في خطوة تشكّل تحولًا قانونيًّا وسياسيًّا كبيرًا، أقرّ مجلس الاتحاد الروسي (مجلس الشيوخ) مشروع قانون جديد يهدف إلى وضع آلية محددة تتيح إزالة الحظر عن المنظمات المصنفة إرهابية في روسيا. هذه الخطوة تأتي استجابة للتغيرات الديناميكية في الساحة الدولية، حيث تسعى موسكو إلى تعزيز قدرتها على التكيف مع الواقع الجيوسياسي الجديد الذي يشهد تغيرات متسارعة، سواء في الشرق الأوسط، أو آسيا الوسطى، أو مناطق أخرى. القانون الذي ينتظر توقيع الرئيس فلاديمير بوتين ليصبح نافذًا، يشير إلى نية روسيا إعادة تقييم طريقة تعاملها مع المنظمات التي كانت تعدّها تهديدًا في السابق، لكن معطياتها وأدوارها تغيرت مع الزمن.
مشروع القانون الذي مُرِّرَ بسرعة ملحوظة، يعكس أهمية القضية لصنّاع القرار في روسيا؛ فمنذ صياغته في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، أحرز القانون تقدمًا لافتًا في البرلمان الروسي، حيث صوّت مجلس الدوما (مجلس النواب) لصالحه في القراءتين الثانية والثالثة خلال أسبوع واحد، ثم تبعه مجلس الاتحاد بالموافقة النهائية بعد ثلاثة أيام فقط، وهو ما يشير إلى وجود إرادة سياسية قوية لتفعيل هذا التغيير في أقرب وقت ممكن؛ ما يطرح تساؤلات عن الأهداف الإستراتيجية من هذه الخطوة.
وفقًا للنص القانوني، يُسمح برفع الحظر عن المنظمات المصنفة إرهابية إذا توافرت أدلة فعلية تثبت أنها توقفت عن ممارسة الأنشطة التي تهدف إلى الترويج للإرهاب، أو دعمه، أو تبريره. هذه العملية تتطلب طلبًا رسميًّا من النائب العام الروسي أو نائبه، ليُقدَّم إلى المحكمة للنظر فيه. وفور إصدار المحكمة قرارها، يُلزم القانون بإرسال نسخة من هذا القرار خلال خمسة أيام إلى جهاز الأمن الفيدرالي .(FSB) لتحديث قوائم الإرهاب الرسمية
مع ذلك، يوضح القانون أن رفع الحظر لا يعني مراجعة الأحكام القضائية السابقة الصادرة بحق الأفراد أو الجهات المرتبطة بتلك المنظمة قبل إزالة اسمها من القائمة. هذا التفصيل يشير إلى أن الإجراء يركز أساسًا على الحاضر والمستقبل، وليس على إعادة النظر في الماضي.
بينما لم يُذكر أي تنظيم بعينه في نص القانون، فإن توقيت الخطوة وتفاصيلها تثير التكهنات بشأن أهدافها المباشرة. أبرز التنظيمات المرشحة للاستفادة من القانون هو حركة “طالبان” الأفغانية، التي تصاعدت الإشارات الروسية بشأن تحسين العلاقات معها منذ استيلائها على السلطة في كابول عام 2021. مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى أفغانستان، زامير كابولوف، صرّح في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بأن روسيا اتخذت قرارًا “من حيث المبدأ” لإزالة طالبان من قوائم الإرهاب فور الانتهاء من الإجراءات القانونية اللازمة.
من جهة أخرى، يبرز اسم “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا) كموضوع للنقاش في الأوساط السياسية، خاصة في ضوء التغيرات الجذرية في المشهد السوري. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أشار، خلال فعالية “الخط المباشر” مع المواطنين، إلى أن روسيا أقامت اتصالات مع بعض القوى المعارضة في سوريا التي قد تؤدي دورًا مستقبليًّا في إدارة البلاد؛ ما يفتح باب التساؤلات عن إمكانية اتخاذ خطوات مماثلة تجاه الهيئة.
تأتي هذه الخطوة جزءًا من محاولات روسيا لتعزيز إستراتيجياتها السياسية في مناطق النزاع؛ فرفع الحظر عن منظمات معينة قد يمنح موسكو فرصة لتعزيز نفوذها من خلال إقامة علاقات مع أطراف كانت تعدّها في السابق عدوًا أو تهديدًا. هذه الخطوات تتماشى مع النهج الروسي القائم على البراغماتية في السياسة الخارجية، حيث تفضل موسكو التعامل مع القوى الفاعلة على الأرض -بغض النظر عن ماضيها- إذا كان ذلك يخدم مصالحها الوطنية.
القانون الجديد يعكس أيضًا إدراكًا روسيًّا لأهمية توفير أدوات قانونية مرنة تتماشى مع التحولات الدولية. في ظل التحديات المتزايدة التي تواجهها روسيا على الساحة العالمية، سواء من حيث العقوبات الغربية، أو إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية، يبدو أن موسكو تسعى إلى توسيع خياراتها من خلال تبني نهج أكثر شمولًا ومرونة في تعاملها مع المنظمات الدولية.
مع ذلك، يواجه القانون الجديد عددًا من التحديات؛ فمن الناحية القانونية، يثير غموض بعض العبارات، مثل “توفر بيانات فعلية”، تساؤلات عن المعايير التي ستُعتمَد لتقييم التزام المنظمات بالتوقف عن دعم الإرهاب. كما أن القرار قد يواجه انتقادات دولية، خاصة من الدول التي لا تزال تصنّف بعض هذه المنظمات على أنها تهديدات إرهابية خطيرة.
إضافة إلى ذلك، قد يؤدي رفع الحظر عن تنظيمات معينة إلى تعقيد العلاقات مع الحلفاء الإقليميين الذين يرون في هذه التنظيمات خطرًا على أمنهم القومي. على سبيل المثال، قد تنظر دول في الشرق الأوسط بعين الريبة إلى أي خطوة باتجاه تحسين العلاقات مع “هيئة تحرير الشام” أو “طالبان”، خاصة إذا كانت تلك الدول تراها تهديدًا مباشرًا.
القانون الجديد الذي أقره مجلس الاتحاد الروسي لإزالة المنظمات من قوائم الإرهاب يعكس تحولًا كبيرًا في السياسة الروسية ونهجها الجيوسياسي. هذه الخطوة ليست مجرد تعديل قانوني؛ بل تعبر عن إستراتيجية مرنة تهدف إلى تعزيز النفوذ الروسي، وإعادة تشكيل العلاقات الدولية بما يتماشى مع التطورات العالمية. من خلال هذا القانون، تسعى روسيا إلى توسيع خياراتها الدبلوماسية، وفتح قنوات للتواصل مع قوى فاعلة في مناطق النزاع، مثل أفغانستان وسوريا، وهو ما يعكس براغماتية واضحة في التعامل مع الأطراف التي كانت معادية في السابق.
القانون يوفر آلية قانونية محددة لإعادة تقييم وضع المنظمات المصنفة إرهابية؛ مما يمنح روسيا فرصة للتفاعل مع تغييرات الواقع السياسي والأمني على الأرض. من خلال اشتراط وجود أدلة فعلية على توقف المنظمة عن دعم الإرهاب أو تبريره، يُظهر القانون رغبة واضحة في تأسيس قراراته على أسس واقعية، مع الاحتفاظ بإطار قانوني يضمن عدم مراجعة الأحكام السابقة المتعلقة بالمنظمة قبل رفع الحظر عنها، وهذا يعكس حرصًا على تحقيق التوازن بين احترام القانون وضمان المرونة اللازمة للتكيف مع التطورات الجيوسياسية.
الخطوة جاءت بسرعة قياسية، حيث مُرِّرَ القانون في غضون أسابيع قليلة؛ ما يعكس إلحاحًا روسيًّا على تنفيذ هذه الآلية في أقرب وقت. ويرتبط هذا الإلحاح -على الأرجح- بسعي موسكو إلى تعزيز نفوذها في مناطق تشهد صراعات، مثل أفغانستان، حيث تمت الإشارة بوضوح إلى احتمال إزالة حركة “طالبان” من قوائم الإرهاب، خاصة في ظل تصريحات مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى أفغانستان. كما أن الحديث عن إقامة اتصالات مع قوى معارضة في سوريا قد يفتح المجال لتغيير الموقف الروسي تجاه “هيئة تحرير الشام” مستقبلًا.
هذه التحركات تأتي في وقت حساس يشهد فيه العالم إعادة ترتيب التحالفات والنفوذ الإقليمي، وهو ما يفرض على روسيا التكيف مع هذا الواقع الجديد من خلال أدوات دبلوماسية وقانونية أكثر مرونة. ومع ذلك، تواجه هذه الإستراتيجية تحديات دولية كبيرة، خاصة مع الدول التي لا تزال تعتبر بعض التنظيمات المستهدفة تهديدًا إرهابيًّا خطيرًا؛ ومن ثم فإن تنفيذ هذا القانون قد يثير انتقادات، أو يضع روسيا في مواجهة مواقف متباينة من حلفائها وشركائها.
في المجمل، يمثل هذا القانون خطوة إستراتيجية تهدف إلى إعادة تعريف السياسة الروسية في التعامل مع قضايا الإرهاب والنزاعات الدولية، كما أنه مؤشر على مرحلة جديدة تسعى فيها روسيا إلى تعزيز قوتها الناعمة، وتوسيع نفوذها من خلال الحوار والتفاعل بدلًا من المواجهة المباشرة. هذه التحركات تشير إلى أن موسكو ترى في هذا القانون أداة لتوسيع خياراتها الدبلوماسية، وتعزيز دورها بوصفها طرفًا رئيسًا في إدارة الأزمات العالمية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.