مقالات المركز

رؤية صينية.. الانقسامات العميقة في العالم الغربي بشأن فلسطين


  • 31 أكتوبر 2023

شارك الموضوع

منذ بداية التصعيد الإسرائيلي في قطاع غزة، كانت هناك اختلافات وتناقضات كبيرة داخل الغرب بشأن الموقف الذي يجب اتخاذه، وكيفية التعامل مع هذا التصعيد. في الاتحاد الأوروبي، خرجت مظاهرات مؤيدة لفلسطين في كثير من الدول الأعضاء، لكن على المستوى الحكومي، وبين أعضاء المفوضية الأوروبية، ورئيس المفوضية الأوروبية فون دير لاين، ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، والممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، لديهم مواقف سياسية متضاربة، ولا يتفق بعضها مع بعض. وقد كتب نحو 800 موظف في المفوضية الأوروبية- بشكل مشترك- إلى فون دير لاين للتعبير عن عدم رضاهم عن محاباتها لإسرائيل.

وفي الولايات المتحدة يحدث وضع مماثل أيضًا، حيث تحدث المظاهرات التي تتخذ مواقف مختلفة، الواحدة تلو الأخرى. وهناك تقارير تفيد بأنه بسبب عدم الرضا عن سياسة إدارة بايدن تجاه إسرائيل، استقال بعض الأشخاص، بل إن التمرد يختمر على جميع المستويات داخل وزارة الخارجية الأمريكية. وهذه ليست المرة الأولى التي تحدث فيها خلافات، أو حتى فوضى، داخل الولايات المتحدة وأوروبا بشأن أحداث كبرى؛ فقد شهدت العقود القليلة الماضية أحداثًا جيوسياسية كبرى، مثل حرب العراق عام 2003، والحرب الليبية عام 2011، واندلاع الأزمة الأوكرانية وتصاعدها عام 2014، وما الجولة الجديدة الأخيرة من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إلا أحدث مثال على التخبط الغربي.

لكن لماذا يحدث هذا التخبط والانقسام؟ أولًا: تتسارع التأثيرات السلبية لفكر الهيمنة الأمريكي في الانتشار، حيث تمتلك الولايات المتحدة أكبر إنفاق عسكري، وأقوى جيش في العالم، وهي أيضًا الدولة الأكثر ميلًا إلى استخدام القوة خارجيًّا. وكان من الممكن استخدام هذا المبلغ الضخم من الإنفاق العسكري من أجل رفاهية الناس، مثل تغيير الوضع السلبي المتمثل في أن متوسط العمر المتوقع في الولايات المتحدة هو في أدنى مرتبة من الدول المتقدمة، بل حتى أسوأ من متوسط العمر المتوقع في الدول ذات الدخل المنخفض. ومن الممكن أيضًا أن تستخدم في التعامل مع تغير المناخ، ومشكلات التنمية العالمية، لكن حكومة الولايات المتحدة اختارت الإيمان بالخرافات بشأن القوة، والهوس بحماية الهيمنة، والانجراف بعنف على الطريق الخطأ.

ثانيًا: أثارت السياسات العسكرية للولايات المتحدة ردود فعل عنيفة متزايدة في الداخل. وبعد اندلاع الجولة الحالية من الحرب، دعمت إدارة بايدن إسرائيل دعمًا كاملًا، وأرسلت مجموعتين قتاليتين من حاملات الطائرات إلى الشرق الأوسط “لدعمها”، وهذا يتعارض مع موقف كثير من الأمريكيين، ومعارضتهم الشديدة لسياسة التدخل العسكري. أما في أوروبا، فإن بعض الدول والسياسيين يخدمون الولايات المتحدة بشكل أعمى، بغض النظر عن الصواب أو الخطأ، حتى إنهم يطلق عليهم “المتحدثون الرسميون الأمريكيون” في بروكسل، وهذا لا يعوق الاتحاد الأوروبي فقط عن تشكيل موقف مشترك بشأن قضايا محددة، مثل القضية الفلسطينية، والاحتلال الإسرائيلي؛ ولكنه يقوض أيضًا البناء الإستراتيجي المستقل لبروكسل، وقد أدى إلى تكثيف الخلافات والانقسامات الشاملة داخل الاتحاد الأوروبي.

ثالثًا: يعاني نظام القيم الغربي من الفوضى. لقد نشرت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، وعززت- منذ فترة طويلة- أنظمة القيم الخاصة بها في جميع أنحاء العالم، مثل “استعادة النظام الديمقراطي”، و”الحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد”، و”تقرير المصير الوطني”، وما إلى ذلك، واستخدمت هذه “القيم” لإجراء سلسلة من التدخلات الخارجية، والنتيجة هي كوارث إنسانية أكبر، ومزيد من الصراعات والحروب. وقد أثار هذا مزيدًا من الانقسامات في المجتمعات الأمريكية والأوروبية، وزاد حدة العداء بين الأشخاص ذوي المواقف المختلفة، وأثار الاشمئزاز واليقظة ضد “المعايير المزدوجة” التي تتبعها الدول الغربية في العالم غير الغربي. وبالنظر إلى القضية الفلسطينية، فإن معظم الدول الأمريكية والأوروبية تقف رسميًّا إلى جانب إسرائيل، لكن عددًا كبيرًا من الناس في المجتمع يعتقدون أن الاحتلال الإسرائيلي يرجع إلى الغرب، وخاصة الولايات المتحدة؛ لذا فإن التواطؤ مع إسرائيل، واللا مبالاة بالقضية الفلسطينية والوضع المأساوي للفلسطينيين الذين خضعوا لاحتلال طويل الأمد للأراضي، ووقعوا في كارثة إنسانية خطيرة، يُشعر الناس في الدول الغربية بارتباك في القيم؛ مما يدفع المجتمعات إلى مزيد من التخبط.

رابعًا: تتزايد الاختلافات بشأن المصالح. وباعتبار الولايات المتحدة “القوة العظمى” الوحيدة، فهي تطلب حتمًا من حلفائها، ومنهم الدول الأوروبية، خدمة مصالحها العالمية. ومع ذلك، فور أن تصبح مطالب الولايات المتحدة غير معقولة، وتضر بالمصالح الرئيسة لأوروبا، فإنها ستؤدي حتمًا إلى تفاقم المشكلات، وإلى زيادة عدم الرضا حتى تصل إلى رد الفعل العنيف. ومع الانحدار النسبي لقوة الولايات المتحدة، أصبح أسلوب جني الفوائد أكثر سرعة، وقد تضاءلت مكاسب أوروبا من هذه العلاقة غير المتكافئة عبر الأطلسي، وتزايدت تضحياتها وخسائرها. إن الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لديها تاريخ، وجغرافيات، وهياكل عرقية مختلفة؛ ما يعني أن الاختلافات والتناقضات هي القاعدة، وكلما نشأت قضايا كبرى كثيرًا ما تصبح الخلافات والتناقضات بارزة، ولهذا السبب أيضًا شهدت كثير من البلدان، ومنها فرنسا وألمانيا، مظاهرات داخلية، بل أزمات، ويستمر عدد الجماعات الإسلامية في كثير من البلدان الأوروبية في التزايد؛ وهو ما يجعل مواقفها من القضية الفلسطينية أكثر “تشابكًا” و”تعقيدًا”.

ويحاول كثير من الرأي العام الغربي التقليل من شأن هذا الانقسام والاضطرابات الداخلية باعتبار هذا “اختلافات طبيعية في الرأي”، ولكن ما يكشفه هذا في الواقع هو نوع من الارتباك الإستراتيجي. لقد خلفت حروب التدخل الأجنبي التي خاضتها الولايات المتحدة في العقود الأخيرة دروسًا وراءها، فهي لم تهدر القوة الوطنية، وتجلب المعاناة للدولة المستهدفة فحسب؛ بل تسببت أيضًا في إحداث صدمة كبيرة للمجتمع الأمريكي نفسه. وقد اعترف الرئيس بايدن نفسه بأن الولايات المتحدة ارتكبت أخطاء بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. لكن من المؤسف أن الولايات المتحدة لم تغير إستراتيجيتها، بل واصلت نشر قواتها في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك في أوروبا، ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، والشرق الأوسط، فالأخطاء تتكرر مرارًا وتكرارًا، ويتكرر “النسيان”، وفي الوقت نفسه تتسع الندوب الاجتماعية، وتتعمق الشقوق؛ مما يضعف تماسك المجتمع الأمريكي واتساقه.

ومقارنة بالولايات المتحدة، فإن أوروبا ضائعة على المستوى الإستراتيجي بشكل أكبر، ولا تزال الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة في العالم، ولا تزال تتمتع بالهيمنة المالية والعسكرية، ولكن مع انحدار قوة أوروبا، وإذا أضفنا إلى ذلك بعض أوجه القصور المتأصلة، مثل الانقسام الداخلي، فإن الاستمرار في السياسات الغربية الحالية لن يؤدي إلا إلى زيادة خروج الأزمات عن السيطرة، بل ربما تتحول إلى صراع جيوسياسي. وقد أصبحت الانقسامات داخل الولايات المتحدة وأوروبا أكثر تواترًا وحدّة، وهذا الأمر الذي من المرجح أن ينذر بمزيد من الخلافات والصراعات في المستقبل.


شارك الموضوع