التاريخ والثقافة

رؤية إسلامية للعلاقات بين العائلة الإبراهيمية في روسيا


  • 4 نوفمبر 2023

شارك الموضوع

يطلق اسم الأديان الإبراهيمية عادة على تلك الأديان التي تنتمي إلى تقاليد أنبياء الشرق الأوسط، بدءًا من إبراهيم، حيث يُذكر هو وعائلته على أنهم مؤسسو هذا التقليد الديني في كتبهم المقدسة. هذه الأديان هي اليهودية، والمسيحية، والإسلام، حسب ترتيب ظهورها التاريخي. في الوقت نفسه، فإن هذه الأديان- حسب التصنيف الحالي لها في علم الأديان، ومن ذلك المجموعة التي تندرج ضمنها- تُصنَّف على أنها “ديانات إبراهيمية”، ومع أن هذا التصنيف يعد دقيقًا بشكل عام، فإنه يعاني النقصان، ووجود بعض الأعراف التاريخية.

مفهوم “العائلة الإبراهيمية” من وجهة نظر ممثلي الأديان في روسيا

وفقًا لهذا الوصف، تجتمع هذه الأديان في الصفات التالية: اعتمادها على التقاليد الأدبية والتاريخية العامة والواسعة، وعلى العقيدة التوحيدية، وعلى الاعتراف المتبادل بالأصل المشترك، ومستوى معين من التسامح الديني المتبادل. ومع ذلك، فإن رأي علم الأديان هذا، لا يأخذ في الحسبان تلك الجوانب من الأديان الإبراهيمية، وخاصة الإسلام، التي ينعكس في مفهومها الخاص مصطلح “العائلة الإبراهيمية”. نصت دعوة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) التي أُسِّسَ عليها الإسلام، على إعادة دين التوحيد الحقيقي الذي يعود تاريخه إلى إبراهيم على وجه التحديد. تعد عائلة (نسل) إبراهيم وغيره من البابوات (البطاركة)، الذين هم الأجداد الأوائل للشعوب الإسلامية، من أوائل المسلمين. في الوقت نفسه، كان يُقصد بالمسلمين أنهم موحِّدون وفقًا لما يسمى بالتقليد الإبراهيمي، أي التقليد النبوي في الشرق الأوسط، الذي نشأ من المجموعات الناطقة بالسامية في شرق البحر الأبيض المتوسط، بلاد الرافدين (بقيادة النبي إبراهيم) ومصر (بقيادة النبي موسى).

ورد في القرآن الكريم ذكر آل إبراهيم على وجه الخصوص، حيث قال تعالى:

“أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا”[1].

يُقال إن عائلة إبراهيم تلقت الكتاب المقدس من الله، وهذا يشير إلى تقليد مُوَحَّد في الإسلام القرآني (على عكس “الإسلام التاريخي” الذي يميزه علماء الدين والمستشرقون). وهكذا، في مفهوم “العائلة الإبراهيمية”، يجد المسلمون، وبخاصة مسلمو روسيا، انعكاسًا للوجود التاريخي للإسلام باعتباره تقديسًا للإله الواحد، والدخول معه في معاهدة (اتفاق). تُفهم دعوة النبي محمد، “خاتم الأنبياء”، على أنها استعادة للشريعة الدينية ذاتها التي أُعطيت لإبراهيم وورثته في الكتاب المقدس، ثم نُسِيَ جزء منها، وحُرِّفَ الجزء الآخر من جانب الأتباع. في الإسلام، يرتبط ذكر هذا الكتاب المقدس بلفظ “أهل الكتاب”، الذي يقصد به أتباع تلك الاتجاهات الدينية من “التقليد الإبراهيمي” [2] الذين لم يصبحوا مسلمين بعد آخر وحي أنزله الله (إلى محمد). في مفهوم “أهل الكتاب”، لا نرى تجسيدًا لسياسة التسامح الديني في الدولة العربية الإسلامية الأولى فحسب؛ بل نرى أيضًا اعترافًا بتقارب الأديان الإبراهيمية في إطار التقاليد الإسلامية نفسها.

دعوة محمد، لكونها عالمية في مغزاها، تحققت في ظروف تاريخية، وأطر مفاهيمية معينة، حيث كانت هذه “القيود”، بالتحديد أو بالأدق، التجذر في التاريخ، هو ما سمح لهذه الدعوة بأن تكون عالمية في رسالتها. لم يكن سكان مكة في الجاهلية (قبل الإسلام) وثنيين حتى النخاع، أي من أتباع الشرك الصريح، وإنما كانوا في البداية مُوَّحِدين، ثم وقعوا في الشرك. في الوقت نفسه، كان كثير من أتباع هذه الوثنية من ورثة التقليد اليهودي المسيحي بصوره المختلفة. سمح ذلك للنبي أن يوجه رسالته ضد الميول الوثنية، مناديًا هؤلاء لفهم التراث المشترك لأنبياء الشرق الأوسط. إن هذه الظروف هي التي تجعل من الممكن اعتبار الإسلام تقليدًا إبراهيميًّا حقًّا، أصبح ممكنًا بواسطته اكتشاف الأمور التي لا تتوافق مع عقيدة النبي، إلا أنها تحمل معنى (أي إنها مُبَرَّرة، وإن كانت غير صحيحة من وجهة نظر التوحيد الثابت) من أجل التراجع عنها،  وإرشاد الناس إلى طريق الإصلاح. كما أسهم هذا القرب لمعتقدات ما قبل الإسلام من التوحيد في سهولة تأثر المسلمين بالعلوم، والمعرفة، والثقافة الأدبية للشعوب الأخرى. عُرفت شمولية التقليد العربي الإسلامي (بشكل متناقض) بالتوحيد المطلق في دينهم. بعبارة أخرى، عند التمسك والالتزام بالتوحيد، كان من الممكن دمج العناصر المتبقية من الثقافة السابقة، ومجالات تطبيق العقل البشري، دون صعوبة كبيرة، في بنية الثقافة الجديدة، والفكر الديني (بما في ذلك العلوم، والمجالات العلمية والسلوكية، التي يسميها أبو حامد الغزالي “العلوم الدينية”، والتي يتم إرجاعها في الدراسات الدينية عادة إلى البعد العلماني).

من هذا المنطلق، يمكننا أن نتحدث عن سبب تحول الإسلام إلى دين عالمي، لكن هذا التعريف، مثل تعريف “الدين الإبراهيمي”، يجب أن يُنظر إليه ليس فقط من وجهة نظر شكلية (من حيث عدد الأتباع، والتبشير، وما إلى ذلك)، ولكن أيضًا من الناحية التاريخية. يمكن القول إن الدين يصبح عالميًّا، إذا كان قادرًا على استيعاب الأسلاف، والعلماء، والأتباع من جميع أنحاء العالم (بكل ما تحمله كلمة العالم من معان: بالكلام، وبمزايا التنظيم الاجتماعي والسياسي) واستيعاب ثقافتهم (بمعنى الدمج مع الحفاظ عليها)، كما فعل المسلمون الأوائل، فلم تكن الفتوحات العربية الإسلامية لتنجح لو لم يظهر المسلمون، في أثنائها وبعدها، انفتاحهم الراديكالي على العالم، الذي لم يغير- في الوقت نفسه- مبادئ دينهم.

هذه العالمية منذ البداية لها نقيضها العَقَدي والروحي بشكل عام، الذي يهوي بالدين إلى الانقسامات الكَنَسية (أو ما شابهها)، والمواجهات الطائفية.

إن الحصول على مكانة الدين العالمي يعني الاستعداد لاحتضان العالم، وترتيبه وفقًا لعهودك الخاصة. الاستعداد في هذه الحالة لا يساوي القدرة؛ لأنه قد لا تكون القدرة موجودة، إلا أنه يبقى الاستعداد بمعنى التهيؤ. لكن في هذه الحالة، يمكن أن يتراجع الاستعداد عندما تحدث أزمة بين المجتمع والدين تقود إلى طريق مسدود (كما حدث في البلدان الإسلامية في أوائل العصر الحديث)، حيث لا يمكن الحفاظ على هذا الاستعداد من حيث ظهور أتباع جدد، واستمرار التبادل الثقافي، والعلاقات النشطة (وليست الخاملة) مع الدول الأخرى. عندئذٍ يبقى الدين عالميًّا، ولكن غالبًا في نطاق دولة معينة بذاتها. أصبحت الخصوصية الوطنية للدول العربية، وغيرها من البلدان ذات الغالبية الإسلامية التي تشكلت عوالم منفصلة حولها، هي من بنات أفكار فترة التدهور.

إذن، مفهوم “الأديان الإبراهيمية” له معنى خاص في الإسلام، فقد أدّى مفهوم “العائلة الإبراهيمية” دورًا حاسمًا في ظهور الدين الإسلامي، وظهور التوحيد في الشرق الأوسط. هذه الحقيقة يعترف بها أتباع الإسلام المعاصرون، وهي مهمة لفهم الإسلام بوصفه دينًا عالميًّا، وفهم علاقته بالديانات الأخرى (أهل الكتاب). يتطابق المفهوم الديني لمصطلح “الأديان الإبراهيمية” من حيث المعنى مع الفهم الإسلامي لهذا المصطلح- إلى حد كبير- لكنه لا يعكس تمامًا الخصائص المحددة التي يؤديها هذا التقارب الداخلي بين هذه الأديان في إطار الإسلام نفسه. من وجهة نظر المسيحية واليهودية، لا يؤدي التقارب بين “الأديان الإبراهيمية” هذا الدور المهم، مع أن التشابه التاريخي بين الجوانب المتعددة لهذه الأديان لا يمكن ألا يلاحظه أحد. في المجتمع الروسي الحديث، تتم وحدة الأديان المختلفة في أغلب الأحيان على قاعدة المؤسسات المدنية، والمؤسسات الدينية المرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا. العلاقات الداخلية في المؤسسات الدينية بين ممثلي أديان “العائلة الإبراهيمية”- اليهودية والمسيحية (الأرثوذكسية بشكل أساسي) والإسلام- ليست متطورة بشكل كبير، مع أن هناك ضرورة لذلك، ويعترف بذلك كثير من القادة الدينيين من جميع هذه الطوائف.

المؤسسات المشتركة لأديان التقليد الإبراهيمي في روسيا

في روسيا، لا تتعايش مجتمعات الأديان التقليدية (التي تضم بشكل أساسي الأديان الإبراهيمية) على مستوى “القاعدة الشعبية” في المجتمع فحسب؛ بل تتعاون أيضًا على المستوى المؤسساتي. يتعلق وضعها الخاص في البلاد بتاريخ تطور المجتمعات الدينية في روسيا، وعلاقتها بعضها ببعض، وعلاقتها بالدولة. كان من المفترض أن تعمل الدولة الروسية، على الرغم من فترات تطورها المعقدة والمتنوعة، كنوع من عامل التوحيد، وأحيانًا عامل التوفيق بين المجتمعات الدينية المختلفة وغير المتجانسة. كان لا بد من تخفيف العداء بين الأرثوذكسية والإسلام، الذي ظهر خلال فترة سيطرة التتار والمغول على الممالك الروسية، وما تلاه من غزو قازان، وأستراخان، وخانات أخرى من جانب الممالك الروسية، وحله في إطار مكون اجتماعي سياسي واحد. مكانة هذه الدولة المُوَّحِدة احتلته القبيلة الذهبية في عصرها. كان على الدولة الروسية، بعد توحيد الأراضي الروسية والمكونات السابقة للقبيلة الذهبية، أن تتولى دور الوسيط الديني، وهذا يتطلب تطبيق سياسة التسامح الديني، على القدر الذي يمكن تطبيقه خلال تلك الحقبة، والسماح بتمثيل أعضاء الطوائف الدينية الرئيسة.

وهكذا، تبين أن مطلب تعزيز التسامح الديني لا ينفصل جسديًّا عن الجهود المبذولة للحفاظ على المجتمع المتعدد الأديان والمتنوع ثقافيًّا المذكور أعلاه. على مر التاريخ، تغيرت- بشكل متكرر- النسبة بين أعضاء هذا المجتمع من ممثلي المجموعات العرقية والتقاليد الدينية المختلفة. كما تغير الوعي الذاتي لكثير من حاملي الهوية الأوراسية جزئيًّا. ومع ذلك، فإن البنية “الشاملة” والمتعددة المستويات للهوية الأوراسية كانت ولا تزال عنصرًا بناءً للمجتمع التاريخي الروسي، وشرطًا لحيويتها، وميزة حضارية فريدة لها، بدونها لن تكون هويتها كما هي الآن عليه. يمكن القول إن روسيا تجد نفسها وتقبل مصيرها التاريخي (بصفتها وريثة القبيلة الذهبية) إلى درجة أنها تسهم في إقامة علاقات حسن الجوار بين شعوب منطقة أوراسيا. في هذه الحالة، نحن نتحدث مباشرة عن كل الشعوب داخل روسيا، وخارج حدودها.

بالطبع، يقترح كلا اتجاهي العمل إستراتيجيته الخاصة، لكن القيم الروحية والأخلاقية القابلة للتنفيذ لكل إستراتيجية تظل كما هي على المستوى الأولي. تظل كذلك، بالطبع، شريطة أن تتخذ روسيا خيارًا لصالح تراثها الحضاري الأوراسي. من القيم الأساسية التي يتكون منها هذا التراث، التسامح الديني، الذي تشهد له الصفحات المجيدة لتاريخ روسيا، وفترة ما بعد القبيلة الذهبية، حتى قبل أي صياغة واضحة للفكرة الأوراسية. وخير مثال على ذلك هو التغييرات الإيجابية التي حدثت في السياسة الدينية الروسية في عهد كاترين الثانية. ومع ذلك، لن نتعمق في تفاصيل الماضي، التي لا يمكن فهمها فهمًا كافيًا إلا في إطار دراسة عميقة وشاملة لكل الجوانب. التسامح ليس مجرد شعار، وليس مجرد عامل في السياسة الدينية، أو سمة ثقافية عرضية، ولكنه- على وجه التحديد- قيمة تربط الناس عبر المكان والزمان، فهو ينتمي إلى الأسس الروحية للفضاء الحضاري الأوراسي.

في روسيا، منذ عهد الإمبراطورة كاترين العظمى، تطور نظام خاص لعلاقات الدولة مع المسلمين، حيث كان أهم مفصل فيها هو الإدارات الدينية للمسلمين التي تنشئها الدولة، وتتحكم فيها. كان يترأس هذه الإدارات مفتون معينون من الدولة. استمر هذا النظام، مع تغييرات طفيفة، حتى انهيار الاتحاد السوفيتي. أما في روسيا الحديثة (بعد الاتحاد السوفيتي)، فتغير النظام كثيرًا: لقد تجاوزت الإدارات الدينية للمسلمين سيطرة الدولة.

في الاتحاد السوفيتي الرسمي في فترة ما بعد الحرب، كان من بين المُسَلَّمَات ما يلي: “في الاتحاد السوفيتي، هناك هيئة حكومية- مجلس الشؤون الدينية التابع لمجلس وزراء الاتحاد السوفيتي، الذي شُكِّلَ من أجل التطبيق المستمر لسياسة الاتحاد السوفيتي فيما يتعلق بالأديان. المهام الرئيسة للمجلس هي: مراقبة احترام القانون في مجال الدين، ودراسة وتعميم ممارسة تطبيق قانون العبادات، ومساعدة المؤسسات الدينية في العلاقات الدولية، والمشاركة في النضال من أجل السلام، وتعزيز الصداقة بين الشعوب. يشيد المجلس أيضًا بالعلاقات بين حكومة الاتحاد السوفيتي والمؤسسات الدينية في الحالات التي تنشأ فيها قضايا تتطلب حلًا من جانب حكومة الاتحاد السوفيتي”[3]. في الواقع، استمرت الدولة في قمع المؤسسات الدينية، وتمت ملاحقة المؤمنين العاديين في بعض المناطق تحت ذريعة محاربة التطرف. أدى هذا النهج- بطبيعة الحال- إلى نمو الراديكالية الحقيقية عند أولئك الأشخاص الذين سُلبت منهم الحرية الفردية في ممارسة العبادات الواجبة. بدأت الطائفية أيضًا بالنمو بين السكان الأرثوذكس التقليديين، واستمرت تلك السلطات في قمعها دون نجاح كبير. يمكن القول إنه في مرحلة ما بعد الحرب، أدركت الدولة السوفيتية أخيرًا الحاجة إلى اتباع سياسة لينة في المجال الديني، لكنها فشلت في هذه المهمة، باستخدام نهج إداري للسيطرة فقط.

في هذا الصدد، في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي، واجهت المجتمعات الدينية للأديان الإبراهيمية التقليدية في روسيا ليس فقط مهمة الإحياء العَقَدي، وإحياء العبادات؛ ولكن أيضًا متطلبات بناء علاقات بينها وبين الدولة في إطار جديد. في المرحلة الحالية، أُنشئ مجلس شؤون الأديان في روسيا، الذي أُسِّسَ في 23 ديسمبر 1998 في اجتماع لرؤساء وممثلي بطريركية موسكو ومجلس شورى المُفتين لروسيا والإدارة الدينية المركزية لمسلمي روسيا وبلدان رابطة الدول المستقلة الأوروبية، ومؤتمر المنظمات والجمعيات الدينية اليهودية في روسيا، والسانغا البوذية التقليدية في روسيا.

تفاعل وتقارب مواقف أتباع الديانات الإبراهيمية في التاريخ والحاضر

لا تتطلب المشكلات العالمية الحديثة- الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والبيئية، وغيرها- تعاونًا فعالًا فقط؛ فلا يمكن حلها دون مراعاة التجربة الفريدة لمختلف البلدان، وفهمها في إطار تقاليدها الدينية؛ لذلك، في هذه القضية المشتركة، من المستحيل عند القيام بالمساواة النظرية والعملية للاختلافات بين الشعوب المختلفة مع خبرتهم التاريخية، الوقوع في العالمية المفرطة، وهي سمة لبعض صور “التعددية الثقافية”. من المستحيل أيضًا القيام بذلك فقط من خلال الإشارة إلى التقارب الجيني للأديان الإبراهيمية بعضها مع بعض، مع أن هذا يعد البداية التاريخية المشتركة للإسلام والمسيحية، أما الشرق الأوسط، باعتباره مسقط رأس هذه الأديان، فله أهمية كبيرة- إن الإسلام والمسيحية متجذران بشكل متساوٍ في توجه الإنسان إلى الله، الذي يحدث بغض النظر عن الانتماء القومي، أو العرقي، أو الجغرافي. تُثرَى التقاليد الإسلامية من خلال مساهمة المجتمعات الإسلامية في مختلف بلدان العالم، ويستند التقارب بينها إلى القواسم المشتركة التي يكتسبها ممثلو هذه المجتمعات بالفعل في تجربتهم المتنوعة. وبالمثل، تنتصر القضية الإنسانية المشتركة للسلام عندما يسعى أعضاء المجتمعات المختلفة إلى التعاون على أساس تجربتهم المشتركة.

في تاريخ المسيحية والإسلام واليهودية، عُرفت كثير من العداوات والمواجهات العسكرية المؤلمة. أحداث مثل الفتوحات العربية والتركية، والحروب الصليبية، واضطهاد اليهود، تُظلم تاريخ التعايش بين الأديان الإبراهيمية الثلاث، وغالبًا ما تُذكَر في التاريخ الغربي. في الوقت نفسه، لم تؤد المواجهات بين الدولتين المسيحية والإسلامية على الساحة التاريخية دائمًا إلى حدوث مجازر. في المقابل، لم تكن الحروب بين الدول التي تهيمن عليها المسيحية والدول التي يهيمن عليها الإسلام تحدث فقط لأسباب دينية.

مفهوم الجهاد في الإسلام، الذي يُربَط أحيانًا بشكل خاطئ بفكرة الحرب الدينية التعصبية، طوّره العلماء المسلمون لكي يضم مجموعة واسعة من الأنشطة التي تهدف إلى ترسيخ الإيمان بالله، وتعزيز الجهود المبذولة للاقتراب من نهج الصالحين. يندرج تحتها الحرب الدفاعية، ومن الأمثلة على ذلك حروب المسلمين مع المشركين العرب في أثناء دعوة النبي محمد، وبعد تلك الفترة. مثال على الاستخدام الحق للدعوة إلى الحرب الدفاعية لأتباع المسيحية والإسلام هو ما قامت به الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، والإدارة الدينية المركزية لمسلمي روسيا خلال الحرب الوطنية العظمى؛ لذلك، على سبيل المثال، رئيس الإدارة الدينية الإسلامية المركزية، سماحة المفتي عبد الرحمن رسولوف، دعا المسلمين إلى الدفاع عن الوطن عدة مرات في الأيام الأولى من الحرب الوطنية العظمى، وبالتحديد في 18 يوليو (تموز)، و7 أغسطس (آب)، و2 سبتمبر (أيلول) 1941.[4]

حدثت ضجة كبيرة في ربيع عام 1942؛ ففي 15 مايو (أيار) 1942، عندما كانت الفيرماخت (القوات الألمانية) تتقدم باتجاه القوقاز، قال المفتي عبد الرحمن رسولوف (رئيس الإدارة الدينية المركزية لمسلمي روسيا): “اليوم، لا يوجد مؤمن واحد ليس له ابن، أو أخ، أو أب يحارب الألمان… نحن مسلمي الاتحاد السوفيتي نعرف جيدًا كلمات النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم التي معناها: […] حب الوطن والدفاع عنه شرط من شروط الإيمان”. خرج اجتماع المفتين في أوفا في يوم إلقاء هذا الخطاب بدعوة لجميع المسلمين المؤمنين مرة أخرى للدفاع عن الاتحاد السوفيتي من الغزاة النازيين، سواء في المعركة، أو في الدعم، وكان من الواجب أن يسهم المسلمون في النصر.[5]

وقعت أحداث مهمة في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والسياسة الدينية للدولة السوفيتية، كانت بداية استئناف التعاون بين سلطات الكرملين والكنيسة، في 4 سبتمبر 1943، حيث عقد ستالين- بصفته رئيس مجلس مفوضي الشعب في الاتحاد السوفيتي- اجتماعًا مع رؤساء الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، مطران موسكو سيرجي (ستراغورودسكي)، ومطران لينينغراد أليكسي (سيمانسكي)، ومطران كييف نيكولاي (ياروسشيفيتش). بعد ذلك، انعقد مجلس الأساقفة، الذي انتخب بطريرك موسكو وعموم روسيا، وشُكّلَ مجلس شؤون الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في إطار مجلس مفوضي الشعب في الاتحاد السوفيتي[6].

وإدراكًا منهم أن الدولة السوفيتية، من أجل الحفاظ على الروح المعنوية والولاء للشيوعيين، بدأت باتخاذ مواقف أكثر ليونة تجاه الدين، أعلن المفتون الجهاد ضد ألمانيا؛ أولًا: بدأ مفتي الإدارة الدينية لمسلمي آسيا الوسطى وكازاخستان في طشقند، ثم تبعه قادة مسلمون آخرون، حيث أصدروا دعوات مماثلة[7]، وكان هؤلاء هم رؤساء الإدارات الدينية التي أُنشئت في مايو (أيار) ويونيو (حزيران) 1944، كالإدارة الدينية لمسلمي بلاد ما وراء القوقاز (باكو، وأذربيجان)، والإدارة الدينية لمسلمي شمال القوقاز (بويناكسك، وداغستان)، حيث دعوا جميع مسلمي الاتحاد السوفيتي إلى الجهاد ضد النازيين[8].

أُضفي الطابع المقدس على الحرب، وهو ما يبرره الالتزام الديني بالدفاع عن الوطن ضد الغزاة. وجاء في خطاب مؤتمر المفتين: “في هذه الحرب الوطنية المقدسة ضد ألمانيا الفاشية وأتباعها، لإثبات أنكم على حق، أظهروا ولاءكم للوطن أمام العالم كله، ادعوا في الجوامع والمساجد لنصرة الجيش الأحمر”. نشر رجال دين آخرون هذه الكلمات في المجتمعات المسلمة في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي. المسلمون، مثل ممثلي الديانات الأخرى، سجلوا أنفسهم متطوعين، وشاركوا في الدعم. تحت قيادة رؤساء الإدارات الدينية للمسلمين، جُمعت التبرعات لتمويل شراء الدبابات، والأدوات، والملابس، والمواد الغذائية لتزويد الجبهة. خلال الحرب، أُنشئت 19 فرقة رماة من الجيش الأحمر، و20 فرقة فرسان، و15 لواء رماة. أخذت بعض هذه الوحدات فيما بعد لقب الحراس لمآثرهم. قاتل المسلمون أيضًا كجزء من التشكيلات العسكرية العادية. شارك في الحرب الوطنية العظمى نحو 180 ألف تركماني، و200 ألف طاجيكي و300 ألف قيرغيزي، و600 ألف أذربيجاني، ومئات الآلاف من التتار.

على الرغم من سياسة الإلحاد الصارمة للقيادة السوفيتية، تمكنت المؤسسات والمجتمعات الدينية في الاتحاد السوفيتي ليس فقط من الحفاظ على مبادئها وإيمانها؛ ولكن أيضًا الصمود أمام اختبار الولاء لبلدهم، الذي كان في حالة خطر ضد عدو مشترك. إن قرار رؤساء الكنائس والشخصيات الإسلامية، بالتعاون مع السلطات، ودعمهم بالإجماع للجيش الأحمر، هو مثال على سياسة المصالحة الدينية. لا يتعلق الأمر فقط بالمصالحة بين ممثلي الأديان المختلفة المتقاربة في دولة متعددة الجنسيات، بل يتعلق أيضًا بإيجاد حل من أجل الوصول مع سلطات الدولة إلى خريطة إنقاذ في ظل حالة الخطر المميت الذي يهدد جميع المواطنين، المتدينين أو غير المتدينين. لم يكن هذا الحل الوسط مقبولًا فحسب؛ بل كان ضروريًّا.

الجدير بالذكر أيضًا أن اليهودية، كإحدى الديانات الإبراهيمية المعترف بها، لها وضع خاص في التطور. بسبب اتجاه علمنة اليهود الأوروبيين، التي بدأت تبزغ منذ أمد طويل، إلا أنها ظهرت جليًّا في القرنين التاسع عشر والعشرين، لم تؤدِّ المؤسسات الدينية اليهودية دورًا كبيرًا مثل المؤسسات المسيحية والإسلامية. ومع ذلك، تفاوتت درجة العلمنة المذكورة، بالإضافة إلى ذلك، قبل الحرب الوطنية العظمى، مُنِعَ الإظهار العلني للمعتقدات الدينية. في هذا الصدد، يمكن القول إن كثيرًا من المؤسسات اليهودية العلمانية في الاتحاد السوفيتي كانت قادرة على أن تبرز فقط كمظهر من مظاهر التضامن اليهودي على أسس دينية، مع أن المشاعر الملبية لهذا الأمر ظلت مخفية، أو ظهرت بشكل فردي بحت. تعد أنشطة اللجنة اليهودية المناهضة للفاشية في الاتحاد السوفيتي في أثناء الحرب، على الرغم من الطبيعة العلمانية لهذه المؤسسة، مثالًا للتضامن المدني، الذي يتطلب الاحترام بين المتدينين من ذوي النيات الحسنة.

لم يؤدِّ انهيار الاتحاد السوفيتي، على الرغم من كل عيوب هذه الدولة المشيدة أيديولوجيًّا، إلى إحياء النشاط الديني الحر، ودمقرطة المؤسسات العامة في روسيا ورابطة الدول المستقلة فحسب؛ بل أدى أيضًا إلى نشوب صراعات كثيرة في الدول التي كانت ضمن الاتحاد السوفيتي. لوحظ نمو كره الأجانب، والعداء بين الأعراق في كل مكان تقريبًا. في هذا الصدد، في المرحلة الحالية، تتمثل إحدى أهم المهام لكل من مجلس شؤون الأديان وقيادة الطوائف الدينية الرئيسة في البلاد في مواجهة ظهور الخلافات الدينية بين أتباعهم ومكافحة التطرف الذي يتطفل على الشعارات الدينية.

في رسالة له في عام 2012، أشار رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، البطريرك كيريل، إلى أن التطرف الذي يحدث اليوم بين بعض الطوائف الدينية هو الخطر الأكبر على العالم كله، وحث البطريرك الجميع على توخي الحذر عندما يصر سياسي ما على وصف موقف وطني محدد بالتطرف. كما جاء في هذا الخطاب أيضًا أن ممثلي الديانات الأخرى يحظون دائمًا بالاحترام في روسيا، وهذا يجب أن يستمر في المستقبل. قال البطريرك إنه لا توجد حالات تدل على تدنيس أرثوذكس معابد الأديان الأخرى؛ لأنهم يتعاملون دائمًا باحترام كبير مع جميع الديانات الأخرى ومعتنقيها. أولى البطريرك اهتمامًا خاصًا لحقيقة أنه من الضروري في الوقت الحاضر الحفاظ على تقليد التعايش السلمي، والاحترام المتبادل بكل قوة، وكذلك ضمان عدم انتشار الآراء الأصولية والراديكالية في العلاقات بين الأديان، وعدم السماح بهيمنتها في نهاية المطاف. بشكل عام، تُظهر هذه الكلمات ممثلي الأرثوذكسية في صورة إيجابية حصرية، ولا تحتوي على تحليل تاريخي عميق، لكن هذا الخطاب يحتوي على دعوة عادلة للتعاون بين الأديان، ومكافحة التطرف.

المواجهات الدموية بين المسلمين واليهود والمسيحيين في الشرق الأوسط، التي نادرًا ما تهدأ، لا تجعلنا في روسيا نبقى غير مبالين بها؛ فهي ليست فقط أحد أهم العوامل المساهمة في الانقسام بين ممثلي هذه الديانات الإبراهيمية وبقية العالم، بما في ذلك روسيا، ولكنها تتطلب أيضًا ردة فعل مبررة ومجدية من القيادات الدينية، والمؤسسات الدينية والمدنية.

بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، وصعود التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق عام 2015، أصدر مجلس شؤون الأديان في روسيا (ICR) بيانًا في مجلس الدوما بموسكو. جاء في هذا البيان تقييم للأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وتغطيتها في وسائل الإعلام الروسية. كما دعا البيان وسائل الإعلام إلى تحمل المسؤولية عند نشر المعلومات المتعلقة بأنشطة المنظمات الإرهابية الدولية المحظورة، التي تؤثر أسماؤها في مشاعر المؤمنين المسلمين، وتشوه مفاهيم “الإسلام” و”الدولة”.

أُدرج النظر في هذه المسألة ضمن جدول أعمال الاجتماع الأول لمجلس شؤون الأديان عام 2015، بمبادرة من كاتب هذه السطور. في وقت سابق، أكدنا أيضًا حدة هذه المشكلة وموضوعيتها بشكل خاص في لجنة التعاون الدولي التابعة لمجلس التعاون مع المؤسسات الدينية، برئاسة رئيس الاتحاد الروسي، التي اجتمعت في 19 مارس (آذار) 2015 برئاسة مدير قسم العلاقات الخارجية للكنيسة، مطران فولوكولامسك، إيلاريون. في الوقت نفسه، أعربنا عن أملنا في أن يشارك مجلس شؤون الأديان قلق الإدارة الدينية لمسلمي روسيا بشأن القمع الذي يحدث في الشرق الأوسط، ليس فقط للمسلمين؛ ولكن أيضًا لممثلي الديانات الأخرى، ويولي المجلس اهتمامًا لدعوة الإدارة الدينية لوسائل الإعلام الروسية لاستبدال الأسماء الكاملة والمختصرة للجماعات الإرهابية، وبالتحديد “الدولة الإسلامية في العراق والشام” الموجودة في الوسط المعلوماتي الروسي، بالاختصار العربي الأصلي (داعش)- بدون كتابتها بشكل كامل، أو ترجمتها إلى الروسية.

في رأينا، من أجل ضمان الأمن المعلوماتي في الدولة، وحماية القيم التقليدية للمواطنين، فإنه من الضرورة: حذف الأسماء الذاتية للمنظمات المتطرفة التي تنشرها وسائل الإعلام في الوسط المعلوماتي. هذه الأسماء تشوه سمعة الإسلام ومفهوم الدولة. بالإضافة إلى ذلك، فإن أنشطة هذه المنظمات في روسيا محظورة بقرار من المحكمة العليا للاتحاد الروسي. كما أن استخدام الاختصارات المشتقة من هذه الأسماء، مثل “داعش”، و”دواعش”، وغيرهما، التي يؤدي كثرة استعمالها على الإنترنت إلى حدوث “انفجار اختصاراتي” حقيقي، يعد أيضًا هادمًا، بل يجب إيقافه.

والجدير بالذكر أن الموقف المتداعي للإدارة الدينية لمسلمي الاتحاد الروسي قد لقي استحسانًا من قيادة مجلس شؤون الأديان في روسيا، التي اعتبرت أنه من المهم جدًّا الإدلاء ببيان عن هذا الأمر في ظل القلق المتزايد بشأن الأحداث في الشرق الأوسط، وانعكاسها على الوسط الإعلامي العام.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه المواقف من كل من القادة الدينيين والسياسيين، يمكن أن تقابل في كثير من الأحيان بالتشكيك، وهذا ليس مفاجئًا بالنظر إلى الصعوبات والأزمات التي واجهتها الشعوب في جميع أنحاء العالم في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، من المهم أن نتذكر ونذكر أنه مع أن الناس لا يستطيعون القيام بالمعجزات، فإنهم يمكنهم العمل معًا من أجل إنقاذ النفس البشرية، التي تعد من منظور كثير من الأديان هبة من الله، وتعزيز التعاون بين الأديان، والتعاون الدولي هو خطوة أساسية لتحقيق ذلك. هذا الأمر ضروري في ضوء حقيقة أن الديماغوجية الخبيثة، القائمة على تفوق وهيمنة عرق أو دين على آخر، يمكن أن تشعل حربًا جديدة في الشرق الأوسط، فقد تسببت بالفعل في أضرار جسيمة من الصعب إصلاحها.

تقييم الاتفاقية “الإبراهيمية” ودورها في عملية السلام

الصراع العربي الإسرائيلي، الذي يُعد “طويلًا وبطيئًا”، ولكنه يؤدي- مرارًا وتكرارًا- إلى اشتباكات “ساخنة” بين أتباع الإسلام واليهودية في قلب أديان الشرق الأوسط، هو أخطر قضية في الشرق الأوسط تهدد مجال تعزيز المصالحة الدينية. إن الوضع الذي نشأ بسبب هذا الصراع المتمثل في عدم حصول الفلسطينيين على حقوقهم، ونشوء سياسات كراهية الأجانب والعنصرية في الدوائر المتطرفة داخل القيادة الإسرائيلية، يهدد بدفن الآمال في هذه المصالحة لعقود طويلة. لذلك، في عصرنا، يجب اعتبار كل خطوة من الخطوات الصغيرة الهادفة إلى إقامة الحوار بين الأديان وبين الدول، ناجحة. في التاريخ الروسي، تسبب التحريض على النزاعات بين الأديان في إحداث جرح خطير، وبالتحديد في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي، عندما اختلطت النزاعات السياسية والدينية في بعض الأحيان، وأدت إلى خسائر كبيرة في كلا الجانبين. مع أخذ ذلك في الحسبان، تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من وجود عدد من المشكلات الحرجة والمتعلقة بوضع المسلمين في روسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق كـ (الفقر، وحالات التمييز والعنصرية، والتطور غير الكافي للبنية التحتية الدينية، والدعاية للتطرف) يبقى الوضع الديني والمدني مستقرًا عمومًا، ويُسر جميع سكان روسيا والدول المجاورة، وخاصة أتباع المسيحية والإسلام. أصبح من الواضح أن شعار “صداقة الشعوب” وحده لا يمكن أن يحل التناقضات المعقدة والقديمة التي يواجهها أتباع هذه الديانات الشقيقة؛ لأن هذا الشعار السوفيتي وخياراته الحديثة من خلال روح الاستقامة السياسية لا يأخذ في الحسبان التجربة الحية لمجتمعات الأديان الإبراهيمية. “السرد المُسهَب” عن الأديان الإبراهيمية، المرتبط بمفهوم “العائلة الإبراهيمية” البابوي (البطريركي)، الذي ينعكس- انعكاسًا مختلفًا- في الإسلام والمسيحية والدراسات الدينية العلمانية، له شروطه وعيوبه الخاصة. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يعتمد- بشكل مُبرَر- على قوة هذا السرد المؤثرة في دعوته إلى السلام والتقارب كإحدى وسائل حل التناقضات “الحضارية” في الشرق الأوسط.

أحد الأمثلة الدالة على قوة هذه الدعوة إلى الوحدة، هو الاجتماع الذي عُقد في أبوظبي عام 2019 بين شيخ الأزهر الشريف الإمام الأكبر أحمد الطيب، والبابا فرنسيس، رئيس الكاثوليك في العالم. نتج عن ذلك الاجتماع التوقيع على “وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام والتعايش”، وهي بيان برنامجي يهدف إلى تعزيز قيم الحرية والتسامح والمساواة، وتحقيق الرفاهية البشرية في ظل عالم مملوء بالكوارث والأزمات.

من جانب القيادة السياسية لدول الشرق الأوسط، نرى أيضًا جهودًا مبذولة لإحلال السلام والوئام، وإن كان ذلك تدريجيًّا. خطوة مهمة في هذا المسار تكمن في توقيع معاهدة السلام الإماراتية-الإسرائيلية (تم التوقيع عليها في 15 سبتمبر/أيلول 2020). ونتيجة لهذه الاتفاقية، أصبحت الإمارات العربية المتحدة ثالث دولة عربية بعد مصر (1979)، والأردن (1994) تقيم علاقات رسمية مع دولة إسرائيل، وأول دولة خليجية تفعل ذلك. ومع ذلك، وافقت إسرائيل على وقف خطط استيطان جزء من الضفة الغربية، التي تقع بحكم الأمر الواقع تحت السيطرة الإسرائيلية منذ عام 1967.

بعد توقيع معاهدة السلام، صرح رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، مائير بن شبات، فقال:

“ليس بالمصادفة أن يسمى اتفاقنا بـ (اتفاق إبراهيم) جدنا؛ فقد ثار إبراهيم على المفاهيم القديمة التي كانت موجودة في ذلك الوقت. لقد آمن بوجود إله واحد أصبح مصدر بركة لنا جميعًا. نجد الإلهام في سلفنا المشترك، الذي أوصانا بنهج طريق التجديد والشجاعة والأمل، طريق الأخوة، طريق الازدهار، طريق السلام”.

كما أشار بن شبات إلى أن هناك كثيرًا من الأشياء المشتركة بين إسرائيل والدول الإسلامية، وهذه ليست فقط التهديدات المتبادلة: “ما يُوَحِدُنا هو الشجاعة التي نواجه بها هذه التهديدات. هذه ميزة روح مواطنينا. نحن نعرف كيف ننظر إلى المستقبل، ولا نخاف من المهام الصعبة. نحن نسعى جاهدين إلى التجديد، نريد أن ننجح، نريد تغيير الواقع”. على الرغم من الإجراءات المتناقضة للقيادة الإسرائيلية والنشطاء الراديكاليين في هذا العام، حيث كان بعضها مستفزًا للمسلمين، وسبب ردة فعل معاكسة وقانونية، لا يسعنا إلا أن نرحب بإقامة علاقات عربية إسرائيلية (أو في إطار أوسع: يهودية- إسلامية) في هذا الشكل. إنه لمن المفرح أن نرى أنه من أجل هذا الغرض تُستخدَم ليس فقط العادات الدبلوماسية الجافة، ولكن أيضًا المناشدات للعودة إلى الوحدة التاريخية لأدياننا، على سبيل المثال، مجتمع المؤمنين، الذي يأخذ بدايته من نسل إبراهيم، وأن تسود هذه الإرادة بعد نهاية الأحداث الحالية الدامية على أرض فلسطين.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع