لم ألتقِ يومًا رفعت سلام، الشاعر المصري الكبير الذي رحل عن عالمنا قبل عدة أعوام، وأنّى لجغرافي مثلي أن يلتقيه، أو يقرأ شعره، ويتابع ثمار شجرته الوارفة التي جعلته أحد أهم شعراء العصر الحديث! المصادفة وحدها قادتني قبل عدة سنوات إلى قراءة إحدى علامات إسهامه.
كنت قد نشرت بعض مقالات من موسكو عن شاعر روسيا الكبير ألكسندر بوشكين، وكان اهتمامي بالكتابة عنه من زاوية الجغرافيا لا الشعر، فألكسندر بوشكين هو- دون أدنى مبالغة- “هدية إفريقيا إلى روسيا”.
حين تتابعت بعض مقالاتي القصيرة عن بوشكين، بادرت الأديبة المصرية أسماء شهاب الدين بلفت انتباهي إلى شيء كان واضحًا أنني أجهله فيما أكتب؛ وهو أن عددًا لا بأس به من قصائد شاعر روسيا العظيم نقلها إلى العربية المترجم الكبير رفعت سلام في الكتاب الذي حمل عنوان “الغجر وأعمال أخرى”، وصدر في عام 1982.
عكفت على الكتاب، وفهمت أن شاعرنا ومترجمنا الكبير نقل القصائد عبر لغة وسيطة، ربما تكون الإنجليزية، لكنه عوض ذلك بغوص ملحوظ في المعاني الإنسانية المشتركة.
“الغجر وأعمال أخرى” وثيقة ثقافية وجغرافية وتاريخية تكشف حياة روسيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
مغامرة كبرى يخوضها الشاعر حين يترجم لشاعر مثله، وحين طـُرح هذا السؤال على رفعت سلام، في حديث تليفزيوني قبيل رحيله، قال: “حين أترجم أتذكر دومًا أنني أنقل لروح أخرى وعقل آخر… وأنبه نفسي دومًا أنني لست هو”.
المدرسة التي ينتمي إليها رفعت سلام في القاموس اللغوي لترجمة الشعر إلى العربية مدرسة ملتزمة بالتوازن الصعب بين نقل أمين لمضمون الأصل مع منح الترجمة روحًا عربية.. ما أصعبها من مهمة!
يحدثنا المترجم المصري العظيم الراحل د. أبو بكر يوسف، الذي يعد أشهر من ترجم من الروسية إلى العربية نثرًا وشعرًا إلى طريقة مبدعة في الفوز بغمار تلك المهمة الصعبة.
يقول د. أبو بكر يوسف إنه حين كان يترجم لشاعر روسي في نهاية القرن التاسع عشر مثلًا، كان يذهب إلى الشعراء المصريين والعرب المعاصرين للفترة نفسها، ثم يبحث عن أقربهم إلى روح الشاعر الروسي وتجربته، وأكثرهم في الوقت نفسه شبهًا بالتحديات والمتاعب والمعاناة الشعرية، وحين يصل إلى أحدهم يبدأ باستلهام (لا استلاب) قاموسه اللغوي العربي؛ لأن اللغة الإنسانية مشتركة رغم اختلاف الألسنة.
في كتاب “الغجر وأعمال أخرى” تعرف بوشكين بلغة رفعت سلام، تلمس أحاسيس الحب والألم والأسى، تقرأ فلسفة الموت والحياة، يأخذك رفعت سلام في النسخة العربية إلى مصير شعب كان هائمًا على وجهه في شرق أوروبا من جماعات الغجر، بكل ما يحملونه معهم من أرواح متنقلة، وامتزاج غير متكلف في نسيج بيئة الغابات والسهوب والأنهار.
في ترجمة رفعت سلام لبوشكين، تعرف جبال القوقاز التي كتب عنها بوشكين واحدة من أروع القصائد عن الجنوب الروسي، نرى سماوات مفتوحة، وجبالًا ترصع الثلوج البيضاء قممها، وطيورًا كاسرات تحوم في الأفق.
مرت أربعون سنة على ترجمة رفعت سلام عن بوشكين وما زال علامة ثقافية مهمة يقف إلى جوار الإبداعات التي قدمها رواد الترجمة المصريين عن الأدب الروسي.
تتألف مجموعة “الغجر وأعمال أخرى” من أكثر من 15 قصيدة، أهمها ما يلي:
كان مؤلف هذا المقال قد ترجم عن الروسية ثلاث قصائد لبوشكين، ونشرها مركز الدراسات العربية الأوراسية في الروابط التالية:
ولقد تبين للمؤلف من خلال الترجمة عن الروسية أن هناك بالطبع بعض اختلافات عما قام به رفعت سلام في الترجمة عن لغة وسيطة، لكن يبقى جوهر المعنى واحدًا، وإن اختلفت التعبيرات والمترادفات.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.