في الاتحاد الروسي، القائم على أنقاض الاتحاد السوفيتي، تطور مفهوم “الأديان التقليدية”، هذا المفهوم الذي يُقصَدُ به تلك الأديان التي تتدين بها وتتوارثها الشعوب التي تعيش في الأراضي التي كانت تسمى من قبل بالإمبراطورية الروسية، ثم أصبحت الاتحاد السوفيتي، وبعد انهياره- الاتحاد الروسي. معظم هذه الأديان هي الأديان الإبراهيمية (اليهودية، والمسيحية، والإسلام). إذا تحدثنا عن تاريخ وصول التوحيد إلى أراضي روسيا الحالية، فإن أول تجربة من هذا القبيل كانت في دولة خانات الخزر، عندما تم الاعتراف باليهودية دينًا رسميًّا، وخانات الخزر هي دولة تركية بسطت نفوذها على الأراضي الممتدة من البحر الأسود حتى بحر قزوين بمحاذاة نهر الفولغا شمالًا وجبال القوقاز جنوبًا. كان ذلك في منتصف القرن الثامن الميلادي. استمرت عملية تحول النخبة الخازارية إلى اليهودية تدريجيًّا حتى بداية القرن التاسع الميلادي.
الدين التوحيدي التالي الذي ظهر على هذه الأراضي كان الإسلام؛ ففي عام 922، اعتنقت مملكة فولغا بلغاريا الإسلام، واعتبرته دينًا رسميًّا لها. وبعد فترة قصيرة. تحديدًا في عام 988، اعتنق الملك فلاديمير الأول، المسيحية، وتم تعميد سكان مملكة كييف الروسية.
وهكذا، تاريخيًّا، بدأ التوحيد في شكل الأديان الإبراهيمية بتشكيل الخريطة الأيديولوجية لأراضي روسيا المستقبلية في وقت مبكر جدًّا. ومع أن الدين اليهودي لم يَسُد، فإنه كان ذا تأثير معين. هناك خرافة منتشرة مفادها أنه من المستحيل أن يتحول الشخص إلى اليهودية، فاليهودي يولد فقط يهوديًّا. الأمر ليس كذلك، فمكانة إبراهيم، والنظرة التي يَنظُرُ إليه بها أتباع الدين اليهودي، تدحض هذه الخرافة.
لا يمتلك إبراهيم في الدين اليهودي مكانة نبي فحسب؛ بل مكانة أحد الأجداد، الآباء الأوائل للشعب اليهودي، إلى جانب إسحاق ويعقوب، فهو أول شخص على وجه الأرض، تُسَمِّيهِ التوراة “عبري”- يهودي (بريشيت 13:14)، أي “عابر” إلى الجانب الآخر، من الوثنية إلى التوحيد (بيركي دي ربي إليعازر، Pirkei d-Rabbi Eliezer). وضع إبراهيم نفسه ضد كل البشرية المعاصرة له، التي كانت تعبد قوى مختلفة في هذا العالم وتؤلّهها. تتمثل مكانة إبراهيم المميزة في فهم حقيقة الله باعتباره المصدر الوحيد لكل شيء في العالم. تعد كُنية “عبري” أيضًا اسمًا عامًّا- أي من نسل إيفر “عابر”.
الصفة الأساسية للشخصية المتأصلة في إبراهيم، التي هي صفته الرئيسة، من وجهة نظر الدين اليهودي، هي الرحمة، والرغبة في مساعدة الجار. هذه هي الصفة التي لا يعتبرها الدين اليهودي مجرد صفة مصاحبة؛ ولكنه يعتبرها صفةً لا غنًى عنها في الشخص الموحد والمنتمي إلى إبراهيم.
من وجهة نظر التوراة، يرث نسل إبراهيم الصفة الرئيسة له- الرحمة والرأفة بالجار. ومن مظاهر هذه الصفة الرغبة في نشر الإيمان بالله الواحد في جميع أنحاء العالم، ولجميع سكان الأرض. يشير مفسرو التوراة، وبخاصة راشي (شلومو يتسحاقي)، إلى أن الابتكار كان مهمًّا لإبراهيم، ليس فقط لينتقل إلى التوحيد بنفسه، ولكن أيضًا لجذب الآخرين إلى ذلك، وهذا كان ابتكاره في تلك الحقبة.
ولهذا السبب، إذا اعتنق شخصٌ ما من أمة أخرى الديانة اليهودية، وأصبح بذلك جزءًا من الشعب اليهودي، فإنه يُدعى ابن إبراهيم ، الأب الأول لليهود. ومع أن بني إسرائيل ينحدرون من يعقوب (إسرائيل هو اسمه الثاني الذي أعطاه الله له)، فإن هذا الشخص يعد في وضع التبني من جانب إبراهيم وزوجته سارة؛ ومن ثم، من وجهة نظر الدين اليهودي، من الممكن أن تكون سليل إبراهيم من ناحيتين: إما أن تنتمي سُلاليًّا إلى أسرة إبراهيم، وإما أن تصبح أحد أحفاده من خلال إجراء مكافئ لإجراء التبني، الذي يمثل- في الواقع- التحول إلى الدين اليهودي، وقبول جميع وصايا التوراة، والانضمام إلى الشعب اليهودي.
وهكذا، فإن مفهوم “العائلة الإبراهيمية” يُفهَم من جانبين: سُلالي وديني. لا يمكن للمرء أن يكون سليلًا جسديًّا لإبراهيم فحسب؛ بل يمكن أيضًا أن يصبح ابنه دينيًّا من خلال التحول (Giyur)، أي اعتناق الدين اليهودي.
تروي التوراة بالتفصيل تسلسل نسب الجنس البشري والشعب اليهودي من آدم إلى موسى، وتروي كيف أن البركة التي أُعطيت لإبراهيم انتقلت إلى نسله. وفقًا للتوراة، عمل إبراهيم، المتمثل في نشر دينه، استمر من خلال الابن المولود بأعجوبة إسحاق، ثم انتقل هذا الموروث إلى ابن إسحاق، يعقوب (إسرائيل).
من المعروف أن إبراهيم معترفٌ به قديسًا ونبيًّا ليس فقط بين اليهود، ولكن أيضًا بين ممثلي “الديانات الإبراهيمية”- المسيحية والإسلام. ينظر أتباع هذه الديانات إلى شخصية إبراهيم بوصفه رمزًا موحدًا يجسد فكرة تقديس الإله الواحد. كان هذا الأمر عاملًا أسهم في إظهار الإنسانية والمساعدة المتبادلة خلال سنوات الاضطهاد بسبب الإيمان بالله، والملاحقة الشديدة للقادة الدينيين والمؤمنين خلال حقبة الاتحاد السوفيتي.
أبرز مثال على ذلك هو تاريخ العلاقات بين اليهود والمسلمين خلال القمع الستاليني؛ ففي الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما أصبحت الملاحقة وحشيةً جدًّا، كانت جمهوريات آسيا الوسطى، وجزء من القوقاز (وهي مناطق ذات أغلبية مسلمة) ملاذًا آمنًا للمتدينين اليهود، وبالتحديد في طشقند، وسمرقند، ودوشنبه، حيث تمكن اليهود من تنظيم مدارس غير رسمية للأطفال، ومدارس دينية (يشيفا) يعلمون الناس فيها كيفية العيش وفقًا للتوراة. وكذلك إلى حد ما، أصبحت مدينة قازان، التي كانت آنذاك المدينة الرئيسة لجمهورية تتارستان الاشتراكية السوفيتية، مركزًا مثيلًا تمارس فيه الحياة اليهودية في الخفاء في ظل الحكم السوفيتي. ومع أن أيديولوجية الإلحاد سادت في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي، فإن النشطاء اليهود، ومن يعملون في الخفاء، وجدوا متسعًا لممارسة شعائرهم الدينية في الجمهوريات الإسلامية التقليدية، كما جاء في كتاب الحاخام إسحاق زيلبر “أن تبقى يهوديًا”، الصادر بالإنجليزية، بعنوان (To Remain a Jew: The Life of Rav Yitzchak Zilber).
ظهر العامل الديني ظهورًا غريبًا إلى حد ما خلال الحرب العالمية الثانية، في أثناء الهولوكوست (المحرقة اليهودية)، عندما كان مجرد الانتماء إلى الشعب اليهودي في الأراضي التي احتلها النازيون يعني عقوبة الإعدام، بغض النظر عن العمر والجنس. نظرًا إلى أن وصول الألمان إلى أي أرض غالبًا ما كان يعني إلغاء القيود السوفيتية، ومنها تلك القيود المتعلقة بحرية الضمير، رحب بعض القادة بالنازيين، واستخدموا الدين للتحريض على الكراهية. لكن كان هناك أيضًا زعماء دينيون لم يخشوا التحدث علانيةً ضد النازيين، وقوانينهم اللاإنسانية.
لا يسع المرء إلا أن يلاحظ الإنجاز الذي قام به قساوسة مسيحيون، مثل القس الكاثوليكي برونيوس بوكستيس من مدينة كوفنو الليتوانية، والكاهن الأرثوذكسي ألكسندر جلاغوليف من كييف. ومن الجدير بالذكر أن الأخير لم يُخفِ اليهودَ المضطهدين في أثناء الاحتلال النازي فحسب؛ بل دافع بحزم قبل ذلك، في 1911-1913، عن اليهودي مندل بيليس، المتهم زورًا بإقامة طقوس القتل. كما نفذّ رجال الدين الروس من خارج الاتحاد السوفيتي أعمال إنقاذ لليهود المعرضين للخطر، على سبيل المثال، الراهبة ماريا سكوبتسوفا، والقس ديميتري كليبينن.
قاتَل اليهود وممثلو الشعوب الإسلامية معًا على جبهات الحرب الوطنية العظمى. يتذكر الجميع بطولة الشاعر التتري والشخصية العامة موسى جليل.
تعرضت شعوب بكاملها عاشت في الاتحاد السوفيتي للترحيل، ومن بينها مجموعات عرقية كاملة تنتمي تاريخيًّا إلى الثقافة الإسلامية (الشيشان، والإنغوش، وتتار القرم). كان النظام الستاليني يُعِدُّ اليهود للمصير نفسه (وربما أكثر فظاعة). لم يتحقق هذا السيناريو بسبب وفاة ستالين عام 1953.
في روسيا الحديثة، ودول الاتحاد السوفيتي السابق، أصبح التعاون بين الأديان المختلفة هو الشيء الطبيعي. فهناك تعاون نشط في إطار مجلس روسيا للتعاون بين الأديان، من خلال لجنة تنسيق العلاقات بين الأعراق والأديان، تحت إشراف الرئيس الروسي.
زعماء الطوائف المختلفة على اتصال دائم بعضهم مع بعض، ويتشاركون مواقفهم مع زملائهم باستمرار.
هناك أيضًا تعاون في المجال العلمي. على وجه الخصوص، في روسيا، تُفتَح بعض التخصصات، مثل العلوم الإلهية (اللاهوتية) وتُطوَّر تطورًا كبيرًا. كما توجد جمعية لاهوتية علمية تعليمية (NOTA)، يتعاون فيها ممثلو الطوائف الرئيسة في روسيا. على وجه الخصوص، تُدرَّس العلوم اللاهوتية اليهودية في ثلاث جامعات روسية مرموقة، هي: “الجامعة الروسية الحكومية للعلوم الإنسانية، وجامعة سانت بطرسبورغ الحكومية، والجامعة العبرية”. في الوقت نفسه، غالبًا ما يعرب ممثلو جميع الطوائف عن موقف إجماعي بشأن كثير من القضايا المتعلقة بالتعليم، والأنشطة الجامعية.
وعلى وجه الخصوص، وصلت العلاقة بين المجتمعين اليهودي والمسلم إلى مستوى متقدم، فقد أصبحت إقامة مائدة إفطار سنوية خلال شهر رمضان للمسلمين الروس في المجتمعات اليهودية عادة جيدة.
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، زارت مجموعة من طلاب المعهد الإسلامي في موسكو المتحف اليهودي، ومركز التسامح، خلال رحلة استكشافية بتكليف من نائب رئيس المعهد للشؤون الأكاديمية والتعليمية، رئيس إسماعيلوف.
أحد المشاركين في الرحلة كان اسمه سيد محمد أبو بكروف، وهو طالب في السنة الرابعة بالمعهد، تحدث لاحقًا عن انطباعاته على موقع الإدارة الدينية لمسلمي الاتحاد الروسي، فقال: “عندما أُبلغنا بأنه مباشرةً بعد امتحان مادة (تاريخ الأديان) عن موضوع (اليهودية)، سنزور المتحف اليهودي، وافق الجميع؛ لأنه ستتاح لنا الفرصة لنرى بأعيننا، ونعرف- بشكل أعمق- ثقافة أحد الأديان التوحيدية القديمة”.
وفقًا لما قاله الطالب سيد أبو بكروف، فقد تأثر بمدى استخدام التكنولوجيا المتقدمة لنقل أحداث التاريخ القديم. شاهد طلاب المعهد الإسلامي فيلمًا رباعي الأبعاد مدته عشر دقائق، أتيحت لهم الفرصة من خلاله للشعور بتلك الأحداث التي وُصفت في التوراة بالطوفان العظيم، والآيات التي حلت بمصر في زمن النبي موسى، وانشقاق البحر الأحمر، وغيرها. كما كان الشباب مهتمين باللهجات العبرية المختلفة، وسألوا بالتفصيل عن الأعياد، والواجبات الدينية، وأبدوا اهتمامًا كبيرًا بمعرفة تركيبة “الكنيس”. كل هذا وأكثر استطاعوا أن يروه ويتعلموه- بوضوح- في المتحف اليهودي. كما استطاعوا توسيع معلوماتهم عن الهولوكوست.
وفقًا لرأي المشاركين في الرحلة، فإن هذه الفعاليات مفيدة جدًّا؛ لأنها تساعد ممثلي المجتمعات المختلفة من التقرب بعضهم من بعض كمواطنين في وطن واحد مشترك.
تعد تجربة التفاعل بين اليهود والمسلمين والمسيحيين في روسيا مهمة جدًّا، ومفيدة لبقية المناطق الأخرى في هذا العالم. والجدير بالذكر أن النزاعات العرقية والدينية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، مع أنها تؤثر في العلاقات بين الجماعات الدينية داخل روسيا، ليست بالحرجة. حتى لو اختلف الروس من أتباع الأديان المختلفة في تقييمهم للصراع، فإن هذا الاختلاف لا يؤدي إلى حدوث اشتباكات وأعمال عنف.
نظرة الزعماء الدينيين من “العائلة الإبراهيمية” إلى الصراعات بين المسلمين واليهود والمسيحيين في الشرق الأوسط، وتمكنهم من تجاوز تأثير تلك الصراعات في العلاقات بين أتباع هذه الأديان في روسيا
في البداية، يُعزَّز السلام بين الأديان من خلال تقديم صورة موضوعية لما يحدث (ومن ذلك ما يحدث في الشرق الأوسط) خالية من الخرافات والأحكام المسبقة. على سبيل المثال، يكرر الكثيرون الخرافات القائلة إن اليهود يعاملون المسلمين معاملة سيئة. من السهل أن نرى أن الأمر ليس كذلك؛ من خلال العلاقات الجيدة بين اليهود والمسلمين في الكثير من البلدان..
إن إبرام الاتفاقيات “الإبراهيمية”- إقامة علاقات دبلوماسية بين دولة إسرائيل وعدد من الدول العربية، كالإمارات العربية المتحدة، والبحرين، والسودان- يُنظر إليه في البيئة اليهودية نظرة إيجابية لا لبس فيها، وقد أثار اهتمام السكان اليهود، وخاصة الشباب منهم، لزيارة الدول العربية، بعدما كان كثيرون يخشون السفر إلى الدول العربية، مُشيرين إلى توتّر العلاقات معها.
في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، سافرت مجموعة قوامها أكثر من 600 طالب يهودي من روسيا إلى دبي. خلال هذه الرحلة، أقيم هناك حفل زفاف يهودي وفقًا لأحكام التوراة. أشرف على إقامة حفل الزفاف الحاخام الأكبر لروسيا بيرل لازار.
كما أن مقر إقامة زعيم يهود روسيا غالبًا ما يزوره مختلف قادة الدول العربية، كما أنه كان يُزَارُ قبل تطبيع علاقات عدد من الدول العربية مع إسرائيل. عُقِدَت هذه اللقاءات على الدوام في جوٍ مفعم بالصداقة، والتفاهم المتبادل.
في الختام، نلاحظ أن العلاقة بين الطوائف في روسيا تتطور سلميًّا. يعود الفضل الكبير في ذلك إلى موقف الدولة المهتمة بالسلام بين الأديان، والحد من الخلافات. مزيد من الحوار بين الأديان (ليس فقط بين ممثلي الأديان الإبراهيمية) يفتح آفاقًا كبيرة، فهناك مشروعات تعاون في المجالات التربوية، والثقافية، والتجارية، وينبغي حصر الخلافات والصراعات في إطارها السياسي لا الديني؛ لأن ما يحدث في الشرق الأوسط ليس صراعًا بين اليهودية والإسلام، وهكذا نراه نحن يهود روسيا.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.