أبحاث ودراسات

رؤية استشرافية.. مستقبل غزة بين سيناريوهات التهجير والإذابة


  • 12 ديسمبر 2023

شارك الموضوع

 مع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، يمكننا رسم خريطة ميكروسكوبية لمُجمل الأوضاع والتداعيات الواقعية والمحتملة لهذه الحرب على مستقبل القطاع، في ظل سيطرة القوات الإسرائيلية على مدن المنطقة الشمالية منه.

رصد تلك التداعيات وتحليلها يهدف إلى استشراف المستقبل للوضع الذى سيؤول إليه قطاع غزة بعد توقف صوت المدافع، وتلاشي دخان البارود من فوق سمائه.

    بعيدًا عن السيناريوهات الإسرائيلية المطروحة، جاءت الحرب على قطاع غزة لتزيد معضلات القضية الفلسطينية، والتشابكات السياسية التي تتخللها. صحيح أنها نجحت في إعادتها على رأس أولويات المجتمع الدولي واهتماماته، وتصدرت المشهد وسط القضايا العربية المختلفة لأول مرة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011، لكن تداعياتها ستكون متشعبة وعميقة التأثير، سواء على مستوى الفصائل الفلسطينية، أو على المستوى الشعبي الفلسطيني، وهو ما سوف نرصده من خلال المحاور التالية:

غزة بين سيناريوهات التفريغ والإذابة

لم تكن مخططات التهجير الإسرائيلية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة وليدة الحرب الأخيرة، بل إنها أسقطت ورقة التوت التي كانت تتخفى وراءها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لإيجاد حل لمشكلة غزة التي تُعد قنبلة شديدة الانفجار، تتفجر في وجه إسرائيل من حين إلى آخر، لا سيما بعد الانسحاب منه منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، فيما يُعرف بخطة فك الارتباط في 2005.

حاول الخبراء الإستراتيجيون والعسكريون الإسرائيليون إيجاد حل جذري للتخلص من قطاع غزة بهدف إعفاء إسرائيل من مسؤولياتها، بوصفها دولة احتلال، مع أن القطاع ما زال قابعًا تحت وطأة الاحتلال. ومن بين تلك المحاولات المخطط الذي طرحه العميد جيورا أيلاند رئيس هيئة الأمن القومي آنذاك، والذي تزامن طرحه مع عرض خطة الانفصال الإسرائيلية عن قطاع غزة في أثناء حكومة أرئيل شارون. ففي السادس من مايو (أيار) عام 2004، أماطت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية اللثام عن تفاصيل خطة (أيلاند)، التي تنص على تخصيص مصر مساحة 600 كيلومتر مربع للفلسطينيين، بطول 30 كيلومترًا على طول الحدود الإسرائيلية المصرية، وعرض 20 كيلومترًا داخل عمق سيناء، بما في ذلك الشريط الساحلي  في مدينة العريش. في المقابل، تحصل مصر على مساحة بديلة تبلغ 200 كيلومتر مربع من صحراء النقب، بالإضافة إلى نفق يربط مصر بالأردن بوصلة برية تحت السيادة المصرية. في المقابل، سيُتاح للأردن حرية الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط ​​عبر النفق البري وميناء غزة، كما ستحصل المملكة العربية السعودية والعراق على إمكانية الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط ​​ بالطريقة نفسها.

لكن بعد مرور نحو تسعة عشر عامًا، وفي ظل إدراك القيادة المصرية لأبعاد المخطط الإسرائيلي، ورد الفعل القوي الذي انعكس من خلال التصريحات التي أدلى بها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتهديده لإسرائيل بالحرب في حال تنفيذها للتهجير القسري للفلسطينيين، تخلى أيلاند عن مخططه، ليقر في إطار تصريحات صحفية تعقيبًا على الحرب الأخيرة في قطاع غزة بأن “التعامل مع غزة بعد انتهاء الحرب يتعين أن يكون كتعامل الحلفاء مع ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ولا أقول إنه على إسرائيل أن تدمر قطاع غزة بالكامل. يمكن للمجتمع الدولي أن يؤسس نظامًا آخر في غزة، ربما حتى على غرار ما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. بعد هزيمة العدو كان هناك نهج معاكس من جانب المنتصرين، وسنكون أكثر من سعداء لتقديم مثل هذا الشيء، فالسلطة الفلسطينية ليست قوية بما فيه الكفاية بمفردها للمجيء إلى غزة، ستحتاج إلى مساعدة من دول عربية، مثل مصر، وقطر، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وغيرها؛ لمنحها الحزمة المالية لإعادة بناء ما هُدّم”.

يبدو أن الرفض المصري التام لفكرة التهجير القسري للفلسطينيين إلى سيناء دفع عددًا من الخبراء الإسرائيليين إلى توجيه دعوة عاجلة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بضرورة احتواء الغضب المصري، وهو ما انعكس من خلال مُطالبة الدبلوماسي الإسرائيلي مايكل هراري، سفير إسرائيل السابق لدى قبرص، في تحليل له نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت”، بتاريخ  21 أكتوبر (تشرين الأول) ٢٠٢٣، تحت عنوان “يجب على نتنياهو أن ينكر علنًا أي نية لدفع الفلسطينيين إلى مصر”، بضرورة أن توضح حكومة نتنياهو فورًا، من خلال قنوات علنية وسرية، أن إسرائيل لا تسعى إلى دفع الفلسطينيين نحو مصر؛ لأن التحرك البري المتوقع، وتفاقم الوضع على الأرض، قد يزيد صعوبة الأمر للدول العربية التي تقيم علاقات مع إسرائيل، والضرر الذي يلحق بالعلاقات مع مصر قد يؤثر في دول أخرى، وعلى رأسها في المقام الأول الأردن.

على ضوء المعارضة المصرية رسميًّا وشعبيًّا لفكرة تهجير الفلسطينيين قسريًّا إلى سيناء، لجأ عدد من الباحثين الإسرائيليين إلى طرح فكرة جديدة لتفريغ قطاع غزة من سكانه، وهي فكرة “الإذابة”؛ بمعنى دمج الفلسطينيين داخل مجتمعات الدول المحيطة بالقطاع (مصر، والسعودية، والأردن)، حيث طرح هذه الفكرة أمير وايتمان، وهو سياسي إسرائيلي، وأحد الكوادر الشبابية المستقبلية داخل حزب الليكود، ودعا من خلال ورقة بحثية إلى دمجهم داخل المجتمع المصري، وإذابتهم بين أبنائه في مدن الدلتا والعاصمة، زاعمًا بأنها خطة مستدامة ذات جدوى اقتصادية عالية، تتوافق جيدًا مع المصالح الاقتصادية والجيوسياسية لإسرائيل ومصر والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية.

ووسط تلك السيناريوهات التي تهدف إلى تفريغ قطاع غزة من سكانه الفلسطينيين، خلال ذروة العمليات العسكرية داخله، طرح العقيد (احتياط) شاي شبتاي، الباحث في مركز بيجن السادات للدراسات الإستراتيجية (BSA)، وخبير الأمن القومي والتخطيط الإستراتيجي والاتصالات الإستراتيجية، في سياق ورقة بحثية، تحت عنوان “الاستعداد لنقل السكان من جنوب غزة- الحل المحتمل هو إنشاء مخيمات تديرها الولايات المتحدة في النقب”، طرح مسألة نقل سكان قطاع غزة مؤقتًا إلى منطقة النقب، إلى حين الانتهاء من الحرب على قطاع غزة، والقضاء على حركة حماس، موضحًا أنه من أجل استكمال عملية تدمير القدرات العسكرية والسلطوية لحماس في غزة، ستكون هناك حاجة إلى تنفيذ هجوم بري في جنوب غزة، وأحد التحديات الرئيسة أمام تنفيذ هذه الخطوة هو أنه بسبب حركة السكان من الشمال، فإن سكان قطاع غزة يتركزون الآن في جنوب القطاع، ومن المهم تقليل عدد السكان في غزة قبل مع النشاط العسكري الإسرائيلي في المنطقة، وبالتوازي معه، وهنا يمكن ظاهريًّا توجيه سكان الجزء الجنوبي من غزة إلى ثلاث مناطق:

  1. عودتهم إلى شمال قطاع غزة مرة أخرى تحت رعاية الجيش الإسرائيلي وتحت إشرافه: هذا الخيار يتطلب استكمال المرحلة الأولية للاحتلال، والتطهير العرقي في الشمال، وهذا لم ينتهِ بعد؛ لذلك، فهو خيار أقل ورودًا في الوقت الحالي.
  2. تركيزهم في مناطق محددة في جنوب غزة: إذ يمكن إعلان مناطق محمية، حيث لن يعمل فيها جيش الدفاع الإسرائيلي إلا إذا أُطلق النار عليه، ويمكن توجيه السكان إليها، وهذا هو الخيار الأكثر ورودًا ومعقولية، لكن حماس ستستخدمه للحفاظ على بقاء مقاتليها.
  3. نقلهم مؤقتًا إلى سيناء: المصريون يعارضون ذلك بشدة، ويجب احترام رغبتهم. لقد كانت مصر دولة مسالمة منذ أكثر من أربعين عامًا، وفي السنوات الأخيرة اتسمت العلاقات بينها وبين إسرائيل بالاحترام المتبادل، ولا ينبغي تعريض هذه العلاقات للخطر بسبب حاجة تشغيلية مؤقتة.
  4.  أما الخيار الآخر الذي يمكن طرحه فهو الترويج لتحرك بقيادة أمريكية، وبمشاركة دولية وإقليمية؛ لإقامة مخيمات إقامة مؤقتة لسكان غزة في النقب. وفي هذا الإطار، فإن الوكالات المدنية الأمريكية- بمساعدة تحالف الدول الغربية والمنطقة- ستُنشئ في منطقة النقب القريبة من غزة (منطقة شبتا- كاتزيوت) مخيمات إيواء مؤقتة لسكان غزة من أجل عدة أشهر حتى انتهاء العملية العسكرية الإسرائيلية.

طريقة تنفيذ الفكرة

ستُبنى البنية التحتية لاستقبال الأشخاص الذين أُجْلوا “في أثناء التنقل”، وسترتكز في المراحل الأولى على البنية التحتية الإسرائيلية في المنطقة. إنها عملية واسعة النطاق، لكنها عملية يمكن أن يتحملها تحالف دولي. ستُقدَّم حوافز اقتصادية وحوافز أخرى لسكان غزة لمغادرة القطاع مؤقتًا، وسيستقبل الجنود الأمريكيون وغيرهم- بمساعدة المنظمات الدولية- سكان غزة عند المعابر، وسيتحققون من الهوية والتوثيق والتفتيش، وسيُنقل السكان في قوافل مؤمنة إلى مرافق الإيواء الكبيرة التي ستُبنى وتُؤمَّن بقيادة الولايات المتحدة، وبمشاركة وتمويل جهات من الدول الغربية والعربية، وستكون لإسرائيل سيطرة أمنية على العملية، بطريقة تجعل من الممكن معرفة نشطاء حماس واعتقالهم، وإبعادهم عن السكان المدنيين.

سيتعاون “ائتلاف اليوم التالي” مع المقيمين في المخيمات لبناء عملية عودتهم إلى غزة. وفي هذا الإطار، ستُحدد العوامل الرئيسة، وسيُبنى الهيكل العام الأساسي لنظام الحكم المدني المحلي لليوم التالي، وستكون العملية محدودة زمنيًّا، وسيُعاد السكان إلى مساكن مؤقتة في غزة، مع خطة واضحة، ومساعدة مالية فردية لإعادة تأهيلهم. وشرط ذلك هو استكمال العملية العسكرية في شمال غزة، والموافقة على البدء بإعادة المواطنين إلى الشمال، ومن أجل خلق تناسق في الموقف الدولي تجاه المدنيين في مناطق الحرب، في نفس وقت هذه الخطوة، سيُبنَى أيضًا برنامج دولي يساعد على إعادة تأهيل المستوطنات في غلاف غزة، وإعادة السكان إليها. وحسب شبتاي فإن لهذا المقترح كثيرًا من المزايا المهمة:

  1. حل غير مسبوق لقضية المواطنين في ساحة القتال المدني؛ حيث تستخدمهم الحركات المسلحة في غزة دروعًا بشرية. هذا، مع التنازل مؤقتًا من إسرائيل عن مناطق من أراضيها.
  2. بدء نشاط التحالف الدولي الذي سيُعيد تأهيل غزة في اليوم التالي لعملية واسعة النطاق لبناء قدراتها.
  3. ارتباط إسرائيل العميق بهذا التحالف.
  4. خلق فصْل بين سكان غزة وعناصر حماس، وتهيئة الظروف لآلية مراقبة مدنية منفصلة عن المنظمة في اليوم التالي.

من سيحكُم غزة؟

سواء نجحت إسرائيل في تنفيذ سيناريوهات تفريغ قطاع غزة من سكانه بطريقة أو بأخرى كما طرحناه آنفًا أم لم تنجح، فإن السؤال الذي سيظل مطروحًا هو: مَن سيحكُم غزة بعد أن تضع الحرب أوزارها؟ هل ستظل حماس في سُدة الحكم؟ وهذا معناه فشل العملية العسكرية، أم ستعود السلطة الفلسطينية، والرئيس عباس أبو مازن، بعد أن ترك القطاع منذ أكثر من سبعة عشر عامًا، ورفضه أن يعود على رأس الدبابة الإسرائيلية، أم سيكون هناك طرف ثالث جديد يحكم القطاع؟

نجد اللواء عاموس جلعاد، رئيس الهيئة السياسية والأمنية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، يحاول الإجابة عن هذا السؤال، من خلال دراسة له منشورة في معهد السياسات والإستراتيجية بجامعة ريخمان، تحت عنوان: “من الذي سيحكم قطاع غزة في اليوم التالي للحرب؟” جاء فيها: “إن القوة التي يتمتع بها الجيش الإسرائيلي، إلى جانب تماسُك المجتمع المدني، هما مصدر قوة يتيح تحقيق أهم أهداف هذه الحرب: تقويض حركة حماس، واستعادة جميع المخطوفين. وفي ضوء الإخفاق الذي جرى في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، تبرز- على وجه التحديد- سِمتان من سِمات ضعف حركة حماس، تتناقضان مع توقعاتها وخططها الاستباقية؛ السِّمة الأولى هي فشلها في إشعال مواجهة متعددة الجبهات في الشمال، ومنطقة “الضفة الغربية”، وفي داخل إسرائيل. أما السِّمة الثانية فتتمثل في الفظائع المرتكبة صبيحة السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، التي لا تترك أمام إسرائيل سوى خيار واحد؛ هو القضاء على حركة “حماس” بوصفها منظمة إرهابية، مدمجة في كيان سياسي. كما أنه بفضل الدعم المتعدد الذي توفره الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرائدة؛ مما يمنح إسرائيل شرعية واسعة، ودعمًا سياسيًّا وعسكريًّا لإسقاط حركة حماس؛ ينبغي أن تقترن الإنجازات الكبرى المتحققة ضد حركة حماس بالنشاط الدبلوماسي الذي تقف الولايات المتحدة على رأسه، من أجل تحقيق إطلاق سراح جماعي لجميع المخطوفين والمخطوفات. بناءً عليه، ووفقًا لرؤية عاموس جلعاد، يتعين على إسرائيل العمل على بلورة إستراتيجية انسحاب شامل، تضع في رأس أولوياتها تصفية حركة حماس، بالتزامن مع ترسيخ قبضتها الأمنية، الذي سيتيح إعادة سكان “غلاف غزة” إلى منازلهم. وفي الموازاة، يتعين على إسرائيل المشاركة في الجهود الدولية التي تقف الولايات المتحدة على رأسها، وبالتنسيق الكامل معها، من أجل تحديد العنوان الأساسي الذي يجب تعيينه لإعادة إعمار قطاع غزة وإدارته في اليوم التالي للحرب.

وإلى جانب ضمان القبضة الأمنية الإسرائيلية الناجعة على القطاع، من الضروري خلق احتمالات تشكّل ركيزة مدنية فلسطينية وعربية مشتركة، تحت رعاية الولايات المتحدة والدول الأوروبية. يتمثل الهدف من وراء خلق هذه الركيزة في إعادة الإعمار الشامل الضروري الآن لقطاع غزة، كما سيتعيَّن على إسرائيل أيضًا صوغ إستراتيجية شاملة من أجل كبح التعاظم الإيراني المتعدد الأبعاد.

وينبغي لهذه الإستراتيجية الاستناد إلى مرتكزين؛ الأول: المستوى العسكري، من خلال تسريع عمليات بناء القوة، بمعونة أمريكية، والثاني: المستوى الدبلوماسي، من خلال التنسيق مع المجتمع الدولي.

التيار الثالث

يئن قطاع غزة من الصراعات الداخلية، والانقسام الفلسطيني الحاد منذ انسحاب إسرائيل منه عام 2005، ولم يسبق أن شهد الشعب الفلسطيني مثل هذا الانقسام طوال تاريخه النضالي، إلا بعد سيطرة تيار الإسلام السياسي المتمثل في حركة حماس على الأوضاع داخل القطاع، وفرض سيطرتها العسكرية والاقتصادية. أسهم في ذلك المباركة الإسرائيلية- الأمريكية من جانب، وتطور صناعة الأنفاق من جانب آخر، التي حققت شبه استقلالية للاقتصاد الحمساوي داخل القطاع، والتي تلقت دعمًا سياسيًّا مع اندلاع ثورات الربيع العربي، لا سيما في مصر، مع ظهور تيار الإسلام السياسي، الذي تزعمته حركة الإخوان المسلمين، الحركة الأم لحماس.

     ظلت حماس تفرض سيطرتها على القطاع حتى يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وهو اليوم الذي اتخذت فيه القرار بمهاجمة إسرائيل، وأصبح الوضع مختلفًا تمامًا بعد هذا التاريخ؛ حيث اتخذت إسرائيل قرارًا بأن مصير حركة حماس داخل القطاع بات أمرًا محسومًا، وعملية البحث عن بديل لها خيار مفتوح. ويبدو أنه في ظل الرفض الإسرائيلي لعودة السلطة الفلسطينية، والرفض الفلسطيني لوجود قوات أجنبية داخل القطاع لتسيير أموره، فإن البحث عن طرف ثالث فلسطيني يتمتع بقدرات سلطوية هو المنوط به لفرض السيطرة البديلة لحركة حماس على القطاع خلال الفترة القادمة، وتتمحور ملامح هذا الطرف الثالث في العناصر التالية:

  • أن يكون تيارًا سياسيًّا رافضًا المسار الحالي للسياسات الداخلية الفلسطينية، ومتمردًا على التابوهات السياسية القديمة، وتكون قاعدة هذا التيار من الشباب.
  • من المحتمل أن يتكون هذا التيار من المنشقين عن التيارات والفصائل الفلسطينية القديمة، مثل فتح وحماس، التي فشلت في تحقيق طموحات الشعب الفلسطيني طوال أكثر من 75 عامًا بإقامة دولة آمنة له ذات سيادة.
  • ظهور قيادة أكثر شبابية أصغر من قيادات فتح وحماس، تتسم بالوطنية والنضال القومي، تكون قادرة على جمع الشتات الفلسطيني في الداخل والخارج حولها، والالتفاف حول المطالب الوطنية الفلسطينية المشروعة. هذه القيادة من الممكن إيجادها داخل السجون الإسرائيلية، أمثال مروان البرغوثي، المحكوم عليه بأكثر من مؤبد، لكن من الممكن الإفراج عنه في إطار صفقة من صفقات تبادل الأسرى، وتكون عودته مثل عودة الخميني من المنفى الفرنسي إلى إيران، وقيادته للثورة الإسلامية ضد الحكم الملكي هناك، وربما شخصية تعيش خارج الأراضي الفلسطينية، كشخصية محمد دحلان، الذى قرر التخلي عن قطاع غزة عام 2007 لصالح حركة حماس، في مقابل عدم الدخول في حرب أهلية.

     حينما تلتئم العناصر السابقة مجتمعة، ستنذر بتبلور تيار ثالث جديد يقود المقاومة الفلسطينية داخل القطاع نحو آفاق جديدة في إدارة الصراع مع إسرائيل، وقد يظفر القطاع بهدوء لمدة تصل إلى عشر سنوات. نجاح هذا الطرف الثالث منوط بالدعم العربي الإقليمي، والدولي الأمريكي، وقبل ذلك مرهون بمباركة إسرائيلية. نجاح الطرف الثالث في غزة قد يُستَنسخ في الضفة الغربية؛ وبذلك ربما نكون أمام حقبة جديدة تبرز في إطارها قيادة جديدة تقود الشعب الفلسطيني نحو التحرر من نير الاحتلال، وتدشين عصر جديد من الرخاء الاقتصادي لم يَعِشْه من قبل، في ظل إقامة دولة فلسطينية مستقلة.

     ظهور التيار الثالث داخل قطاع غزة سيغير- بلا شك- معادلة ميزان القوى، خاصة في مواجهة تيارات الإسلام السياسي، حماس والجهاد الإسلامي، وسيكون وجوده سلاحًا ذا حدَّيْن، فإما أن يُسهم في استقرار الوضع الداخلي في القطاع؛ مما يعني توحيد الجبهة في مواجهة إسرائيل، وإما أن تكون هناك صراعات داخلية قد تصل إلى حدِّ الحرب الأهلية؛ مما يعني التصفية الذاتية للقضية الفلسطينية.

وفي ظل السيناريوهات الإسرائيلية المطروحة لمستقبل قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، اهتم عدد من الخبراء والباحثين بوضع رؤية اقتصادية شاملة، تدعم وتساند التوجه السياسي الجديد داخل القطاع، ومن بين هؤلاء “يتسحاق جال”، خبير الشؤون الاقتصادية، في سياق تقدير موقف أورده معهد “ميتفيم” (المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمي)، تحت عنوان “اليوم التالي لحرب غزة 2023- بناء بنية تحتية للدولة الاقتصادية في غزة بوصفه جزءًا من النظام الإسرائيلي الفلسطيني في سياق التعاون الإقليمي”، للحديث عن ضرورة عدم الاكتفاء بالرؤيتين العسكرية والسياسية في إدارة الحرب، ولكن ينبغي الدمج بين الرؤى السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتقديمها مجتمعة للقوى الدولية والإقليمية، مؤكدًا أن الصدمة الكبيرة التي أحدثها هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على مستوطنات غلاف غزة، أنتجت خطابا مملوءًا بمشاعر الغضب في إسرائيل، ونفذت كتائب القسام- الجناح العسكري لحركة حماس- في ذلك اليوم عملية التي أدت إلى مقتل 1400 إسرائيلي، وأسر آخرين، وبدأت القوات الإسرائيلية بعدها بشن عمليات قصف عنيفة أدت إلى مقتل أكثر من 18 ألف فلسطيني، بالإضافة إلى إصابة أكثر من 49 ألفًا آخرين (حتى وقت كتابة هذه الدراسة، مع الإقرار بصعوبة الإحصاء الدقيق لعدد الضحايا، مع استمرار القصف الإسرائيلي العنيف)، وقد أدى ذلك- وفقًا له- إلى ظهور تيار يطرح خيارات منفصلة عن الواقع فيما يتعلق باليوم التالي للحرب.

وتوقع أن “هذا الأمر سيُحدث- إن استمر- فوضى في غزة قد تُعيدنا إلى الوضع الذي كنا عليه مساء السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، وربما بنسخة أسوأ”.

ويقول “جال”: “إن الأزمة الكبرى التي نحن بصددها تخلق فرصة نادرة للتغيير الحقيقي”، وتابع: “فمن ناحية، تلقينا دليلًا قاطعًا مكتوبًا بالدم والمعاناة على نطاق غير مسبوق، على حماقة ما يسمى بسياسة إدارة الصراع، وهي القبول بوجود نظام حركة حماس، بل تعزيزه، بوصفه جزءًا من إستراتيجية التفريق بين غزة والضفة الغربية”.

وأردف قائلًا إن لذلك ثلاثة خيارات؛ الأول: سحق نظام حماس، وهو يعني أن تنتهي الحرب في غزة مع عدم وجود الحركة ككيان فاعل، بتدمير قوتها العسكرية، وبعد أن تنهار بنيتها التنظيمية والبشرية والمادية. أما الثاني فهو إرساء نظام حكومي بديل مستقر.

 ويوضح “جال” أنه بما أن الحكم الإسرائيلي في غزة من غير الممكن أن يكون مستقرًا، ونظرًا إلى ضعف السلطة الفلسطينية، فإن الحل العملي الوحيد يتلخص- وفق تعبيره- في نظام حكم مؤقت تحت قيادة دولية، ومن الأفضل أن يكون ذلك بمكونات إقليمية، بالاشتراك مع السلطة الفلسطينية. أما الخيار الثالث- في اعتقاده- فهو عبارة عن خطة اقتصادية شاملة لغزة، تتكون من أربع مراحل:

المرحلة الأولى

تشمل وضع خطة للاستجابة الفورية، وإعادة التأهيل السريع لقطاع غزة، بتمويل قيمته نحو 15 مليار دولار.

 المرحلة الثانية

تشمل خطة للقفز الاقتصادي، من شأنها أن تضع قطاع غزة على طريق النمو الاقتصادي السريع والمستقر على المدى الطويل.

المرحلة الثالثة

ستشمل تطوير البنية التحتية للنقل والغاز والطاقة المتجددة والمياه والمجمعات الصناعية، وهو ما سيخلق “بنية تحتية اقتصادية قوية في غزة والضفة الغربية”، كما أنه “يقلل كثيرًا من اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على إسرائيل، هذا بالإضافة إلى “تطوير العلاقات الاقتصادية مع دول الخليج، وأيضًا مع إسرائيل”؛ بهدف “دمج غزة والضفة الغربية في مشروعات إقليمية كبيرة، وتعاون واسع النطاق، وتحقيق قفزة إلى الأمام في نطاق الاستثمارات داخل الاقتصاد الفلسطيني”.

المرحلة الرابعة

توحيد الضفة الغربية وغزة: “ستكون خطة الانطلاقة الاقتصادية للقطاع جزءًا من خطة أوسع للانطلاقة الاقتصادية للسلطة الفلسطينية، وستشمل أيضًا تطوير الضفة كوحدة اقتصادية واحدة متكاملة”، زاعمًا أنه “سيجري دمج الخطة الاقتصادية في عملية التكيف السياسي، واستقرار النظام الإسرائيلي الفلسطيني، وستعكس عمليًّا إعادة توحيد المنطقتين- الضفة الغربية وقطاع غزة- تحت ركيزة سياسية اقتصادية واحدة”. ومن زاوية أخرى، يوصي الكاتب بضرورة أن يكون الجهد العسكري الإسرائيلي مصحوبًا بحصار فوري وكامل لقنوات تمويل حماس، موضحًا أن معظمها تحت السيطرة الإسرائيلية.

وفي ختام دراسته خلص “جال” إلى أنه “من أجل ضمان الاستقرار الاقتصادي، والأمني، ​​والسياسي، على المدى الطويل، بعد العملية العسكرية في غزة، من الضروري الجمع بين خطة الطفرة الاقتصادية وترتيبات الدولة، في إطار تعاون إقليمي شامل، وشدد على أن “المكون الاقتصادي ضروري لدعم المكون السياسي، والعكس صحيح كذلك”، موضحًا أن انتهاء الحرب في غزة دون حل وفقًا لهذه المبادئ التوجيهية، يعني إعادة التخلي عن القطاع أمام القوى المتطرفة في المجتمع الفلسطيني، والعودة إلى نقطة البداية مساء يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)؛ وهي الفوضى وعدم الاستقرار.

ختامًا، السؤال المطروح هو: في حال فشل مخططات إسرائيل لتفريغ قطاع غزة من سكانه، أو على الأقل العمل على تقليل الكثافات السكانية فيه، هل ستتواصل حرب الإبادة الجماعية ضد سكانه، حتى القضاء نهائيًّا على حماس، أم ستظهر بوادر جديدة يمكن من خلالها حل مشكلات القطاع نهائيًّا، بما يضمن الأمن والاستقرار ليس لإسرائيل والأراضي الفلسطينية فقط؛ بل لربوع منطقة الشرق الأوسط؟

النتائج

  • سيظل قطاع غزة هاجسًا يؤرق مضاجع القيادات الإسرائيلية، دون إيجاد حل فعَّال، في ظل فشل جميع المخططات لتصفيته.
  • بعد فشل إسرائيل في الترويج لفكرة التهجير القسري للفلسطينيين إلى سيناء، ستلجأ إما إلى مخططات الإذابة، من خلال نقل الفلسطينيين إلى داخل مجتمعات الدول المحيطة بالقطاع، ودمجهم وسط أبنائها، وإما إلى مخططات التهجير الطوعي، وفتح المجال أمام الفلسطينيين للهجرة إلى أماكن مختلفة في العالم، تحت غطاء البحث عن الاستقرار، والأمن الشخصي والاقتصادي.
  • نحجت القيادة المصرية- منذ الوهلة الأولى- في الكشف والتصدي للمخطط الإسرائيلي بتهجير الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء، من خلال الممارسات الوحشية ضدهم في القطاع.
  • الطرف الأهم في المعادلة هو الشعب الفلسطيني، الذي لا يرى بديلًا عن التخلي عن أرضه سوى الاستشهاد، وهو ما ينسف جميع المخططات الإسرائيلية، سواء التهجير أو الإذابة؛ لذا يجب توجيه مزيد من الدعم الاقتصادي للشعب الفلسطيني عقب انتهاء الحرب؛ لأن هذا الدعم سيكون كفيلًا بوأد أي مخططات بتهجير الفلسطينيين- سواء أكان قسريًّا أم طواعيةً- من قطاع غزة.
  • خطورة الورقة البحثية التي تَقدَّم بها “وايتمان” تتمثل في أنها تدعو إلى إذابة الشعب الفلسطيني، ودمجه في شعوب أخرى، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تعلن إسكتلندا- بعد مرور أيام قليلة على حرب غزة- استعدادها لاستقبال لاجئين فلسطينيين على أراضيها، هذا النموذج قد يكون قابلًا للتنفيذ مستقبلًا، لا سيما بعد هدوء المنطقة، وتلاشي أدخنة البارود من فوق سماء قطاع غزة.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع