مقدمة
مساء يوم الجمعة، 24 مارس (آذار) 2024 ، تعرضت موسكو لأعنف هجوم إرهابي منذ سنوات، بعد عقود كثيرة عرفت موسكو فيها بأنها واحدة من آمن العواصم العالمية، حيث أقدم مسلحون على مهاجمة مجمع كروكوس سيتي، وهو واحد من أكبر المجمعات في العاصمة، وفيه مسرح كان من المقرر أن يحتضن حفلًا موسيقيًّا، وكان الحضور كبيرًا في ذلك المساء الحزين. وتشير آخر الإحصاءات الرسمية إلى مقتل 144 شخصًا، من بينهم 5 أطفال، وإصابة ما يزيد على 500 شخص، من بينهم 15 طفل، تتفاوت درجات إصاباتهم، مع وجود حالات حرجة محجوزة داخل المستشفيات الحكومية في موسكو، وهو ما يمكن أن يزيد الحصيلة النهائية لعدد القتلى .
تعاملت السلطات الروسية مع الحادث الارهابي بكثير من الهدوء، حيث ركزت في البداية على القبض على منفذي الهجوم الذين اعتُقلوا في مقاطعة بريانسك الحدودية مع أوكرانيا، وفي الإشارة ما يغني عن الكلام كما يقال، وفي المساء خاطب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشعب الروسي، حيث قدم التعزية في ضحايا الحادث، وأكد اعتقال جميع المشاركين في الحادث الارهابي، وأشار إلى أنهم كانوا متجهين إلى أوكرانيا، حيث وفقًا لبيانات أولية، كانت ثمة نافذة مجهزة لهم على الجانب الأوكراني لعبور حدود الدولة.
بدا واضحًا تشكيك الكرملين في الرواية التي تلقفها الإعلام الغربي في اللحظات الأولى للهجوم، مستندًا إلى قناة تليغرام، إذ نُشر إعلان فيها عن مسؤولية تنتظيم داعش خراسان عن الهجوم، حيث تدرك القيادة الروسية أن “وراء الأكمة ما وراءها”. حتى لو اتفقنا أن الهجوم نُفّذَ تقنيًّا بعناصر تنتمي إلى تنظيم داعش خرسان، فإنه من الضروري طرح أسئلة محورية عن توقيت هذه الحادثة، والأهداف المتوخاة منها، والأهم عن المستفيد منها.
خرجت روسيا الآن من انتخابات الرئاسة موحدة أكثر من أي وقت مضى، حيث شهدت إقبالًا تاريخيًّا على التصويت، ونجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنسبة تجاوزت 80 %، وبدا أن القيادة الروسية والشعب مدركان لحساسية اللحظة التي تمر بها الدولة الروسية، والتهديدات التي تتعرض لها، ومن هنا بدا واضحًا تكاتف الجبهة الداخلية مع القيادة السياسية.
بغض النظر عن هوية المنفذين، والجهة التي تقف خلفهم، وهو شيء من المنتظر أن تكشف عنه جهات التحقيق الروسية، فبالإمكان استنتاج بعض الأهداف المتوخاة من الهجوم :
١- ضرب نموذج بوتين في فصل الحرب عن الجبهة الداخلية :
فبعد مرور ما يزيد على السنتين على انطلاق العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، فإن الزائر لمدن روسيا الكبرى لا يكاد يلاحظ أن الدولة الروسية تخوض صراعًا وجوديًّا، فحركة الناس طبيعية، وعجلة الاقتصاد تدور على نحو طبيعي، ومعدلات البطالة في أقل مستوياتها في تاريخ الدولة الروسية، والمؤشرات العامة في وضع طبيعي.
هذا النجاح الباهر للقيادة الروسية في فصل الداخل عن تأثيرات الصراع، أعتقد أنه من الأهداف الإستراتيجية التي عوّل عليها من يقف وراء ذلك الهجوم الإرهابي؛ من أجل تحطيم هذا النموذج.
٢ -ثاني الأهداف المهمة التي سعت إليها الجهات التي تقف وراء الهجوم هو ضرب النسيج الاجتماعي داخل الدولة الروسية، بل ضرب فلسفة بوتين في الحكم التي دائمًا ما عبر عنها؛ وهي أن “روسيا دولة متعددة الأعراق والأديان، ويجب أن تظل كذلك”.
هذه التعددية تعد هي السياسة الحاكمة للسلطة في روسيا، وهي ما ساعدت على ازدهار روسيا، والتعايش السلمي الفريد من نوعه، والاحترام المتبادل بين جميع مكونات الشعب.
٣- من الأهداف كذلك تقويض الثقة بالأجهزة الأمنية؛ من خلال إظهارها بالمظهر الضعيف أمام الشعب .
تخوض روسيا صراعًا مريرًا مع الغرب، فهو بمفهومه العام صراع بحث عن السطوة والنفوذ بالنسبة للغرب، في حين أنه صراع حياة أو موت بالنسبة للدولة الروسية، ومن هنا جاءت أسئلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اجتماع مجلس الأمن الروسي، حيث قال: “نعلم أن الجريمة ارتكبها متطرفون إسلاميون، يحارب العالم الاسلامي بنفسه أيديولوجيتهم منذ قرون”، وأضاف أن “من الأهمية بمكان الإجابة عن السؤال المطروح عن السبب الذي دفع الإرهابيين بعد ارتكاب جريمتهم لمحاولة التوجه إلى أوكرانيا، من كان ينتظرهم هناك؟”.
في انتظار خروج نتائج التحقيق النهائية من جانب السطات الأمنية الروسية المسؤولة، تحافظ القيادة الروسية على الهدوء، وهي تدرك وجود أطراف دولية من مصلحتها خروجها عن الخط العام لسياستها داخليًّا حيث الوئام الاجتماعي والديني بين جميع مكونات الشعب، وخارجيًّا حيث تحقق مزيدًا من التقدم على جبهة القتال، وتعوّل تلك الجهات على الرد المتسرع، داخليًّا أو خارجيًّا.
ويبدو أن الكرملين يدرك فشل من يقف وراء الهجوم الإرهابي في تحقيق أهدافه، حيث ظهرت وحدة الأمة الروسية بمختلف أجناسها، وتمكنت القوات الأمنية من القبض على منفذي الهجوم .
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.