موسكو عبئًا إضافيًّا تمثل في مساعيها إلى ضبط التوتر ومنع انهيار الأوضاع في الساحل السوري. وجدت نفسها مطالبة بتأكيد التزامها بدعم وحدة سوريا والحفاظ على سيادتها، كما كانت مضطرة إلى تجديد التأكيد أن وجودها العسكري هو عامل استقرار لا أداة تأجيج. هذا الموقف الرسمي الروسي تجسد من خلال تصريحات الكرملين التي شددت على ضرورة احتواء العنف سريعًا، وحماية المدنيين، إلى جانب التشديد على أن أي تدخل عسكري روسي لن يحدث إلا بموافقة السلطات الشرعية في دمشق.

الاتهامات والردود الروسية

في ضوء الاتهامات الموجهة إلى روسيا بشأن تورطها، أو علمها المسبق بتحركات فلول النظام القديم، صرحت مصادر دبلوماسية روسية بأن هذه الادعاءات لا أساس لها، وأن موسكو ملتزمة بالتعاون الأمني والعسكري مع الإدارة الجديدة في دمشق، لكن ضمن أطر محددة لا تتعدى الخطوط الحمراء الخاصة بسيادة الدولة. عكست هذه التصريحات رغبة موسكو في تنأى بنفسها عن أي احتقان داخلي في سوريا، مع تأكيدها أن قاعدة حميميم، وغيرها من المواقع الروسية، لا تتدخل في القضايا السورية الداخلية، إلا في الحالات التي تمس استقرار المنطقة مباشرة.

من الملاحظ أن الاهتمام الدولي بما يجري في الساحل السوري قد وصل إلى ذروته مع الإعلان المفاجئ عن توافق روسي أمريكي لعقد جلسة طارئة في مجلس الأمن الدولي. مثّلت هذه الخطوة لحظة دبلوماسية غير مألوفة وسط المناكفات والتوترات بين الدولتين، ووجّهت إشارة واضحة إلى أن تفجر الأوضاع في الساحل السوري قد يكون له تبعات إقليمية ودولية واسعة لا يرغب أحد في تحملها. ومع أن الجلسة خُطط لها بوصفها مشاورات مغلقة وغير رسمية، فإن مجرد انعقادها يعزز فكرة أن روسيا والولايات المتحدة مستعدتان لإيجاد أرضية مشتركة، ولو مؤقتة، حين يتعلق الأمر بتجنيب سوريا منزلقًا دمويًّا جديدًا.

المخاوف الإقليمية والدولية

في هذه الأثناء، أعربت أطراف دولية أخرى عن اهتمامها بما يحدث، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي التي تخشى ارتدادات الأزمة على ملف اللجوء، كما عبّرت القوى الإقليمية كتركيا وإيران عن مخاوفها من تداعيات أي تصعيد في المناطق الحدودية، أو ذات الوجود العسكري المتعدد الجنسيات. وُضعت روسيا تحت مجهر التساؤلات: هل ستبادر إلى تهدئة الخواطر واحتواء بؤر التوتر، أم ستكتفي بإدارة الأزمة من خلال تحركات عسكرية موضعية تحافظ بها على مصالحها، دون أن تسهم في حلول جذرية؟

موقف الرأي العام في الساحل

عند تناول الوضع على المستوى الشعبي في الساحل، يتبين أن المشاعر متباينة؛ فهناك شريحة ترحّب بالدور الروسي الذي تراهن عليه لتحقيق قدر من الاستقرار وإعادة الإعمار، خاصة أن الساحل كان يعاني اختلالات اقتصادية وأمنية متراكمة. في المقابل، تظهر فئة أخرى تتشكك في نيات موسكو، وتخشى أن يكون تدخلها مدفوعا فقط بضمان مصالحها الإستراتيجية دون مراعاة تطلعات السكان المحليين. تتعزز هذه المخاوف في ضوء المسار التاريخي الذي أبدت فيه روسيا حرصًا على دعم السلطة المركزية في دمشق، حتى عندما كان بعض أهل الساحل ينددون بالممارسات الأمنية.

تشير بعض التقارير الميدانية إلى أن أجواء الاحتقان في الساحل لا تقتصر على الفلول المحسوبة على النظام القديم فحسب؛ وإنما تمتد إلى تيارات أخرى ترى في المرحلة الحالية فرصة لتحقيق نفوذ سياسي أو مجتمعي. يتقاطع هذا المشهد مع رغبة الإدارة الجديدة في إرساء قواعد جديدة للحكم في سوريا، بما في ذلك إصلاح المؤسسات الأمنية والجيش، ودمج الفصائل المختلفة تحت مظلة وطنية شاملة. يُحتمل أن تقف روسيا أمام مفترق طرق بين دعم جهود دمج مختلف القوى في بنية الدولة الحديثة، واتباع سياسة حذرة تفضل الاحتفاظ بتوازنات تضبط من خلالها خريطة القوى على الأرض.

من الناحية السياسية، يبقى القرار الأممي 2254 محوريًّا في أي مناقشة بشأن الحل السياسي في سوريا. ومن اللافت أن المصادر الدبلوماسية الروسية أشارت إلى أن أي حراك في مجلس الأمن الدولي لا يهدف إلى التشويش على هذا القرار، بل يسعى إلى تعزيز فرص تطبيقه عبر ضمان استقرار الأوضاع الأمنية، ولا سيما في المناطق الحساسة كالساحل. وإذا ما نجح المسار الدبلوماسي في توحيد الرؤى الروسية والأمريكية، ولو جزئيًّا، فقد يمهد ذلك لاستئناف مفاوضات سياسية أشمل تعيد وضع سوريا على سكة الحل الدولي.

تحمل التحولات الجارية على الأرض رسائل عدة، أبرزها أن روسيا مصممة على البقاء في سوريا بوصفها لاعبًا محوريًّا، ليس فقط عسكريًّا؛ بل اقتصاديًّا وسياسيًّا أيضًا. تعمل موسكو على توقيع اتفاقيات طويلة الأمد في مجالات إعادة الإعمار والنفط والغاز، كما تساهم في مشروعات البنية التحتية في المدن الساحلية، وفي أماكن أخرى. تبدو تلك المشروعات مكسبًا للطرفين: فمن ناحية، تحصل سوريا على دعم اقتصادي هي في أمس الحاجة إليه، ومن ناحية أخرى، تضمن روسيا موطئ قدم راسخ يمكّنها من التحكم بمعادلة التوازن الإقليمي.

تساؤلات عن التعاون مع القيادة الجديدة

تطرح الأوساط التحليلية تساؤلات جوهرية عن مدى استعداد موسكو للتعامل مع القيادات الجديدة في سوريا، وهل ستُدمَج في ترتيبات أمنية أو سياسية تضمن التزامات متبادلة بشأن المصالح الروسية؟ تظهر بعض المؤشرات أن القيادة السورية الجديدة لا تمانع التعاون مع موسكو، شرط أن يحترم ذلك مصالح سوريا الوطنية، ويلبي الحاجة إلى إصلاحات سياسية تشمل مختلف المناطق والمكونات. غير أن تحديات كبرى تواجه هذا التعاون، خاصةً في ظل وجود أطراف محلية وإقليمية تسعى إلى تقويض النفوذ الروسي، أو على الأقل تحجيمه، أملًا في الحصول على حصة أكبر من كعكة إعادة الإعمار.

الحرب الإعلامية والصورة المتناقضة

تبدو موسكو، في الوقت الراهن، حريصة على إرسال رسائل طمأنة للشارع السوري والأطراف الإقليمية، مفادها أنها لن تسمح بانزلاق الأوضاع نحو حرب أهلية جديدة. وفي الوقت نفسه، تحافظ روسيا على نهج يجمع بين القوة العسكرية والدبلوماسية الهادئة. فمن جهة، تمارس نفوذها عبر التنسيق المباشر مع القيادات في دمشق، سواء على مستوى الرئاسة أو الجيش، ومن جهة أخرى، تشارك في المحافل الدولية، بما فيها محادثات أستانة وجنيف، لمناقشة مستقبل البلاد وفق ترتيبات سياسية شاملة.

شهدت الفترة الأخيرة تطورًا نوعيًّا تمثل في وصول وفد أممي إلى الساحل السوري لتقصي الحقائق بشأن أحداث العنف. تعد هذه الخطوة جزءًا من حرص دولي على توثيق ما يحدث وتحديد المسؤوليات، وقد تفضي إلى إصدار تقارير أو توصيات أممية. إذا اتفقت موسكو وواشنطن على آليات واضحة للاستجابة لتلك التوصيات، فقد نرى حراكًا دبلوماسيًّا مكثفًا يتيح معالجة بعض القضايا العالقة، ويخفف من وتيرة الصراع. لا يمكن تجاهل وزن روسيا في هذا السياق، إذ بإمكانها عرقلة أي قرار دولي لا يتماشى مع رؤيتها.

عقبات الإصلاح المؤسسي

تقدم موسكو الرواية الرسمية التي تنفي وجود أي خطة روسية لتفتيت سوريا، أو دعم أي تيار انفصالي، مؤكدة أن الحفاظ على وحدة الأراضي السورية يمثل خطًا أحمر في إستراتيجيتها. ومع ذلك، فهناك أصوات ناقدة ترى أن توازن القوى الذي تفرضه روسيا قد يسمح بنشوء كيانات شبه مستقلة بحكم الأمر الواقع، إن لم يكن رسميًّا. يكتسب هذا الرأي زخمًا في ضوء تعدد القوى المحلية والدولية المنخرطة في النزاع، وتباين أهدافها بين من يسعى إلى حكم لا مركزي ومن يفضل دولة شديدة المركزية.

اللافت أن كثيرًا من سكان الساحل السوري يتطلعون في هذه المرحلة إلى تحسين ظروفهم المعيشية قبل كل شيء، بعد معاناة سنوات طويلة من الحصار والحرب وانهيار البنى التحتية. يدرك هؤلاء أن أي مشروع دولي لإعادة الإعمار قد يمر عبر البوابة الروسية بحكم نفوذ موسكو في المؤسسات الحكومية الجديدة، ما قد يجعلهم أكثر ميلًا إلى التعاون مع الروس، شريطة توفير ضمانات بعدم تكرار ممارسات السلطة السابقة في الفساد والمحسوبية.

السيادة السورية والوحدة الإقليمية

في سياق الحديث عن مستقبل الوجود الروسي، تحضر أيضًا المخاوف المتعلقة باحتمالية وقوع صدام بين روسيا ولاعبين آخرين، سواء أكانوا إقليميين أو دوليين. تستند هذه المخاوف إلى تجارب سابقة حين كانت المصالح الروسية تتعارض مع أجندات إقليمية، فتؤدي إلى توترات قد تشتعل في أي لحظة، وتحوّل سوريا إلى ساحة صراع أوسع. غير أن المؤشرات الأخيرة، كالتنسيق الروسي الأمريكي في مجلس الأمن، توحي بوجود وعي دولي بضرورة تفادي المواجهة المباشرة.

من الزاوية التاريخية، تثير أحداث الساحل السوري أسئلة عميقة عن دور روسيا بوصفها حليفًا تاريخيًّا للدولة السورية، وعما إذا كانت ستستمر في أداء هذا الدور في ظل المتغيرات المتسارعة. لقد حاولت موسكو في العقود الماضية الظهور بدور الشريك الإستراتيجي، سواء في الجانب العسكري من خلال تزويد الجيش السوري بالسلاح والتدريب، أو في الجانب الاقتصادي من خلال عقود التنقيب عن النفط، وإعادة الإعمار. يأتي الآن امتحان حقيقي لاستمرار هذه الشراكة، خاصة مع تغير المعادلة السياسية الداخلية في دمشق.

الأدوار الإقليمية الأخرى

على الساحة الدبلوماسية، تحاول روسيا تقديم نفسها بوصفها وسيطًا قادرًا على التواصل مع جميع الأطراف، ومنها الإدارة السورية الجديدة، والمعارضة المعتدلة، إضافة إلى قوى إقليمية تدعم أطرافًا مختلفة. قد يفيد هذا الحياد النسبي موسكو في تعزيز نفوذها التفاوضي، لكنه يضعها أمام انتقادات تتعلق بمدى جديتها في دفع مسار التسوية السياسية. هناك من يرى أن روسيا تفضل الإبقاء على ملف الساحل مفتوحًا واستثماره ورقة ضغط تستخدمها لمواجهة محاولات تهميش مصالحها.

لا يمكن إغفال الدور الإعلامي في رسم صورة روسيا ومواقفها من الأحداث، فقد كثفت وسائل الإعلام الروسية تغطيتها لما يجري في الساحل السوري، مقدمة تفسيرًا يبرز فكرة المؤامرة الخارجية، ويقلل من شأن المطالب الشعبية، مع التركيز على أن استعادة الهدوء تتطلب حوارًا سوريًّا سوريًّا. في المقابل، تشكك منصات إعلامية أخرى في الطرح الروسي، وتتهم موسكو بإدارة اللعبة من وراء الكواليس. تستمر هذه الحرب الإعلامية في تغذية الشكوك وتعقيد المشهد.

المشهد الراهن قد يفتح فرصة لإعادة تقييم العلاقة السورية الروسية على أسس أكثر توازنًا، تراعي المصالح المشتركة، ولا تتجاهل تطلعات الشعب السوري إلى التغيير والاستقرار. ربما تبحث موسكو عن صيغة سياسية تحمي نفوذها، وتضفي عليه شرعية في عيون المجتمع الدولي، وهذا ما يمكن أن يتجسد من خلال دعم عملية انتقالية حقيقية تشتمل على تمثيل عادل لمختلف المكونات. تشجع مؤشرات عدة على هذا المنحى، كاللقاءات المكثفة التي يعقدها مسؤولون روس مع أطراف سورية متعددة، وإبداء الاستعداد للمساهمة في عمليات إغاثة وإعادة بناء.

السياسة الروسية بين الدبلوماسية والقوة العسكرية

 التحدي الأكبر يتمثل في ضمان نجاح هذه الجهود على أرض الواقع؛ إذ قد تعرقل الانقسامات الداخلية والخلافات الإقليمية أي مشروع لإصلاح شامل. كما أن مسألة فلول النظام السابق في الساحل، وما يحمله هؤلاء من خبرات عسكرية وشبكات علاقات خارجية، قد تشكل لغمًا يهدد الاستقرار، وهنا يبرز دور روسيا في دفع تلك العناصر إما إلى الاندماج في الجيش الجديد، وإما إلى الخروج من المعادلة خروجًا يحافظ على الأمن المحلي.

في ظل هذه المعطيات، يتطلع كثيرون إلى نتائج التحركات الدبلوماسية في الأمم المتحدة، وما إذا كانت ستسفر عن بيان صحفي أو رئاسي يندد بأعمال العنف في الساحل السوري. ربما يؤدي التوافق الروسي الأمريكي إلى إجراءات أممية أكثر قوة، كإرسال لجنة تحقيق دولية موسعة، وربما تتوقف الأمور عند مجرد تنديد شكلي لا يلغي جذور الأزمة. في كل الأحوال، سيبقى الدور الروسي محط الأنظار والتقييم لمدى جديته في وضع حد للمأساة الممتدة.

مفترق طرق إستراتيجي للساحل

من جانب آخر، لا يمكن الاستهانة بتأثير الاقتصاد في رسم المستقبل السياسي لسوريا، فالأوضاع المعيشية الحرجة قد تدفع قطاعات عريضة من المجتمع إلى الضغط باتجاه حلول عاجلة. تدرك موسكو ذلك وتسعى إلى بناء جسور اقتصادية، سواء من خلال مشروعات في ميناء طرطوس، أو من خلال استثمارات في حقول النفط والغاز. بيد أن هذا المسار قد يقابل بعدم ترحيب من بعض القوى الغربية والإقليمية التي تشترط سيرًا حقيقيًّا في الإصلاح السياسي قبل رفع العقوبات أو المشاركة في تمويل المشروعات.

يتصاعد الحديث عن أدوار إقليمية أخرى، كالدور الإيراني والتركي، ودرجة التنسيق أو التنافس بين هذه القوى وروسيا. في الساحل السوري تحديدًا، يبدو الوجود الإيراني محدودًا مقارنة بمناطق أخرى، وهذا قد يخفف حدة التوتر بين موسكو وطهران في تلك المنطقة، لكنه لا يلغي إمكانية التباين في الرؤى بشأن الترتيبات المستقبلية لعموم البلاد. أما تركيا فتنشغل بالمنطقة الشمالية من سوريا، مع أن تطورات الساحل قد تمس -على نحو غير مباشر- مصالحها المتعلقة باللاجئين والحدود.

السياق الدولي والتنافس مع الغرب

يتحدث المحللون عن ضرورة وضع خريطة طريق واضحة لمرحلة الانتقال السياسي في سوريا، تشمل إصلاح القطاعات الأمنية والعسكرية، وإطلاق حوار وطني يستوعب أطيافًا مختلفة، وتفعيل آليات المساءلة عن الانتهاكات السابقة. في هذا الإطار، يحضر دور روسيا بوصفها الطرف الخارجي الأكثر حضورًا، والقادر على ضمان التزام دمشق بأي تفاهمات يتم التوصل إليها. غير أن الأمر يتطلب إرادة سياسية روسية، وتعاونًا مع المجتمع الدولي، إلى جانب تعامل بناء من جانب الإدارة السورية الجديدة.

يراهن بعضهم على أن انخراط روسيا الإيجابي في ترميم الأوضاع في الساحل السوري، وإنهاء بؤر التوتر، قد يفتح لها أبوابًا أوسع للتأثير في مسار الحل السياسي العام. يشمل ذلك الحصول على اعتراف دولي بدورها بوصفها شريكًا في إعادة الإعمار، وتحسين صورتها كقوة عالمية مسؤولة تسعى إلى إنهاء الصراعات، لا توسيعها. لا يُخفي جانب من النخبة الروسية طموحه في تحويل سوريا إلى منصة لتأكيد قدرات موسكو على إدارة الأزمات الدولية بفاعلية.

برغم كل هذه الحسابات والتوازنات، تبقى الحالة السورية معقدة ومتشابكة المصالح. إن أي تحرك أحادي الجانب يهدد بتقويض مكاسب بُذلت جهود كبيرة لتحقيقها، وقد يعيد البلاد إلى دائرة الحرب والدمار؛ لذلك، فمن المرجح أن تستمر موسكو في اتباع سياسة تعتمد على مسارين متوازيين: المسار الدبلوماسي من خلال التنسيق مع القوى الكبرى في مجلس الأمن، والمسار العسكري من خلال الحفاظ على حضورها في القواعد الإستراتيجية على الساحل لضبط أي انفلات مفاجئ.

انعكاسات بعيدة المدى

يتابع السوريون، لا سيما في الساحل، التطورات بقلق وترقب. يأمل كثير منهم ألا تكرر روسيا الخطأ الذي وقع فيه الاتحاد السوفيتي سابقًا عندما بنى شراكات مع الأنظمة من دون الاهتمام الكافي بطموحات الشعوب. يطالب هؤلاء بضمانات حقيقية تتيح إعادة الإعمار، وتعزيز دور المؤسسات المدنية، وإفساح المجال لحوار سوري شامل تحت مظلة دولية ذات مصداقية. في المقابل، يشعر البعض أن الخيارات محدودة، وأن الواقع يفرض التعامل مع موسكو بصفتها اللاعب الرئيس القادر على تحقيق قدر من الاستقرار.

من الناحية العسكرية، قد يمثل الساحل السوري مفصلًا في إستراتيجية موسكو لفرض هيمنتها على مجمل الساحة السورية، إذ تستطيع من خلاله التحكم بنقاط الإمداد واللوجستيات، فضلًا عن استعراض قدراتها الجوية والبحرية أمام القوى الدولية الأخرى. وإذا نجحت في تطويق أي محاولة لإثارة الفوضى أو السعي إلى استقلال ذاتي في تلك المنطقة، فستوجه رسالة قوية بأن الحل في سوريا لن يتم إلا بموافقتها.

استنتاجات

لا يستبعد بعض المتخصصين أن تشهد الأسابيع المقبلة تقاربًا روسيًّا مع أطراف مختلفة داخل سوريا، بدءًا من القوى الكردية وصولًا إلى مجموعات المعارضة التي أبدت استعدادًا للعمل تحت مظلة وطنية جامعة. وقد تفضي هذه الاتصالات إلى حلول وسط تلبي تطلعات جميع الأطراف، خاصة إذا نالت دعمًا دوليًّا، لكن المسيرة لن تخلو من عثرات وعقبات في ظل وجود رواسب قديمة من فقدان الثقة بين الكتل السورية المتصارعة، ولجوء بعضهم إلى حلفاء إقليميين لأغراض خاصة.

حين يُقيَّم الموقف الروسي من أحداث الساحل السوري، لا يمكن عزل ذلك عن سياق دولي أوسع يتضمن تنافسًا محتدمًا بين روسيا والغرب في ملفات عدة، من أوكرانيا إلى منطقة القوقاز وآسيا الوسطى. تحاول موسكو أن تظهر بمظهر القطب الدولي القادر على مقارعة النفوذ الأمريكي، وفي الوقت نفسه تبعث برسائل تهدئة بأنها منفتحة على التعاون عندما تتلاقى المصالح. في الحالة السورية، قد تتحكم الحسابات البراغماتية في صياغة المواقف أكثر من الرؤية الأيديولوجية.

يتطلع الخبراء إلى رصد إشارات ملموسة على نية موسكو الدفع بحل سياسي فعلي، مثل دعم مبادرات تنص على إجراء انتخابات حرة ونزيهة بإشراف أممي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية موسعة. إذا حدث ذلك، فسيكون خطوة تاريخية تعكس نضجًا في التعامل الروسي مع الأزمات العالمية، وتقدم نموذجًا لإمكانية وجود حلول سلمية في مناطق الصراع من خلال التوافق بين القوى الكبرى. أما إذا استمر الوضع في المراوحة، فإن ذلك يعني أن روسيا ستبقى تراهن على عامل الوقت، وتجيد لعب الأوراق التي تضمن حضورها الدائم على مسرح الأحداث.

يشير العارفون بالتعقيدات الميدانية إلى أن أي تهدئة عسكرية تبقى هشة ما لم تتبعها إجراءات سياسية واقتصادية واجتماعية تنزع فتيل الاحتقان، وتداوي جراح الماضي، وهنا يبرز دور روسيا في مساندة مشروعات إعادة دمج المسلحين السابقين في مؤسسات رسمية، وتأهيل البنية التحتية في الساحل، وفتح الأبواب أمام استثمارات تخلق فرص عمل، وتساعد في انتشال المنطقة من وضعها المأساوي. قد تبدو هذه الطموحات كبيرة، وتتجاوز قدرة موسكو وحدها؛ ما يستدعي شراكة أكبر مع المجتمع الدولي.

يتفق كثيرون على أن ما يحدث في الساحل السوري سيكون له انعكاسات بعيدة المدى على شكل الدولة السورية المستقبلية، ودور موسكو في الإقليم. إن نجحت روسيا في الموازنة بين مصالحها ومطالب الشعب السوري، فقد تخرج بوصفها شريكًا يبني نفوذه من خلال التنمية والاستقرار. أما إذا طغت الحسابات الجيوسياسية على كل اعتبار آخر، فقد يتفاقم الغضب الشعبي ويتحول إلى مقاومة طويلة الأمد. تتوقف الأمور -بدرجة كبيرة- على مدى مرونة السياسة الروسية، وقدرتها على التعامل مع المتغيرات.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع