نتناول في هذا المقال -بالشرح والتحليل- إحدى روايات إيفان تورغينيف المحببة إلى قلوب قرائه، سواء في روسيا، أو خارجها، وهي رواية “عش النبلاء”، التي صدرت في عام 1859، أو كما تحمل أحيانًا في بعض الترجمات اسم بطلتها “ليزا”.
تدور أحداث الرواية في مدينة لا نعرف من اسمها سوى الحرف الأول “و”، وتبدأ في بيت آل كاليتين، حيث تعيش الأرملة الموسرة ماريا دمترييفنا مع ابنها وابنتيها وعمتها مارفا تيموفييفنا الغريبة الأطوار، يعيشون حياةً مترفةً متنعمةً مع الأصدقاء والجيران، ويتوقعون خطبة الابنة الكبرى ليزا ذات الطبيعة الجادة المتدينة إلى فلاديمير بانشين، ضابط الحاشية، ورجل المجتمعات المتأنق السطحي الذي تنحصر اهتماماته في اللهو واستمالة النساء، والحديث عن تغيير المجتمع بلا فعل حقيقي. عند عودة قريبهم فيدور إيفانوفيتش لافريتسكي من أوروبا إلى ضيعته، نعرف أنه ينتمي إلى طبقة النبلاء من ناحية أبيه، ولكن أمه من الفلاحات، وتُدعى مالانيا. ولحنق الجد على ميول الأب الغربية، نجم خلاف مرير بينهما، وتصاعد عند إصرار الأب على الاقتران بمالانيا. نطالع كيف فرض الأب مظاهر الحياة الأوروبية على لافريتسكي قسرًا، فتذبذبت هويته بوضوح، كما نعرف أن لافريتسكي متزوج بفارفارا بافلولفونا التي تعرَّفَ إليها في أثناء دراسته في بطرسبورغ، ولكن توجد بينهما فجوة لاختلاف الميول؛ فهو شغوف بالاطلاع والدراسة، وهي مولعة بحياة الصخب واللهو، لكنه يكتشف بالمصادفة خيانتها، ويفترق عنها بهدوء وشهامة، والمؤسف أن أنباء تماديها في طيشها بلغت مسامع الجميع، وتترك هذه المحنة جرحًا موجعًا في نفسه.
ومع توجهه لزيارة قريبته الأرملة ماريا دمترييفنا، يرى ليزا، ويعلم اعتزام بانشين خطبتها، وبالتدريج يشعر في نفسه ببعض الأحاسيس تتكون نحو ليزا؛ لما تتحلى به من رزانة، ويتجدد أمله في تحقيق الحب والسعادة معها بعد تجربته الأولى الفاشلة، لكن يمنعه من الإفصاح عن ذلك استمرار زواجه رغم الافتراق. يتسبب تردده إلى آل كاليتين في ضيق ماريا دمترييفنا منه رغم تعاطفها مع أزمته في البداية، ويتحول تعاملها معه إلى فتور وإعراض، وتتحفظ ليزا على مظاهر غياب التدين في شخصيته، وعدم صفحه عن زوجته، أما هو فيرجو منها أن تتفهم ألمه ولا تمسه، لكن ليزا تنجذب إلى روح لافريتسكي الروسية الأصيلة بعد تفنيده انتقادات بانشين المتغطرسة عن أهمية أن تحذو روسيا حذو أوروبا؛ إذ لا ينبغي أن تستمر في تخلفها. تستهجن ليزا حديث بانشين؛ لأنها هي نفسها روسية وطنية، تحب أهلها ولا تحتقرهم، بل ينفرها حديثه المتعالي عن الروس، فهي لا تتكلف التواضع معهم؛ ولذا يسرها دفاع لافريتسكي عن استقلالية روسيا وأبنائها الشباب.
تقع الذروة بين حدثين: مع نشر شائعة عن وفاة فارفارا يتجدد أمل لافريتسكي في حب ليزا، ويطلعها على الخبر، لكنها تتعجب من عدم حزنه على زوجته، وتعتبر حديثه عن موتها من قبل إثمًا، وتشدد على ضرورة المغفرة. ولأن بانشين لا يعجبه، ينصحها بأن تتريث في قبول خطبته؛ لأنه لا يناسبها، ويشير إلى أهمية الزواج عن حب؛ لأن السعادة تتوقف علينا إلا إذا أفسدناها بأنفسنا، وبموجب ذلك تعتذر ليزا عن قبول طلب بانشين. لكن تحدث مفاجأة ظهور فارفارا من جديد، وتسعى إلى استرضاء لافريتسكي من أجل ابنتهما آدا. يوقن لافريتسكي أنه لا مجال للم الشمل معها، رغم محاولات ماريا دمترييفنا للصلح بينهما لاحقًا، لكنه يترفق بها، ويعرض عليها الحياة في ضيعة لافريكي. تتردد فارفارا إلى بيت آل كاليتين، وتتوطد الصداقة بينها وبين ماريا دمترييفنا، ويتودد إليها بانشين، وتتبادل معه التودد. يتبدد أمل لافريتسكي في الزواج بليزا. ومن جانب آخر، تتلقى ليزا توبيخًا عاصفًا لرفضها بانشين وميلها نحو لافريتسكي بما لا يليق بفتاة مهذبة، فتحسم الأمر في النهاية بقرار الرهبنة كتوبة وتكفير عن أخطاء كثيرة.
كما يتضح من العنوان، فهذه الرواية تسلط الضوء على صراع الهوية بين أعضاء طبقة النبلاء التي ينتمي إليها تورغينيف، ولكن هذه الطبقة ليست كتلةً مصمتةً أو متجانسةً، ولكن تتنوع رقائقها، وتختلف مصالحها، وتتضارب مفاهيمها. والجدير بالذكر أيضًا انتماء تورغينيف إلى دعاة التغريب، وتمثيله لهم في هذا الجيل من الكُتَّاب الروس المعروفين بلقب جيل أربعينيات القرن التاسع عشر، وهو الجيل الذي ضّمَّ أنماطًا متعددةً من المفكرين والأدباء من جميع الأطياف المحافظة، والثورية، والقومية، والغربية، ممن أسهموا في تشكيل الثقافة الروسية الحديثة من خلال فههم أن الفن هو وسيلة أساسية لاستيعاب العالم ووصفه.
لكن بفضل ما تحلى به تورغينيف من روح وسطية، تمكن من تقديم رسم صادق لكل اتجاهات طبقة النبلاء، دون تحيز أو محاباة لأفكاره ومعتقداته الخاصة، المتمثلة في المستغربين المهووسين بكل ما هو أوروبي بما ينتزعهم من أصولهم الروسية، ويجعلهم كيانًا زائدًا على الحاجة، لديه كثير من الكلمات الطنانة عن أهمية التقدم، وقليل من الأفعال لتحقيق ذلك، ودون تحامل على أنصار حركة السلافوفيليا المتعصبين لأفضلية روسيا، وقيمها وتقاليدها، ومؤسساتها النابعة من التاريخ الروسي رغم تحفظاته عليها. كما تطرح الرواية أيضًا موضوعية تورغينيف، وفي ذلك يكمن إنجازه بوصفه مفكرًا تقدميًّا ومدونًا للواقع، رهيف الإحساس بالاتجاهات الراهنة. فلا جدال بشأن نزعة تورغينيف الغربية، وتصويره المحايد لتصاعد حركة السلافوفيليا الوطنية، ومن ثم تقدم الرواية معالجةً تحمل رثاءً ووداعًا إزاء الإخفاق في الحب وبلوغ السعادة، مع التفاؤل الحذر حيال اعتزام حرث الأرض، ووصول جيل جديد من المأمول إعادة إحيائه إلى البيت أو العش، أي الوطن، على نحو مجازي.
وليس من الغريب بعد مطالعة رواية “عش النبلاء”، واستيعاب أجوائها، أن ندرك أن تورغينيف يستحق وصف الأديب البريطاني أرنولد بينيت له بقوله: “إن تورغينيف هو صاحب الكلمة الأخيرة في نقاء البراعة الفنية”، في حين يحدد الناقد الروسي المحافظ أبولون جريجورييف، في تحليله لرواية “عش النبلاء”، مصادر التأثير المهمة في تطور العمل الفني لدى تورغينيف، وهذه المصادر تتركز في المدرستين الرومانسية والطبيعية، فيذكر تأثير شخصية “بيشورين”، بطل رواية “بطل من هذا الزمان” للأديب ميخائيل ليرمنتوف بوصفه مصدر إلهام لتورغينيف، كما يرى أن عودة لافريتيسكي بطل “عش النبلاء” إلى ضيعته المُهمَلة وإحياءه لها بمنزلة العودة إلى تراب الوطن الأم.
وعلى جانب آخر، يرى “إيه. بي. ماكميلان”، في تقديمه لإحدى الطبعات الإنجليزية للرواية، أن تورغينيف من أكثر الأدباء الروس شاعريةً وواقعيةً في آنٍ معًا، ولكن تناول النقاد لأعماله، سواء من أنصار السلافوفيليا، أو دعاة التغريب، انصب على فحوى أعمال تورغينيف ومحتواها أكثر مما تتضمنه من تميز فني يتجلى في الوصف الشاعري، والمدى الواسع للصور الرقيقة، والجاذبية الفنية، وهو يتفق مع سالتيكوف شيدرين في اعتبار تورغينيف وريثًا لبوشكين؛ لاهتمامه بمعالجة القضايا الراهنة في قوالب تتسم برقة تناسب البناء على نحو ملحوظ، مصحوبةً بأجواء الروح الشعرية القوية، ولكنها لا تتحول إلى عاطفية مفرطة. كما أنه يكتب كتابةً مثيرةً للمشاعر أكثر منها تحليليةً، مثله في ذلك مثل بوشكين؛ وبذلك فرواية “عش النبلاء” هي الأكثر شاعريةً بين أعمال تورغينيف.
كما يرى ماكميلان أن شخصية “ليزا” رغم ما يبدو عليها من بساطة فكرية واضحة فإن سماتها تُظهِرُ قوة شخصيتها ونقاءها أكثر من محبيها، سواء لافريتسكي (ممثل السلافوفيليا)، أو بانشين (ممثل دعاة التغريب)، الذي يوضح مفهوم تورغينيف عن الرجل الزائد على الحاجة، عديم المنفعة والقدرة على التصرف الجاد رغم ثقافته العالية؛ ولذلك تقبَّلَ الجمهور والنقاد هذا الوصف كانعكاس لواقع المجتمع الروسي، وإن وجهوا اللوم إلى شيءٍ حيال ذلك، فسيتجه إلى الظروف السياسية والاجتماعية، وليس إلى تورغينيف.
على جانب آخر، تشمل ترجمة كونستانس جارنت للرواية مقدمةً مهمةً للكاتب الروسي الثوري سيرجي ستيبنياك، الذي يذهب إلى أنه من الصعب الإشارة إلى أي عمل في الأدب يتمتع بكل هذه الروح الشعرية، وعمق الإثارة العاطفية، بالإضافة إلى التصوير الدقيق للشخصيات المتباينة في توازنٍ ملحوظٍ، بما يتجاوز اعتبار الأمر مجرد ذائقة شخصية. ووفقًا له أيضًا، فهذه الرواية تستحق بجدارة عنوان “الأرض العذراء”؛ لما تتضمنه من تصوير مفعم بالحياة لبكارة الأرض الروسية اليانعة النضرة، أكثر من رواية تورغينيف اللاحقة التي تحمل هذا العنوان.
يوضح ستيبنياك أن طبقة النبلاء التي تنتمي إليها معظم شخصيات الرواية تختلف في روسيا عن أوروبا، فهنا تتجسد شخصيات من النبلاء تتعرض للثقافة الأوروبية، لكنها بالكاد تتأثر بها.
على سبيل المثال: ليزا -بطلة الرواية وشخصيتها المحورية- تتحدث الفرنسية، وتعزف على البيانو، لكن رؤاها الدينية والأخلاقية لا تختلف كثيرًا عن نظيراتها بين الفلاحات الروسيات، تملكُ اطمئنانًا لا يعرف الارتياب، نموذج حقيقي بين الفتيات الروسيات اللاتي شكلتهن القرون الماضية، لم يسبق لها الاستماع إلى الأفكار التقدمية التي تثير انزعاجها، ولو سمعَت فستخجل من الاعتراض عليها جهرًا، ولكنها ستشجبها في داخلها. لا يرسمها تورغينيف بألوان صارخة، ويعمد إلى تقديمها في صورة شاحبة، لا تدعي ليزا امتلاك طبيعة ذهنية مفكرة، أو جمال بارع، لكن يبرق حسنها الأخلاقي ونقاء طبيعتها بلا أي زخارف عقلية أو جمالية، وبفضل ذلك تأسر القلوب، ولا سيما القلب الروسي. طبيعتها المخلصة قادرة على التحمل، تبتعد عن الطيش والنزق، ترتعب من الخطايا المميتة، ولو كانت مجرد كسر الحواجز والقيود المحيطة بها، يحفزها الشعور بالواجب والإيثار، تُفَضِّلُ التضحية بالنفس في سبيل الآخرين، تجد سلوانها في إنكار الذات، العزم الذي تتوصل إليه بعدما تقوّضَت أحلامها عن الحب لا يختلف عما ستتوصل إليه أي فتاة من بنات الأرياف الروسية إبان ذلك؛ وبذلك يتسنى للمرء الشعور بتلك الإمكانات الخفية في تلك الأرواح الصادقة.
أما “لافريتسكي”، الذي تجتمع فيه أصول النبلاء من جانب أبيه، وأصول الفلاحين من جانب أمه، فيراه ستيبنياك من بين القلائل في شخصيات تورغينيف الرجالية ممن يمكن وصفهم بذوي الأفعال، فمع اجتماع الثقافة الرفيعة، والطبيعة القادرة على الصبر، ورغم تعليمه وحياته في الخارج، فإن ذلك لم يجعل منه مواطنًا كوزموبوليتانيًّا مثل أبيه، بل هو روسي أصيل تغلبُ عليه طبيعته السلافية، وذلك ما أدركته ليزا في شخصيته، ولذا تنجذب إليه بعد جداله الحاد مع بانشين، رغم تحفظها على ما يُبديه من غياب للتقوى، لكنها مع ذلك تكتشف الرابطة الروحية بينهما، وتحاول أن تتفهمه وتتقبله.
يتعرض ستيبنياك لملاحظة جوهرية متعلقة بحديث لافريتسكي عن عودته إلى “حرث الأرض”، وما تتضمنه من معانٍ مجازيةٍ ربما تخفَى عن غير الروس، فهذه العبارة تعني -ضمنيًّا- العيش وسط الناس، والاختلاط بهم، وأن يصبح المرء واحدًا منهم ويكسب ثقتهم، لسد الثغرة بين المتعلمين المثقفين وجموع الشعب، ويحسب أن لافريتسكي نموذج حي تتجسد فيه حركة عظيمة مَرَّتْ أمام عينيّ تورغينيف، وقد تركَت هذه الحركة أثرًا وطيدًا في نمو الأفكار الديموقراطية في روسيا، ظهرَت حركة السلافوفيليا في لفيف من ذوي المواهب من بين الأدباء والفلاسفة والشعراء، ويرى ستيبنياك أنه كان من الأفضل تسميتها russophilia؛ لأن هؤلاء الوطنيين درسوا الفلسفة الغربية، وانتهوا إلى الاستخفاف بها، والانتقاص منها، إذ لم يجدوا فيها سوى الأنانية، والعطب، والشقاق، ففي رأيهم أن العصر قد تجاوز الغرب الذي شاخ وأوشك على التحلل والفساد، ولن تأتي إعادة إحياء العالم إلا من عرق السلافية النضر متمثلًا في روسيا، فحل المشكلات الأليمة، سواء الأخلاقية، أو الاجتماعية، لا يوجد إلا في الذهاب إلى أكواخ الفلاحين، حيث الأفكار السلافية النقية التي لم تلوثها الثقافة الغربية التي فرضها بطرس الكبير.
بحسب ستيبنياك، كان هؤلاء الرجال من أنصار السلافوفيليا ديموقراطيين محبين للشعب، ومن أوائل المتعلمين الذين اختلطوا بالعوام والفلاحين لدراسة عاداتهم، وتقاليدهم، وأشعارهم، ونظمهم الاجتماعية، ومبادئهم الأخلاقية، ولكنه على الجانب الآخر يحسب أن حماستهم قد ضللتهم، فلا يكمن خطأ أنصار السلافوفيليا في الإفراط في حب ذويهم؛ وإنما في الافتقار إلى احترام أنفسهم؛ لأنهم كانوا خانعين مستَعبَدين في إعجابهم بمؤسسات ذات طبيعة جامدة، مثل الحكم المطلق والكنيسة الأرثوذكسية، حسب تعبيره؛ لأن كلتا المؤسستين تملك نفوذًا على الجماهير، وبذلك عَطَّلَ أنصار هذه الحركة عقولهم، لكن هذه الرؤية المحدودة من مؤسسي الحركة طورها الجيل اللاحق، من خلال تبني رؤاها الجوهرية.
في نظر ستيبنياك، لم يتأثر تورغينيف بهذه الانحرافات من خلال حبه الحماسي للشعب الروسي، وأمله في المستقبل بتصويره شخصية لافريتسكي الذي احتفظ بجوهر الروح السلافية رغم تعرضه للثقافة الأوروبية، وظل يحب مواطنيه الروس كما هم دون أن يضعهم في أطر مثالية، يعرف قيمة روحهم الروسية، ويحترم تقاليدهم، ويندمج معهم، ويطلب خيرهم.
الملمح الأهم الذي يتناوله ستيبنياك في الرواية هو ما تحتويه قصص الحب لدى تورغينيف من تحديد للمصائر؛ إذ يتلقى لافريتيسكي ضربات موجعة: الأولى في اكتشاف خيانة زوجته فارفارا بافلوفنا، والثانية في تحطم آماله بالاقتران بليزا، وفي المجمل تداعي مفهومه عن السعادة الذي تدمره هذه النكبات، لكنه يتوصل إلى إدراك معنى أشمل وأعمق يتخطى فكرة السعادة الأنانية، يتجه نحو خير الآخرين، وإفادتهم ومنفعتهم، ومن ثم فهو لا ينكسر، بل يغدو أفضل عن ذي قبل، رغم جروح قصص الحب، لكنه يصير ألطف وأنقى، بما يبعث رجاءً وأملًا للأمة الروسية من خلال لافريتسكي وليزا، رغم ما يخيم على الرواية من كآبة وحزن.
أما في ترجمة البروفيسور ريتشارد فريبورن للرواية، فنلاحظ أنه يعرض في مقدمته كثيرًا من الملامح المهمة في العمل، إذ يتصور فريبورن أن وجود شخصية ميخايليفيتش صديق لافريتسكي ليس من قبيل الإقحام؛ لأن عبارته الوداعية عن أهمية الدين والتقدم والإنسانية تشابه شبح أبي هاملت الذي يُذَكِّرُ بالمثل العليا، يوجه ميخايليفيتش كلمات توبيخ قاسية نحو استغراق لافريتسكي في الرثاء للذات بعد اكتشافه خيانة زوجته على حساب المثاليات الواجبة، ينصحه ألا يلجأ للانخراط في تبلد طبقة النبلاء المستغربين، وإصراره على إشعار لافريتيسكي بالواجب والمسؤولية نحو روسيا، والعمل الفعلي لصالحها. لكن لافريتسكي يعي خطورة فرض الإصلاحات بالقوة من فوق، دون اعتبار لما سيحل بمن ستلحق بهم هذه الإصلاحات، فهو نفسه تعرَّضَ لفرض الثقافة الغربية عليه بالإكراه من أبيه المولع بالثقافة الإنجليزية. وفي جداله مع بانشين، يعارض لافريتسكي الإجبار على التغيير من فوق، ويدافع عن استقلالية روسيا وأبنائها الشباب، وأهمية الاعتراف بقيمة ذلك، والتصالح معه، ومن هذه الذروة في الانتصار في النقاش يذهب إلى مدى أبعد في تطبيق ذلك على نفسه؛ بحرث الأرض، والتصالح مع وطنه ومواطنيه، ويحقق مفهومًا أثمن لفكرة السعادة الحقيقية.
يعقد فريبورن مقارنةً محوريةً عن السكون والهدوء الذي يظهر في عزف ليزا على البيانو، ويتخلل صمت الضيعة، وكيف يتذكر لافريتسكي هذه النغمات الوديعة في شجنٍ عند عودته الأخيرة في ختام الرواية، وكيف يتناقض ذلك مع عزف فارفارا بافلوفنا الذي يبدو فيه الميل إلى الظهور والاستعراض، ومبادلة التودد مع بانشين. كما أن الملامح الحيوية التي تتطور بها طريقة تفكير لافريتسكي لا تفوت على فريبورن، فرغم اعتقاده أن السعادة تعتمد على حقيقة القلب، فإنه يرضخ -في النهاية- لوجهة نظر ليزا في أن السعادة لا تعتمد علينا؛ بل على الرب؛ عندما أيقن استحالة إيجادها من الحب، وأن الإنسان لن يختبر السعادة أبدًا في الحياة إلا كأمر عابر زائل.
كما يتطرق فريبورن أيضًا إلى جانب مهم؛ وهو أن الخلفية الدينية القوية لدى ليزا لم تأتِ من فراغ؛ فبعدما عرضَ تورغينيف مسودة الرواية على أصحابه، جاء انتقادهم الرئيس موجَّهًا نحو هذه الناحية؛ لذا اهتم تورغينيف بإبرازها، وتوضيح تفاصيل تربيتها، وتعاظم تقواها بفضل تأثير مربيتها أغافيا فلاسييفنا؛ وهي فلاحة بسيطة ترضى بكل ما تأتي به الحياة، ولا تعرف التذمر، وتركَت أثرًا لم يعرف الزوال في نفس ليزا؛ ولذا اختمرَت في ذهن ليزا فكرة الرهبنة في نهاية المطاف. والجدير بالذكر أن نموذج ليزا -وفقًا لفريبورن- هو نموذج متفرد بين شخصيات تورغينيف النسائية؛ إذ لا توجد أخرى تماثلها في التدين والبر.
وقد تلقى تورغينيف بعض الاتهامات بسبب شخصية ليزا، حيث حاول بعضهم تخمين صاحبة النموذج الأوَّلي التي ألهمَت تورغينيف بالشخصية. يتصدى فريبورن لتفنيد هذه المزاعم؛ أول هذه المزاعم أن الشخصية مستوحاة من الكونتيسة “إي. إي لامبرت” التي كان تورغينيف يراسلها في أثناء تأمله للرواية وكتابته لها؛ بسبب ما يتخلل هذه المراسلات من روح رثائية كئيبة، كتلك الموجودة في الرواية، وفي رأي فريبورن أن هذا الزعم يبدو ضئيلًا وواهيًا.
أما الاتهام الثاني فصدرَ عن الكاتب إيفان جونشاروف، الذي ادعى أن تورغينيف استوحى ليزا من شخصية فيرا؛ بطلة روايته “حافة الهاوية”، عندما أطلعه عليها عام 1855، واعتبر ذلك مكرًا من تورغينيف، وظل يضمر تجاهه ضغينةً بقية عمره، لكن بحسب فريبورن أيضًا، فإن هذا الزعم -في حال صحته- لا يقوم إلا على التخطيطات الأولية لشخصية فيرا وليس أكثر من ذلك، وبالأحرى لأن رواية جونشاروف لم تصدر بالفعل إلا في عام 1869.
وبالمثل يعتقد فريبورن أنه من قبيل السذاجة توجيه الاتهام بوجود تشابه بين شخصيتي ليزا، سواء في رواية تورغينيف، أو في نوفيلا “الفارسان” لتولستوي، في وقت عاش فيه الكاتبان على مقربة من بعضهما، وتمتعا بقدر طيب من الصداقة.
يلفت فريبورن نظر القارئ إلى تعدد عوالم شخصيات الرواية التي ينتمون إليها، وتأثيرها فيهم، إلى درجة تبدو فيها كأنها تُملي عليهم مصائرهم؛ لافريتيسكي بما يحمله من اختلاط بين أصول النبلاء والفلاحين وميله إلى السلافوفيليا، وليزا في غرفتها كأنها صومعة راهبة بنفسيتها الراضية القانعة، وأمها ماريا دمترييفنا، والزوجة اللعوب فارفارا بافلولفونا، والمستغرب المتصنع بانشين في عالمهم الغارق في اللهو والترف، وانعدام العمل الجاد، أو بعض الشخصيات البسيطة من الفلاحات الراضيات، مثل المربية أغافيا ومالانيا أم لافريتيسكي، تتجاور كل هذه العوالم بعضها إلى جوار بعض، ولكنها لا تتصالح، وذلك -في رأيه- من أسباب موافقة الرواية لذائقة القراء الإنجليز في العصر الفيكتوري.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.