جغرافيا

رحلة إلى ضفاف الفولغا


  • 3 أغسطس 2024

شارك الموضوع

خلال عامي 2014 و2016 قمت بعدة رحلات إلى نهر الفولغا، الذي يسمى- لأهميته الحضارية- “نيل روسيا”. وفيما يلي أشهر المحطات التي زرتها على ضفاف هذا النهر العظيم.

1- قازان

قازان- أو كازان- هي أشهر مدينة في حوض نهر الفولغا، وهي عاصمة جمهورية تترستان الروسية. اسم المدينة محير جدًّا، لكن ما يساعدنا على فهم أصل  هذا الاسم ذلك النصب التذكاري الموجود في مدخل المدينة، الذي توضحه صورة الوعاء الضخم المعروض في الصورة التالية.

يعرف هذا الوعاء الضخم باسم “قازان”، ويذكرنا بكلمة عرفها الريف المصري والأحياء الشعبية في المدن، وهي كلمة “آزان”، وتعني: “وعاء كبير للطعام يأكل فيه الناس جماعة”. قد يكون هذا الوعاء إناء كبيرًا تمتد إليه الأيدي مباشرة للأكل، أو قدرًا للطهي، أو الاثنين معًا.

مدينة “قازان” هي عاصمة جمهورية “تترستان” الإسلامية. والتتر أحفاد جماعات بشرية من المغول والتورك الذين استوطنوا نهر الفولغا، وأسسوا مملكة عرفت باسم “بولغار”. في مطلع القرن العاشر الميلادي، ومن خلال صلات دبلوماسية مع الخليفة العباسي المقتدر بالله، وبسفارة يتزعمها الجغرافي والرحالة أحمد بن فضلان (922 م)، اعتنقت مملكة بولغار الإسلام؛ تمييزًا لها عن ديانة الروس الوثنية، وديانة الخزر اليهودية الممتدة بين بحر قزوين والبحر الأسود.

هذا الوعاء أو القدر الضخم الذي يظهر في الصورة، ويتخذ معلمًا للمدينة، ورمزًا حضاريًّا وتاريخيًّا لشعبها يسمى في اللغة التترية “قازان”، أو “كازان”، أي إن المدينة الجميلة التي تخلب العقول اليوم في وسط روسيا يعني اسمها “قدر الطعام”، وفي ذلك دلالة على أن الأعراف والتقاليد البدوية في سهوب آسيا وجبالها (التي جاء منها التتر) ألزمت العشائر أن تُقسم على العهد فيما بينها على الطعام المشترك.

على الأرجح، احتفظت مصر ببعض كلمات توركية من المماليك الذين جاءوا إليها من آسيا عبر العصور.

في المجتمعات التي لا تزال تحتفظ بالتقاليد، فإن الناس إذا وصفوا بعضهم بعضًا بأنهم إخوة- سواء كانت أخوتهم في الدين، أو رفقة السلاح والكفاح- فإنهم لا يفعلون ذلك إلا بعد تحقق شرط أساسي؛ هو الاشتراك في طقس جماعي مهم، هو مشاركة الطعام في “آزان” واحد، والقسم على أمانته.

2- في قازان مسجد وكنيسة وجامعة

“قول شريف” هو الاسم الذي يحمله هذا المسجد؛ تخليدًا لاسم عالم الفلك والأديب التتري الذي قتل هو وطلابه دفاعًا عن مدينة قازان أمام الجيوش الروسية التي اجتاحت المدينة في مطلع القرن السادس عشر بقيادة إيفان الرهيب. التحفة المعمارية التي يمثلها المسجد في صورته الحديثة شيدت عام 1996 بحجر جيري متبللر (مرمري) من جبال الأورال، واتخذت فيه أبعاد فنية بيزنطية وقوطية وإسلامية، ويمكنه أن يسع أكثر من 6000 فرد؛ ومن ثم فهو يعد أحد أكبر مساجد أوروبا (خارج تركيا).

غير بعيد عن مسجد “قول شريف” تقع كنيسة جميلة داخل حدود قلعة قازان التاريخية، وقد وقفت أمام هذا المعمار المسيحي الأصيل وحولي تسود أجواء من التعايش الإسلامي المسيحي الذي تعيشه جمهورية تترستان.

ومنذ بداية تسعينيات القرن العشرين تشهد تترستان وكثير من المناطق الروسية زواجًا دينيًّا هادئًا، وتسامحًا بين الأطراف كافة. والمؤكد هنا في أرض التتر والبلغار يبرز السعي العاقل الناضج للحفاظ على الهوية الثقافية والقومية.

لا تكتمل زيارة قازان من دون زيارة الجامعة الإسلامية  التي تأسست عام 1998؛ استجابة من الحكومة الروسية لمطالب المسلمين في تترستان بإتاحة الفرصة لتعليم ديني مستنير، وما زالت تقوي بنيتها الأساسية، وتسعى جاهدة إلى التعاون مع الأزهر الشريف في مصر، وبعض المؤسسات الإسلامية في دول الخليج العربي.

3- من ستالين غراد إلى فولغوغراد

من المفارقات المدهشة في تغيير أسماء المدن أن أشهر معركة في الحرب العالمية الثانية جرت في ستالينغراد، حين شن الجيش النازي هجومه المفاجئ من جهة الجنوب، شمال البحر الأسود وبحر قزوين لتطويق روسيا، وإنزال هزيمة بها خلال انشغالها بتركيز القوات على جبهة شرق أوروبا، ومحور موسكو- كييف- برلين.

يضرب كل الناس المثل باسم هذه المدينة، ولكنك إذا فتحت أي أطلس حديث، رقميًّا كان أو ورقيًّا، ستجد اسم المدينة قد مُحِيَ تماما !

وإذا كنت ستبحث عن المدينة بطريقة آلية على خرائط غوغل، فلن يعطيك البحث هذه المدينة؛ بل سيدهشك أنه سيذهب بك إلى مدينة أخرى اسمها “فولغوغراد”.

يتألف الاسم المندثر من مقطعين: “ستالين”؛ اسم زعيم الاتحاد السوفيتي زمن الحرب العالمية الثانية، والمقطع الثاني “غراد”، وهو تنويع على الكلمة الروسية “غورود”، وتعني مدينة، أي إن المدينة المندثرة كانت تحمل اسم “مدينة ستالين”؛ عزفًا على اسم المدينة الشهيرة “لينين غراد”.

إذا زرت روسيا اليوم، أو فتحت أطلسًا رقميًّا، لن تجد “ستالين غراد”، ولا “لينين غراد”.

لقد كفر بهما الشعب الحديث، وأعاد إلى لينينغراد سابق اسمها، وهو “سانت بطرسبورغ”، وبطرس هنا أمره مختلط؛ فهناك من يرى أنه بطرس الرسول، وهناك من يرى أنه بطرس الأكبر، الذي أسس هذه المدينة قبل 300 سنة، وأعطى المدينة هذا الاسم تخليدًا لنفسه.

وبعد أن نسب الشيوعيون المدينة إلى لينين، لتصبح “لينينغراد”، تخلص الجيل الجديد في العقود الثلاثة الأخيرة من أنبياء الشيوعية، واستردوا اسمها السابق “سانت بطرسبورغ.”

أما المدينة التي نتحدث عنها “ستالينغراد”، فقد تغير اسمها إلى “فولغوغراد.”

الـ “فولغا” اسم أحد أهم أنهار العالم، يصب في بحر قزوين قادمًا من الشمال إلى الجنوب عكس نهر النيل، وقد وصلت السفارات العربية والإسلامية إلى سكان هذا النهر (البلغار) قبل نشأة دولة روسيا نفسها بعدة قرون، في فترة بين القرنين الثامن والتاسع الميلاديين.

ولكي نتذكر أهمية الفولغا، فعلنا أن نعود إلى عهد الصداقة المصرية السوفيتية في زمن عبد الناصر، حيث كان الزعماء السوفيت يبادلون مصر نخب الصداقة قائلين: “عاشت صداقة الفولغا والنيل”.

الفولغا هو “نيل” روسيا. وأهم مدن الاستقرار الروسي على هذا النهر هي: موسكو، وقازان، فولغوغراد، وأستراخان، والمدينة الأخيرة تقع عند مصب نهر الفولغا في بحر قزوين.

رغم اهتمام الروس بنهر الفولغا فإنهم لم يتمكنوا من ضم هذا الإقليم إلى سيادتهم السياسية على نحو كامل إلا منذ مطلع القرن السادس عشر، وذلك حينما بدأت روسيا ترث بالتدريج الإمبراطورية المغولية- التترية.

كان اسم المدينة منذ نشأتها عام 1589، ولمدة ثلاثة قرون حتى قيام الشيوعية، ينسب إلى القيصرية الروسية، إذ كانت تحمل اسم مدينة القيصر، أو “تساريتسن  Цари́цын”  قبل أن يمنحها الشيوعيون عام 1925 اسم زعيم الاتحاد السوفيتي ستالين، فأصبح اسمها “ستالينغراد”.

وقد حفر هذا الاسم في تاريخ الإنسانية بحكم المعارك الدامية التي دارت في الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) بسبب الغزو النازي لأراضي الاتحاد السوفيتي، والتحمت القوتان في المدينة، وكانت ملحمة بطولية تمكن فيها الجيش السوفيتي من صد الهجوم النازي بخسائر فادحة، وبشرف مرموق، وقد شيد لاحقًا تمجيدًا لهذا النصر النصب التذكاري الذي يجسد الوطن الأم وهي تنادي على الجهاد.

بعد موت ستالين قاد نيكيتا خورشوف حركة تصحيحية للقمع البوليسي والاضطهاد الداخلي، واستهل حملة لمحو آثار ستالين، حتى تقرر في عام 1961 حذف اسم ستالين، وإعادة تسمية المدينة. لم يكن ممكنًا استعادة اسم القيصرية القديم، ولكنها نسبت إلى العلم الجغرافي الأصلي، فأصبحت تعرف باسم فولغوغراد، أي مدينة نهر الفولغا: نيل روسيا !

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع