القضايا الاقتصاديةتقدير موقف

رسوم ترمب على الهند.. النفط الروسي والصراع الاقتصادي


  • 9 أغسطس 2025

شارك الموضوع

في خطوة تصعيدية أثارت جدلاً واسعًا، أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أمرًا تنفيذيًّا في أغسطس (آب) 2025 يقضي بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 25% على الواردات الهندية إلى الولايات المتحدة، متهمًا نيودلهي بالاستمرار في شراء النفط الروسي على نحو مباشر وغير مباشر، في تحدٍّ للعقوبات الغربية المفروضة على موسكو بسبب الحرب في أوكرانيا. هذا القرار، الذي يأتي في سياق التوترات الجيوسياسية المستمرة والصراعات التجارية العالمية، يعكس إستراتيجية أمريكية للضغط على الدول التي تواصل التعامل التجاري مع روسيا، مع التركيز على الهند، ثالث أكبر مستهلك للنفط في العالم.

تُعد الهند من أكبر الاقتصادات الناشئة في العالم، وتعتمد اعتمادًا كبيرًا على استيراد النفط لتلبية أكثر من 85% من احتياجاتها في مجال الطاقة. منذ بدء الحرب في أوكرانيا عام 2022، زادت الهند مشترياتها من النفط الروسي على نحو ملحوظ، مستفيدة من الأسعار المخفضة التي قدمتها موسكو بعد فرض العقوبات الغربية التي حدت من تصدير النفط الروسي إلى أوروبا. وتستورد الهند حاليًا نحو (1.75) مليون برميل يوميًّا من النفط الروسي، وهو ما يمثل نحو 35% من إجمالي وارداتها النفطية، مقارنة بأقل من 2% قبل الحرب. هذا التحول جعل الهند من أكبر مشتري النفط الروسي إلى جانب الصين، مما أثار استياء الولايات المتحدة التي ترى في هذه التجارة دعمًا غير مباشر للاقتصاد الروسي وسط الحرب.

من الناحية الأمريكية، يندرج قرار فرض الرسوم الجمركية ضمن إستراتيجية أوسع تهدف إلى تقييد قدرة روسيا على تمويل حربها في أوكرانيا. يرى ترمب -كما أشار في تصريحاته- أن استمرار الدول في شراء النفط الروسي يقوّض فاعلية العقوبات الغربية، ويسهم في استدامة الصراع. وقد أكدت إدارته أن الرسوم الجمركية ليست موجهة فقط ضد الهند؛ بل قد تشمل أي دولة أخرى تستمر في التعامل التجاري مع روسيا في قطاعات حيوية مثل النفط والغاز. هذا النهج يعكس عودة ترمب إلى سياساته التجارية العدوانية التي اتسمت بها ولايته الأولى، حيث استخدم الرسوم الجمركية أداةً للضغط الاقتصادي والسياسي.

تتعدد الدوافع وراء قرار ترمب فرض رسوم جمركية إضافية على الهند، ويمكن تقسيمها إلى دوافع اقتصادية وجيوسياسية. من الناحية الاقتصادية، يرى ترمب أن الهند تفرض رسومًا جمركية مرتفعة على المنتجات الأمريكية، مما يسهم في خلق عجز تجاري كبير مع الولايات المتحدة. في منشوراته على منصته “تروث”، أشار ترمب إلى أن الرسوم الجمركية الهندية “من بين الأعلى في العالم”، وأن الحواجز غير الجمركية التي تفرضها نيودلهي تجعل التجارة معها “مرهقة ومستهجنة”. هذا المنظور يعكس رؤية ترمب الاقتصادية القائمة على مبدأ “أمريكا أولًا”، التي تسعى إلى تقليل العجز التجاري، وتعزيز الصناعات المحلية.

ومع ذلك، فإن الدوافع الجيوسياسية تبدو أكثر وضوحًا في هذا القرار. يهدف ترمب إلى إرسال رسالة قوية إلى الهند، وغيرها من الدول التي تواصل العلاقات التجارية مع روسيا، مفادها أن الولايات المتحدة لن تتسامح مع ما تراه “تحايلاً” على العقوبات الغربية. اتهامات ترمب للهند بإعادة بيع النفط الروسي في الأسواق العالمية لتحقيق أرباح طائلة تضيف بُعدًا أخلاقيًّا إلى الخطاب الأمريكي، حيث يربط الرئيس الأمريكي بين مشتريات الهند النفطية والتكلفة الإنسانية للحرب في أوكرانيا. هذا الخطاب يهدف إلى وضع الهند في موقف دفاعي، حيث يُصور استيرادها للنفط الروسي بوصفه دعمًا غير مباشر للجهود الحربية الروسية.

ردت الحكومة الهندية على قرار ترمب ببيان شديد اللهجة، وصفت فيه الانتقادات الأمريكية بأنها “غير مبررة، وتفتقر إلى المنطق”. أكدت نيودلهي أنها لن تتردد في اتخاذ التدابير اللازمة لحماية مصالحها الاقتصادية والسيادية، مشيرة إلى أن مشترياتها من النفط الروسي جاءت استجابة لاحتياجاتها الطاقوية الملحة، خاصة في ظل تحويل الإمدادات النفطية التقليدية إلى أوروبا بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. كما سلطت الهند الضوء على ما سمّته “ازدواجية المعايير”، مشيرة إلى أن دولًا غربية، منها الولايات المتحدة وأعضاء الاتحاد الأوروبي، تواصل التجارة مع روسيا في قطاعات أخرى دون مواجهة انتقادات مماثلة.

تاريخيًّا، حافظت الهند على علاقات قوية مع روسيا، خاصة في مجالات الدفاع والطاقة. هذه العلاقة، التي تعود إلى الحقبة السوفيتية، تُعد جزءًا من إستراتيجية الهند لتنويع مصادرها الطاقوية والعسكرية، وتجنب الاعتماد الكلي على الغرب. في هذا السياق، يمكن فهم قرار الهند مواصلة شراء النفط الروسي على أنه محاولة للحفاظ على استقلاليتها الإستراتيجية، خاصة في ظل الضغوط الأمريكية. رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، دعا مواطنيه إلى دعم المنتجات المحلية، في إشارة إلى رفض الهند الخضوع للضغوط الخارجية، مؤكدًا أهمية حماية المصالح الاقتصادية الوطنية.

ومع ذلك، بعض شركات التكرير الحكومية الهندية بدأت تقليص مشترياتها من النفط الروسي، حيث اشترت إحدى أكبر المصافي الهندية (7) ملايين برميل من النفط الخام من الولايات المتحدة وكندا والشرق الأوسط. هذا التحول يمكن أن يُفسر على أنه استجابة غير مباشرة للضغوط الأمريكية، لكنه في الوقت نفسه يعكس إستراتيجية هندية لتجنب التصعيد الكامل مع واشنطن، مع الحفاظ على توازن دقيق في علاقاتها الدولية.

تُعد الهند شريكًا إستراتيجيًّا مهمًّا للولايات المتحدة، خاصة في إطار التحالف الرباعي (Quad) الذي يضم أيضًا اليابان وأستراليا، والذي يهدف إلى مواجهة النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. قرار ترمب فرض الرسوم الجمركية يثير تساؤلات عن تأثيره في هذه الشراكة. من جهة، قد يؤدي القرار إلى توتر العلاقات الثنائية، خاصة إذا استمرت الهند في تحدي الضغوط الأمريكية، ومن جهة أخرى، تشير المحادثات التجارية المستمرة بين البلدين إلى إمكانية التوصل إلى اتفاق يخفف من حدة التوترات.

اقتصاديًّا، قد تؤثر الرسوم الجمركية في الصادرات الهندية إلى الولايات المتحدة، التي تشمل منتجات مثل المنسوجات والأدوية والتكنولوجيا. ومع ذلك، فإن تأثير هذه الرسوم قد يكون محدودًا؛ لأن الولايات المتحدة ليست السوق الرئيسة للصادرات الهندية. في المقابل، قد تدفع الرسوم الهند إلى البحث عن أسواق بديلة، أو تعزيز الاعتماد على الإنتاج المحلي، كما دعا إليه مودي. جيوسياسيًّا، قد يدفع القرار الهند إلى تعزيز علاقاتها مع دول أخرى، مثل روسيا والصين، ضمن إطار مجموعة بريكس، مما قد يعقد الجهود الأمريكية لعزل روسيا دوليًّا.

يواجه قرار ترمب تحديات عدة، أبرزها مقاومة الهند للضغوط الأمريكية، مدعومة بحاجتها الملحة إلى الطاقة، وعلاقاتها التاريخية مع روسيا. كما أن انتقاد الهند لـ”ازدواجية المعايير” الغربية قد يجد صدى لدى دول أخرى، مثل الصين وتركيا، التي تواصل أيضًا التعامل التجاري مع روسيا. هذا الوضع قد يؤدي إلى تشكيل تحالفات اقتصادية جديدة تعارض الهيمنة الأمريكية على النظام التجاري العالمي.

في الوقت نفسه، يفتح القرار فرصًا لكلا الطرفين لإعادة تقييم علاقاتهما التجارية؛ ففيما يتعلق بالولايات المتحدة، يمكن أن يكون القرار حافزًا لدفع الهند نحو تقليص مشترياتها من النفط الروسي، وزيادة الاعتماد على مصادر أمريكية أو غربية أخرى. أما فيما يتعلق بالهند، فقد يشجع القرار على تسريع جهودها لتنويع مصادر الطاقة، بما في ذلك الاستثمار في الطاقة المتجددة؛ لتقليل الاعتماد على الواردات النفطية عامةً.

يمثل قرار ترمب فرض رسوم جمركية إضافية على الهند خطوة جريئة تعكس التوترات الاقتصادية والجيوسياسية المعقدة في العالم اليوم. بينما تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز العقوبات على روسيا وتقليص نفوذها الاقتصادي، تواجه الهند تحديًا في الحفاظ على استقلاليتها الإستراتيجية، وتلبية احتياجاتها الطاقوية. ردود الفعل الهندية، التي تمزج بين التحدي والدبلوماسية، تشير إلى أن نيودلهي تسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين مصالحها الوطنية والضغوط الدولية. في النهاية، يعتمد نجاح هذه السياسات على قدرة الطرفين على التفاوض والتوصل إلى حلول وسط تحافظ على الشراكة الإستراتيجية بينهما، مع مراعاة التحديات الاقتصادية والجيوسياسية الأوسع.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع