على مدار عامي 2014 و2016، قمت بزيارات متنوعة إلى إقليم القوقاز، وهو أكثر الأقاليم الجيوسياسية أهمية في روسيا، وواحد من أكثرها ثراء، ويعد نطاقًا فاصلًا بين آسيا العربية وفارس وتركيا من ناحية، وروسيا الأوروبية من ناحية ثانية. وفيما يلي بعض ذكريات تلك الزيارات.
1- دربند
زرت جمهورية داغستان الإسلامية، والاسم يعني “أرض الجبال”؛ ذلك لأن الأصل الفارسي للاسم مؤلف من مقطعين “داغ” بمعنى جبل، و”ستان” بمعنى بلاد. ولكن من حيث التركيب العرقي يصح أن تسمى داغستان “بلد الأعراق”؛ إذ تضم أكثر من 40 مجموعة عرقية يعيشون في سلام وتواد.
أما أشهر موقع أثري في داغستان فهو قلعة “دربند”.
“دربند” كلمة فارسية تعني “البوابة الحصينة”، أو “باب الأبواب”، وقد شيدت القلعة الحصينة قبل ألفي عام، واتخذها الفاتحون العرب نقطة عبور وانطلاق لنشر الإسلام والحضارة العربية في القوقاز، ومنها انتشر الإسلام إلى أجزاء كبيرة في كل من أوربا وآسيا.
تضم المدينة مشاهد عمرانية بالغة الثراء على المستوى الطبيعي والبيئي (تراجع البحر وانحساره عن القلعة)، والسجون التي تضمها القلعة في طوابق متتابعة، والحمامات التركية، والمساجد والمقابر، والمخافر والأبراج.
تضم “دربند” أقدم مسجد شيد في قارة أوروبا، في القرن الثامن الميلادي، أي بعد أقل من قرن واحد من ظهور رسالة الإسلام. ومن “دربند” التي أسماها العرب “باب الأبواب” انتشر الإسلام إلى القوقاز.
هذا المسجد أقرب أن يكون “كعبة القوقاز”؛ فعبر القرون كان كل من لم يستطع أن يحج إلى بيت الله الحرام من أبناء القوقاز وبحر قزوين (لمشقة السفر، وضيق ذات اليد) كان يأتي إلى هذا المسجد لاستحضار سيرة الصحابة الأربعين الذين استشهدوا في سبيل فتح هذه المنطقة، ويقع بقيعهم غير بعيد عن المسجد.
2- رسول حمزاتوف
حين اتجهنا في شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2014 لزيارة متحف المكتبة الوطنية في داغستان في جنوب روسيا، على مرمى حجر من بحر قزوين، مررنا في وسط المدينة العاصمة “محج قلعة” أمام تمثال لرجل سبعيني العمر في طلة سوفيتية. على القاعدة الرخامية لتمثاله الوقور، وبحروف ذهبية، دوّن باللغة الروسية اسم الشاعر الداغستاني الكبير “رسول حمزاتوف”.
في المكتبة الوطنية، وقفنا طويلًا أمام قسم المخطوطات التي تركها رسول حمزاتوف بنفسه، وبعض الكتب التي جمعها في مسيرة حياته.
كانت المكتبة عامرة بإرث بعض الكتب العربية، ونسخ عريقة من القرآن الكريم، وعدد من المخطوطات العربية التي لا نعرف عنها شيئًا في عالمنا العربي.
استمعنا إلى شرح وافٍ قال فيه رئيس قسم العلاقات الدولية في الجامعة إن الأبجدية العربية ظلت حاضرة حتى مطلع القرن العشرين، ولم تتعرض للانزياح كلغة النخبة المثقفة والعلماء والفقهاء ولغة التواصل الحضاري إلا بعد استبدال الأبجدية الروسية بها منذ انتهاء الحروب التوسعية الروسية في إقليم القوقاز في نهاية القرن التاسع عشر.
بالإضافة إلى مؤلفاته وأشعاره، تتناثر مقولات رسول حمزاتوف في كل اللغات، ومن بينها اللغة العربية. من منا، ممن تجاوز الخمسين وشارف الستين، لا يكرر المقولة الخالدة لحمزاتوف:
“يحتاج المرء إلى عامين كي يتعلم الكلام، لكنه يحتاج إلى ستين عامًا كي يتعلم الصمت”!
في القطوف التالية استملحت بعضًا من مقولاته من عدة مصادر:
نعم: يفعل ذلك مرتين: مرة حين يشرب من عين الماء، ومرة حين يقطف زهرة !
3-من داغستان إلى الشيشان
كان أول هدف لي في زيارة العاصمة الشيشانية غروزني هو مسجدها الجديد الذي يعد أكبر مسجد في قارة أوربا. المسجد يعد قبلة كل الذين يزورون القوقاز. جمع المصممون كل الفنون المعمارية عبر جميع العصور ليزدان بها المسجد من الخارج والداخل.
على جانبي المحراب مشكاتان، المشكاة الواقعة على اليمين كتب عليها “هنا ترقد شعرة من رأس الرسول”، وعلى المشكاة الثانية كتب “هنا ترقد شعرة من لحية الرسول”.
طفنا عدة مدن في الشيشان، مثل غروزني، وغوديرمس، وأرغون، وغيرها من البلدات التي كانت قبل عقد من الزمن “مدن أشباح” من جرّاء الحربين الشيشانيتين الأولى والثانية، وصارت خرائب سُويت بالأرض، وأشعلت فيها النيران، لكن ها هي تحاول الميلاد من جديد.
4- قلعة آزوف على البحر الأسود
زرت في الفترة نفسها قلعة آزوف، وهي شاهدة على صراع بين روسيا وتركيا. هذه القلعة التاريخية كانت محط صراع بين الروس والأتراك للسيطرة على المنطقة خلال القرن الثامن عشر. تقع القلعة على الطرف الجنوبي الغربي لدلتا نهر الدون، وتقف شاهدة على تاريخ مهم من الجغرافية السياسية لأوراسيا.
طُوِّرَ الأثر التاريخي وأُعيد تصميم المقتنيات التي فقدت من القلعة (مثل الأسلحة المستخدمة، والطوابي الخشبية، فضلًا عن ترميم الأسوار) ليصبح المكان متنزهًا قوميًّا للزائرين من طلاب المدارس والجامعات وسكان الإقليم، وبحكم تزايد الأهمية التجارية للمنطقة طُوِّرَ المكان ليضم ميناءً حديثا يربط بين الأراضي الداخلية في الجنوب الروسي والمياه الدافئة في البحر الأسود، ومن وراء ذلك البحر تقف تركيا التي لا يمكن إلا أن تكون دومًا المنافس/ الشريك بحكم المصالح المتقاطعة والمتكاملة في الماضي والمستقبل.
في خضم تلك الزيارة لقلعة آزوف في جنوب غرب روسيا، تذكرت على الفور طوابي ساحل إدكو على البحر المتوسط، غرب مدينة رشيد. هذه الطوابي ارتبطت بتاريخ دفاع المماليك- منذ القرن الخامس عشر- عن سواحل مصر ضد الحملات الاستعمارية التي بلغت ذروتها بوصول جيش نابليون إلى مصر.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.