تقاريرمختارات أوراسية

رؤية صينية.. دوافع السياسة الفرنسية إلى التدخل في فوضى الشرق الأوسط


  • 31 أكتوبر 2023

شارك الموضوع

لقد أحدث العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة كارثة إنسانية، وأزمة جيوسياسية في الشرق الأوسط. ومع أن الدول الكبرى في أوروبا أعربت عن دعمها لإسرائيل دعمًا مُطلقًا، فإن نظرة فاحصة تظهر أن هُناك تباينات في التصريحات الدبلوماسية الموجهة إلى الداخل والخارج. ومع استمرار حدة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي واتساعه، كان الموقف الفرنسي جديرًا بالاهتمام، لا سيما أن سياساتها في الشرق الأوسط تُلقي بظلالها على الأمن الداخلي والقضايا العرقية؛ لذا انخرطت باريس بمشاركة رفيعة المستوى بدأت بجولة مُتعددة الأطراف للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، شملت إسرائيل، والضفة الغربية، ومصر، والدعوة إلى هدنة إنسانية وتحالف عسكري ضد حركة حماس الفلسطينية.

تتمتع فرنسا بعلاقات تاريخية واقتصادية عميقة مع الشرق الأوسط. خلال الحقبة الاستعمارية الإمبراطورية في القرن التاسع عشر، كانت سوريا ولبنان منطقة نفوذ فرنسي. بعد الحرب العالمية الأولى، حصلت باريس على انتداب على هذه الأراضي وفقًا لاتفاقية سايكس بيكو، وسيطرت على التنمية الاقتصادية، والترتيبات المؤسسية لهما، كما حافظت على نفوذ اقتصادي في قناة السويس المصرية حتى عام 1956؛ لحظة تأميم مصر القناة. وبعد وقوع انفجار كبير في مرفأ بيروت بلبنان، في أغسطس 2020، وصل الرئيس الفرنسي ماكرون إلى مكان الحادث على الفور؛ رغبةً مِنه في إظهار مكانة فرنسا التاريخية، وتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط.

وعلى النقيض من الولايات المتحدة، التي تتدخل في شؤون الشرق الأوسط باسم مكافحة الإرهاب، تحاول فرنسا تحقيق سياسة متوازنة في المنطقة، تضمن الحفاظ على علاقات جيدة مع إسرائيل، وفي الوقت نفسه تحافظ على علاقات جيدة مع العالم العربي. في 12 أكتوبر (تشرين الأول)، ألقى ماكرون خطابا متلفزًا في باريس لدعم إسرائيل، ولم ينس تأكيد ضرورة منع الصراع من الانتشار إلى الدول المجاورة، وخاصة لبنان، وتنسيق العمليات الإنسانية الدولية. وفي 15 أكتوبر (تشرين الأول)، وصلت وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا إلى إسرائيل، وقالت إن لتل أبيب الحق في الدفاع عن نفسها، ولكن يجب عليها الالتزام بالقانون الدولي، وضمان سلامة المدنيين في غزة.

وتوجهت بعد ذلك كولونا إلى مصر ولبنان؛ “لتوجيه رسالة إلى دول المنطقة لمحاسبة حركة حماس، وتجنب مزيد من التصعيد”. ويحاول النهج الفرنسي إرسال رسالتين على الأقل؛ أولًا: تصحيح “التضامن غير المشروط” لرئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين مع إسرائيل، وإظهار أن فرنسا تمثل حقًّا الروح العقلانية للاتحاد الأوروبي، والمجتمع الدولي بأسره، ثانيًا: يظهر أن فرنسا ليست مجرد صاحبة مصلحة في المنطقة؛ ولكنها أيضا طرف لا غنى عنه في حل المشكلة.

ولقد اعكست التأثيرات غير المباشرة للحرب الإسرائيلية على الأمن الداخلي في كثير من الدول الأوروبية، وفي 13 أكتوبر (تشرين الأول)، اغتيل مدرس في مدرسة ثانوية شمالي فرنسا، على يد رجل شيشاني ادعى أنه مُنضم “لتنيظم الدولة الإسلامية- داعش”، وأشار- بشكل غامض- إلى هجمات حماس على إسرائيل. وفي الوقت نفسه، تلقت كثير من مناطق الجذب السياحي الشهيرة في باريس (متحف اللوفر، وقصر فرساي، إلخ)، ومراكز النقل المهمة (المطارات، ومحطات القطار، وخطوط مترو الأنفاق، وما إلى ذلك) سلسلة من “التهديدات الهجومية”، ونُفِّذَت حالة الطوارئ التي تضمنت عمليات إخلاء. وتواجه فرنسا في الوقت الحاضر خطر موجة جديدة من الإرهاب. ومن المرجح أن يؤدي الجمع بين عوامل الخطر الداخلية الحالية والصراعات الخارجية إلى زيادة احتمال نشوب صراعات دينية في فرنسا.

كما أن احتمال الكراهية والصراع العرقي يشكل مصدر قلق، حيث يوجد في فرنسا أكبر عدد من اليهود والمسلمين في أوروبا، ويصل عددهم إلى 500 ألف يهودي، وأكثر من 5 ملايين مسلم. وبعد أن أصدرت إسرائيل أمر التعبئة للاحتياط، غادر كثير من المواطنين الفرنسيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية فرنسا للانضمام إلى القتال في إسرائيل. وفي هذا الصدد، اتهم حزب “فرنسا الآبية” اليساري، الحكومة الفرنسية بالوقوف مكتوفة الأيدي، وعدم القيام بأي شيء، وهو ما يعادل المشاركة في “الأعمال غير القانونية للجيش الإسرائيلي”. وفي الوقت نفسه، خرج أنصار فلسطين إلى الشوارع للتظاهر على الرغم من الحظر الحكومي.

ووفقًا لبيانات وزارة الداخلية، منذ 7 أكتوبر(تشرين الأول)، وقعت مئات الأعمال المعادية للسامية، واعتُقِلَ أكثر من 20 شخصًا. ويبدو أن آخر ما يريد ماكرون رؤيته هو أن تؤدي الصراعات الخارجية إلى انقسامات داخلية، ومواجهات عرقية، خاصة أن دورة الألعاب الأولمبية في باريس عام 2024 تلوح في الأفق، وأي عوامل تضر بالأمن الداخلي والاستقرار سيكون لها تأثير سلبي على صورة فرنسا الدولية؛ ولذلك، فإن باريس بحاجة إلى التأكيد- مرارًا وتكرارًا- على أهمية الوحدة الوطنية، مع أخذ زمام المبادرة للسعي إلى تهيئة الظروف الخارجية للاستقرار الداخلي.

ومرة أخرى، يتعلق الأمر بسعي فرنسا إلى الحصول على مكانة القوة العظمى. وقد اتبعت باريس سياسة خارجية نشطة منذ الجمهورية الخامسة. مع أن فرنسا أصبحت غير مستقرة من حيث الوجود العسكري والسياسي في إفريقيا، فإنها لا تزال تسيطر على كمية كبيرة من إمدادات الطاقة والمواد الخام؛ مما يساعد فرنسا على النجاة بسلاسة من أزمة الطاقة الأوروبية التي أثارتها الحرب الروسية الأوكرانية. وأكدت فرنسا هويتها باعتبارها دولة “أورومتوسيطة”، لكنها تولي أهمية كبيرة لـ”منطقة المحيطين الهندي والهادئ” في السنوات الأخيرة، كما أنها ملتزمة بتوسيع نفوذها في تلك المنطقة من خلال تعزيز الشراكات الثنائية مع اليابان، والهند، وأستراليا. ويرتبط كل هذا بسعي فرنسا إلى الحصول على مكانة أعلى في المجتمع الدولي.

لقد أدى الصراع بين روسيا وأوكرانيا إلى تسريع وتيرة استقطاب القوى الكبرى، ويشهد المشهد الدولي تغيرات عميقة. والآن، أدت الحرب في فلسطين إلى جعل الأمر أكثر تعقيدًا، وفرنسا متورطة فيه، وبطبيعة الحال، بغض النظر عن مدى طموح ماكرون، فإن تصرفات ماكرون البارزة في جميع أنحاء العالم يجب أن تستند إلى حل المشكلات الداخلية، وإلا فإن جميع أنواع المشكلات الداخلية، مثل مقاومة الإصلاح، والاستقطاب السياسي، والصراعات العرقية، والأمن الاجتماعي، سوف تصبح مشكلاته الكبرى التي تُهدد الجمهورية.


شارك الموضوع