جغرافيا

روسيا في البحر الأسود “جورجيا وتركيا”


  • 6 سبتمبر 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: obs.coe.int

أدى انهيار الاتحاد السوفيتي السابق في بداية تسعينيات القرن الماضي إلى استقلال عدد من الدول، وصار لكل منها سيادتها الخاصة، وسعت بعض هذه الدول إلى تعزيز تعاونها مع الغرب، والبعد عن روسيا؛ في محاولة للخروج عن الهيمنة الروسية، ومن بين هذه الدول جورجيا، التي تطورت الأوضاع  فيها إلى مشكلة كبيرة انتهت بالتدخل العسكري الروسي في منطقة أوسيتيا الجنوبية التابعة لجورجيا،  وكانت حجة روسيا هي تزايد التدخل الأمريكي، وتوسيع إطار حلف الناتو في منطقة البحر الأسود.

على هذا النحو بدأ الصراع الروسي الجورجي على استقلال إقليم أوسيتيا الجنوبية، الذي  يقع في الطرف الشمالي الجبلي لدولة جورجيا في سفوح جبال القوقاز الجنوبي، المتاخمة لجمهورية أوسيتيا الشمالية الذاتية الحكم، التابعة لروسيا.

تبلغ مساحة أوسيتيا الجنوبية نحو 3900 كم2، و65% من سكانها أوسيتيون، و30% جورجيون، ويعتقد البعض أن سكان أوسيتيا ينحدرون من القبائل التي هاجرت من آسيا قبل مئات السنين واستقرت فيما يعرف اليوم بأوسيتيا الشمالية، حتى أصبحوا رعايا للأمراء الجورجيين، ومع انضمام جورجيا إلى الاتحاد السوفيتي عام 1801، لم تنضم أوسيتيا إلى شعوب القوقاز في مقاومتها للقوات البلشفية؛ بل ساندت القوات البلشفية حتى احتلت روسيا جورجيا، وقُسّمت أوسيتيا إلى جنوبية وشمالية عام 1918، وهو ما أدى إلى توتر العلاقات بين أوسيتيا وجورجيا، خاصة بعد مطالبتهم بالاستقلال عن جورجيا.

وبعد ضم جورجيا إلى الاتحاد السوفيتي مُنحت أوسيتيا الحكم الذاتي داخل جمهورية جورجيا الاشتراكية السوفيتية، وكان يعتقد أنها في وضع أقل أهمية مقارنة بأوسيتيا الشمالية التي كانت واقعة تحت الحكم السوفيتي الاشتراكي؛ لذا طالبت بالانفصال عن جورجيا، والوحدة مع أوسيتيا الشمالية.

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال جورجيا عام 1991، سعت أوسيتيا- من جديد- إلى الانفصال عن جورجيا، وعقدت استفتاءً شعبيًّا بشأن الانفصال عن جورجيا والانضمام إلى روسيا في يناير (كانون الثاني) عام 1992، الذي أيده غالبية السكان، وأعلن المجلس الأوسيتي الجنوبي في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1992، أن نتيجة الاستفتاء بمنزلة إعلان رسمي بالانفصال، حيث تمتعت أوسيتيا الجنوبية بالاستقلال بحكم الأمر الواقع منذ عام 1992، رغم عدم اعتراف أي دولة بذلك الاستقلال، وقد أصدرت موسكو فيما بعد جوازات  سفر روسية لكل السكان من أصل عرقي أوسيتي، وهو ما أدي إلى توتر العلاقات بين روسيا وجورجيا.

ومنذ انتخاب أول حكومة جورجية موالية للغرب في عام 2003، دعت جورجيا باستمرار إلى تعزيز وجود الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في منطقة البحر الأسود، وكان تدخل روسيا في جورجيا عام 2008، الذي كان من المرجح أن يكون مدفوعًا جزئيًّا ببيان حلف شمال الأطلسي بأن جورجيا (وأوكرانيا) ستصبحان ذات يوم عضوين في حلف شمال الأطلسي.

لم يكن التدخل العسكري الجورجي في أوسيتيا الجنوبية أمرًا مفاجئًا في ظل توتر العلاقات بين الطرفين، لتحتل جورجيا أوسيتيا الجنوبية بدعم من الدول الغربية، ليأتي الرد الروسي السريع، حيث دخلت القوات الروسية اليوم التالي إلى أوسيتيا الجنوبية، وعاقبت جورجيا مرتين بدعمها إقليم أبخازيا الذي سعى إلى الاستقلال عن جورجيا، لتعترف روسيا رسميًّا بالإقليمين، وتتعامل معهما على أنهما دولتان ذاتا سيادة، بل سعت إلى الحصول على اعتراف دول أخرى بهما.

وضعت روسيا عدة أهداف إستراتيجية من حربها مع جورجيا، وهي كما يلي:

1- طرد القوات الجورجية، وإنهاء السيادة الجورجية فعليًّا في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، تمهيدًا لاستقلال هذين الإقليمين، واحتمال ضمهما في نهاية المطاف.

2- منع جورجيا من الانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وإرسال رسالة قوية إلى أوكرانيا، مفادها أن إصرارها على عضوية منظمة حلف شمال الأطلسي قد يؤدي إلى الحرب، وتقطيع أوصال جورجيا.

كما وضعت روسيا بعض الأهداف الإستراتيجية الطويلة المدى، منها:

1- زيادة سيطرتها على منطقة القوقاز، وخاصة على خطوط أنابيب الطاقة الإستراتيجية، ولو أُسّس نظام موالٍ لروسيا في جورجيا، لوضع خط أنابيب النفط الإستراتيجي باكو- تبليسي- جيهان، وخط أنابيب الغاز باكو- أرضروم (تركيا) تحت سيطرة موسكو، ومن خلال محاولتها تغيير النظام في جورجيا، تحاول موسكو أيضًا السيطرة على ممر الطاقة والنقل الذي يربط آسيا الوسطى وأذربيجان بالبحر الأسود لنقل النفط والغاز والسلع الأخرى إلى المياه المفتوحة.

 وفي عام 1999، توصلت الشركات الغربية إلى اتفاق مع دول آسيا الوسطى لإنشاء خط أنابيب باكو- تبليسي- جيهان، وسمح هذا الممر لأذربيجان، وجزئيًّا لكازاخستان وتركمانستان، بتجاوز شبكات خطوط الأنابيب التي تسيطر عليها روسيا، ونقل نفطها من حوض بحر قزوين مباشرة من خلال جورجيا وتركيا، دون عبور الأراضي الروسية.

3- كما أن السيطرة الروسية على جورجيا من شأنها أن تطوق أذربيجان من الغرب، مما يحرم الولايات المتحدة من القواعد والخيارات الاستخباراتية هناك في حالة المواجهة مع إيران، ومن شأن هذا النوع من السيطرة أن يقوض أيضًا أي خيارات للتوجهات المؤيدة للغرب في أذربيجان وأرمينيا.

وعلى الرغم من الدور المركزي الذي تضطلع به جورجيا، فإنها تظل عرضة لأي صراع محتمل مع روسيا، حيث تدرك روسيا تمامًا دور جورجيا ومكانتها في القوقاز، وسوف تكون على استعداد لإعادة جورجيا إلى حظيرتها في الوقت المناسب، وتنظر روسيا إلى جورجيا بوصفها نوعًا من العنكبوت، يشكل شبكة تحافظ على علاقات ودية مع ثلاث من أصل أربع دول في المنطقة.

وبالرغم من الصراعات، تظل علاقات جورجيا وروسيا قابلة للتعاون الاقتصادي، حيث يرجع البعض أن النمو الاقتصادي غير المسبوق الذي تتمتع به جورجيا في الآونة الأخيرة قد تحقق من خلال العلاقات الاقتصادية الموسعة مع روسيا المعزولة على نحو متزايد، ولكن يبقى هذا الاستنتاج مشكوكًا فيه.

 وفقًا لبنك جورجيا الوطني (NBG)، أُرسل عدد قياسي من التحويلات المالية من روسيا إلى جورجيا في عام 2022، وفي عام واحد، زادت التحويلات من روسيا إلى جورجيا خمسة أضعاف، وبلغت أكثر من ملياري دولار أمريكي، وهو ما يمثل 47.29% من إجمالي الناتج المحلي.

ولكن يمكن القول إن اعتماد جورجيا على روسيا على هذا النحو يشكل مشكلة كبيرة، حيث تستخدم روسيا نفوذها الاقتصادي في كثير من الأحيان لمعاقبة البلدان التي تعتمد هذه التبعية، وتتبني سياسات مناهضة لروسيا وموالية للغرب.

العلاقات مع تركيا في البحر الأسود

تزامنت  نية روسيا لاستخدام البحر الأسود لنقل الغاز مع رغبة تركيا في أن تصبح أهم مركز للطاقة في جنوب أوروبا. وفيما يتعلق بتركيا، تُعد مسألة الطاقة مهمة، وذات أولوية على طريق تحويلها إلى دولة مهمة على المسرح الدولي، ويعود التعاون في مجال الطاقة بين الاتحاد السوفيتي وتركيا إلى عام 1984، عندما وقع الجانبان اتفاقية بشأن إمدادات الغاز الطبيعي إلى تركيا، ففي ذلك الوقت، نظرت تركيا إلى الاتحاد السوفيتي باعتباره خصمًا جيوسياسيًّا، وبدأ التعاون الوثيق المستحيل سابقًا مع مد خط أنابيب الغاز من روسيا إلى تركيا في قاع البحر. ولا تقصر روسيا اهتمامها على مجال الطاقة في تركيا من خلال إمدادات الغاز فقط؛ بل تبني محطة للطاقة النووية في أكويو على ساحل البحر المتوسط ​​في تركيا.

وسوف تثبت تركيا أنها لاعب محوري في أي مبادرة للبحر الأسود بسبب قدراتها البحرية، فضلًا عن مسؤوليتها عن التحكم في المرور البحري عبر المضايق التركية من البحر المتوسط ​​إلى البحر الأسود بموجب اتفاقية مونترو، وتسعى تركيا إلى موازنة علاقتها مع الولايات المتحدة وعلاقتها مع روسيا، وقد أسهمت إستراتيجية الإحاطة الإقليمية التي تنتهجها تركيا في ردود فعل دبلوماسية حذرة على التوغلات البرية الروسية السابقة في الدولتين المطلتين على البحر الأسود، جورجيا في عام 2008، وأوكرانيا منذ عام 2014.

وعارضت تركيا في السابق المبادرات الأمريكية التي من شأنها توسيع نطاق عمليات الناتو لتشمل البحر الأسود. ومع أن التصرفات الروسية في أوكرانيا أثرت سلبًا في التعاون في البحر الأسود، فإن تركيا حافظت على سياستها المتمثلة في أن المبادرات الإقليمية والثقة المتبادلة بين دول البحر الأسود الساحلية، يجب أن تحافظ على الأمن البحري في البحر الأسود.

وفي بعض الأحيان دعمت تركيا الوجود الغربي المعزز في البحر الأسود، خاصة خلال لحظات التوتر الثنائي مع روسيا. وفي الآونة الأخيرة، دعت تركيا إلى وجود أكبر لحلف شمال الأطلسي في البحر الأسود خلال الأزمة الدبلوماسية بين روسيا وتركيا في الفترة 2015- 2016، محذرة الأمين العام لحلف شمال الأطلسي من أن البحر الأسود معرض لخطر أن يصبح “بحيرة روسية”. كما كانت تركيا أيضًا داعمة في البداية لاقتراح رومانيا عام 2016- الذي طُرح خلال القطيعة الدبلوماسية بين تركيا وروسيا- لإنشاء أسطول البحر الأسود التابع لحلف الناتو، وفي قمة الناتو في بروكسل عام 2018.

وتحتفظ روسيا بكثير من مجالات النفوذ على المصالح التركية، فالمصالح التركية في سوريا، وعلاقات الطاقة الروسية، والعلاقات التجارية والسياحية، وجاذبية روسيا بوصفها بديلًا لحلف شمال الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، كلها يمكن أن تجعل تركيا حذرة من الإسهام في قطيعة العلاقات.

ومن بين هذه العوامل، فإن الدور الذي تضطلع به روسيا في سوريا لديه القدرة على توفير المصدر الأكثر أهمية للنفوذ، ويظل هدف الأمن القومي الأساسي لتركيا هو هزيمة حزب العمال الكردستاني، وقد واصلت تركيا عملياتها العسكرية لمنع ظهور منطقة كردية موحدة في سوريا، فالدور المركزي الذي تضطلع به روسيا في تحديد نهاية اللعبة السورية، فضلًا عن استعدادها التاريخي لدعم الأكراد في مواجهة اعتراضات تركيا، قد يحفز القيادة التركية على السعي للحفاظ على علاقة إيجابية مع روسيا.

يمكن لعلاقات تركيا في مجال الطاقة مع روسيا أن توفر مصادر إضافية للنفوذ: اعتمدت تركيا على الغاز الروسي بنسبة 56% من إجمالي إمداداتها من الغاز الطبيعي في عام 2015، بالإضافة إلى 11% من واردات النفط الخام، واستكمال خط أنابيب الغاز تورك ستريم التابع لشركة غازبروم، الذي من المرجح أن يؤدي إلى توريد ما يصل إلى 1.1 تريليون قدم مكعبة من الغاز إلى الأسواق التركية.

– كما أن زيادة الطلب التركي على الغاز الروسي، وتغذية طموحات تركيا الأوسع لتكون مركزًا جيو- إستراتيجيًّا للطاقة، ومن المرجح أن يزود مشروع “تورك ستريم” فرص روسيا في الحصول على حوافز اقتصادية إضافية- أطلق عليها اسم “الجزرة النفطية”- كل ذلك قد يجعل تركيا أقل استعدادًا للمخاطرة بالمساس بالعلاقات مع روسيا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع