أخذت رواية “المعلم ومارغريتا” استحقاقها في ستينيات القرن الماضي، ليس فقط على مستوى النشر والتوزيع؛ ولكن على مستوى النقد والتحليل أيضًا، فقد نالت شهرة كبيرة بسبب الجدل الدائر بين النقاد؛ فهي واحدة من أعمق روايات القرن العشرين وأذكاها، وقد تأثر المشهد الأدبي العالمي بها تأثرًا كبيرًا.
ومع أن كثيرًا من القراء لا يفضلون هذا النوع من المتاهة الكتابية، فإنهم يقدرون عمقها، وفلسفتها، وتميزها.
يرى بعض النقاد أن بولغاكوف أراد بهذه الرواية توبيخ الملحدين وإهانتهم، وليس فقط كشف عورات المجتمع السوفيتي، خاصة فساد المؤسسات الأدبية إبان الفترة التي دارت فيها أحداثها، فقد كان هدفه الأساسي الرد على الشعراء والكتّاب الذين يُعتقد أنهم ينشرون الدعاية الإلحادية في الاتحاد السوفيتي، وينكرون وجود المسيح كشخصية تاريخية؛ لذلك تبدأ الرواية بمشهد حواري بين ملحدَين يمثل أحدهما كاتبًا والآخر شاعرًا. ضم الحوار في مضمونه تهكمًا على من ينكرون الإله ويعترفون بوجود الشيطان، فما دام هناك شيطان؛ إذن هناك إله، بل إن الشيطان نفسه يعترف بوجود الله.
يرجع بعضهم استخدام بولغاكوف لغة الكاتب الإغريقى إيسوب (620-564 ق. م)، التي تعتمد على أسلوب الخيال، ودمج الواقع بالخرافات والأساطير، وذلك لانتقاد المجتمع السوفيتي وسياسته، والإشارة إلى قضايا الفساد، والشرطة السرية، حتى ينجو من الإدانة على نحو مباشر، ويوفر الحماية لنفسه دون المخاطرة بسلامته، فيصور الاختفاءات العشوائية للجيران والمعارف، ويرمز إلى الشرطة السرية، وعمل الاستخبارات في موسكو بالشرطة السرية في القدس، والوشاية بيسوع.
أنصف بعض النقاد بولغاكوف في نقده حياة المجتمع السوفيتي؛ للتناقض الكبير بين البذخ الفاحش والفقر المدقع، اللذين تاهت بينهما الاشتراكية التي دعت إليها الثورة، فتذكر بعض المصادر أن الرواية مستوحاة من حدث معين حضره المؤلف في أبريل (نيسان) 1935 (مع أن البدء بكتابة الرواية سبق ذلك التاريخ) حينما دُعي بولغاكوف بصفته مديرًا بمسرح موسكو لحضور مهرجان الربيع في سباسو هاوس Spaso House؛ مقر إقامة السفير الأمريكي لدى الاتحاد السوفيتي، واستضافه السفير ويليام بوليت، وفى خضم الكساد الأعظم والقمع الستاليني، احتُفِلَ بهذه المناسبة ببذخ مبالغ فيه.
مع أن الرواية تجمع بين ازدواجيّة الحسّ الفكاهي والخيال الغرائبي، فإن الدوائر العلمية والأدبية تعترف بأهميتها، فتعدّها الموسوعة البريطانية تحفة فنية أدبية، تجمع بين الضدين: البراعة والتفاهة، وفي الوقت نفسه تمثل عملًا فلسفيًّا ثاقبًا يتطرق إلى المشكلات العميقة والأبدية للخير والشر. وقد أشاد بها كثير من الأدباء والنقاد الأمريكيين، ويرون أنها جديرة بأن تتبوأ مكانتها الصحيحة في قائمة الأدب العالمي، فهي ملهمة لكثير من أدباء العالم.
في تحليل ومناقشة للرواية، وجد النقاد أن بولغاكوف صور حالة ثنائية للمجتمع الروسي بوجود العصبة الفاسدة التي تمثل أعوان السلطة ممثلة في رئيس الرابطة الأدبية السيد برليوز، والشاعر إيفان الذي يكتب أشعارًا رديئة في مدح الحزب، ومدير المسرح المالي، والمدير الإداري، والمدير الفني، ومدير لجنة السكن، وغيرهم، فجميعهم يستغلون مناصبهم في التربح، وإقامة علاقات نسوية، فجاء الشيطان لينتقم منهم.
بالإضافة إلى عصبة الضعفاء في المجتمع الروسي، الممثلة في المجتمع الاشتراكي الزائف الذي انبهر بالماركات الرأسمالية للأزياء والعطور؛ لذلك صور سقوط هذه القيم في عرض السحر الأسود الذي قدم على المسرح حينما تدافعت النساء للحصول على العطور والأزياء، وتدافع الجميع للحصول على الروبلات التي أمطرت عليهم من قبة المسرح. وبعد انتهاء العرض، اختفت الملابس، وخرج الجميع عراة، فعكست تلك المشاهد الأكاذيب التي زعمت أن الاشتراكية غيّرت من طبائع البشر.
تعد مارغريتا نفسها مثالًا على ذلك، فهي ضعيفة أمام حبها لزوجها الذي منحته لقب المعلم، فوافقت على بيع نفسها للشيطان لتحقيق حلمها بعودة حبيبها، وبالانتقام ممن أساءوا إليه.
لذلك رأى بولغاكوف أن الثورة البلشفية تبنت أقصى درجات الشر السياسي لكي تحقق الخير؛ وذلك بقمع الحريات، ومصادرة الأموال من خلال الوشاية، والتزلف إلى السلطة، والنزعة الاستخباراتية، ومن وظفوا أقلامهم لتبرير أفعال السلطة من الكتّاب، ولم يجد أحدًا يقف بقلمه أمام الظلم، وقد أسقط ذلك تاريخيًّا بما حدث للمسيح- حسب الموروث الديني- عندما خان يهوذا المسيح، وتخاذل عن الدفاع عنه أمام الرومان.
لكن بولغاكوف أراد توجيه القارئ إلى ثنائية أخرى، فرغم وجود ما اعترى المجتمعات من تشوه نفسي واجتماعي، فإنه لا يمكن تحميل العبء على وجود الشيطان؛ فالمسؤولية عن الشر مشتركة.
هناك كثير من الأبعاد الفلسفية في قراءة رواية “المعلم ومارغريتا”، لا سيما صراع الخير والشر، والقوة والضعف، فهناك تناقض في الموقف الأخلاقي للشيطان، ورأى بولغاكوف أن الشر متأصل في الإنسان؛ لذلك أراد القول إن الشر يكمن فيه الخير، والعكس.
ولتحقيق أقصى درجات الخير نحتاج إلى بعض الشر. وطرح بولغاكوف على القارئ سؤالًا، وهو: هل سيكون هناك خير إذا انتهى الشر؟ أم أن الخير لا يمكن أن يوجد دون وجود الشر نفسه؟ ولعله أراد إهانة النفوس البشرية بأن لدى الشيطان قدرًا من الخير مقارنة ببعض البشر.
فالشيطان هو مَن لم شمل الحبيبين، وأعاد المخطوطة إلى المعلم، وانتقم من النخبة الفاسدة رغم كل الخراب والدمار الذي أحدثه؛ لذلك يرى المجتمع الأدبي أن مشهد اجتماع الشيطان والمعلم ومارغريتا، وعبارته الشهيرة “المخطوطات لا تحترق”، هي لحظة الإجلال في الرواية. وتأتي هذه الجملة لتربط بين الكاتب والرواية؛ لأن رواية المعلم ورواية بولغاكوف لاقت المصير نفسه، فضلًا عن رؤيته الفلسفية عن تأثير السحر والحب ونفوذهما على الشخصيات، فالحب يرمز إلى الخلاص والنقاء، في حين يشير السحر إلى الفوضى، لكنهما في النهاية يكمل كل منهما الآخر.
تتشابك فكرة الرواية مع نصوص أدبية سابقة في التاريخ الأدبي؛ فقد تأثر بولغاكوف برائعة “فاوست”، للأديب الألماني الكبير غوته Goethe، ويظهر ذلك من الصفحات الأولى بالمقدمة، واقتباس بولغاكوف السطور من فاوست:
كما تأثر بولغاكوف بموضوعات “فاوست”، كالميثاق بين فاوست والشيطان، استعار أيضًا شخصية مارغريتا من فاوست، وشخصية الشيطان محرك الأحداث، وحضور السحر الأسود والساحرات، والجولة التي يقوم بها البطل بين مواطن السحر الأسود، وإظهار جانب الخير في الشيطان، فضلًا عن العرض الساخر الذي يجمع بين الجد والهزل، والرعب والمزاح والواقع والخيال، ومعالجة الظواهر الاجتماعية، والأمور السياسية.
يرى بعض النقاد أن هناك خطًا واصلًا بين “المعلم ومارغريتا” والميراث الأدبي للروائي الروسي غوغول، لا سيما في رائعته “الأنفس الميتة”، وهذا شيء طبيعي؛ لأن بولغاكوف كان يعدّ غوغول أستاذه.
لا يتشابك موضوع الرواية فقط مع روايات أخرى؛ بل ظروف المؤلف مع آخرين؛ فالمعلم أو المؤلف أحرق روايته مثل كثير من الروائيين والكتاب الروس، فسبقه بوشكين بإحراق قصيدة “الأغنية العاشرة”، وأحرق دوستوفيسكي المخطوط الأول لرواية “الجريمة والعقاب”، وكذلك “الأبله” و”الزواج الأبدي”، وأحرق باسترناك رواية “ثلاثة أسماء”.
جاء اختار بولغاكوف للشخصيات الروائية لرمزية معينة؛ منها ما له وجود حقيقي في العالم الواقعي، ومنها ما هو أسطوري؛ فاسم فولاند Woland، المتصدر للمشهد، يعني في اللغة الألمانية القديمة “الشيطان”، أما حاشيته فتمثل رموزًا ميثولوجية دينية يهودية؛ في رمزية وكأن اليهود عاقبوا مَن وشى بالمسيح بعد صلبه.
فعزازيلو Azazello ذُكر في سفر اللاوين، ويرمز إلى عزرائيل، أو ملك الموت.
وبيهموث Behemoth (القط الضخم) يرجع إلى مخلوق أسطوري، ورد ذكره في سفر أيوب، ويرمز إلى قوى شريرة.
أما كوروفييف Korovyev، الذي وصفه بولغاكوف بالمشعوذ والمترجم، فهو الوحيد في حاشية فولاند الذي يحمل اسمًا روسيًّا، وقد تعنى: (ملحد)، أو (غير متدين).
أما مصاصة الدماء هيلا Hella فتمثل ليليث في الثقافة اليهودية، التي تمثل روحًا شيطانية ليلية مرتبطة بالرياح والعواصف.
لا يظهر تفوق بولغاكوف في اختياره هذه الحاشية ورمزيتها فحسب؛ بل في دورها أيضًا؛ فالشيطان وحاشيته سيقومون بأدوار غير معتادة؛ إذ سينقذون المعلم ومارغريتا، وسيقتصون له وللمجتمع من الفاسدين في المؤسسات الإدارية، الذين تفوقوا على الشيطان في شرهم ومكرهم، فاستفزوه للاقتصاص منهم. اختار بولغاكوف أيضًا أسماء هؤلاء الفاسدين برمزية بارعة لأسماء قوى شريرة من سحر، وشر، وإجرام.
كما يرى بعض النقاد أن الرواية تستحق عنوانًا آخر، وهو فولاند، أو إيفان؛ لأنهما المحركان الرئيسان في القصة، وخاصة فولاند، فالمعلم ومارغريتا لم يكن لهما التأثير نفسه في الحبكة ، كما أن ظهور مارغريتا جاء متأخرًا في الرواية؛ فلا يفترض أن تحمل اسمها.
ولكن نظرًا إلى دلالة اسم فولاند، ورمزيته إلى الشيطان، ربما آثر بولغاكوف البعد عن التأويل السياسي بأنه يقصد وصف شخصية سياسية معينة بالشيطان. كما أن بولغاكوف كان يسرد حياته الشخصية في الرواية، ولعله أراد منح زوجته- المتمثلة في مارغريتا- أهمية كبيرة؛ لأنها ساندته ودعمته.
هناك أيضًا تساؤلات كثيرة عن اختيار بولغاكوف قوى الشر أو الشيطان لينتقم، فلماذا اختار أن يؤدي الشخصية المحورية شيطان وليس ملاكًا، خاصة أن الملاك يمكن أن يحقق كل شيء دون خسائر وخطايا؟
بسبب الترجمات المتعددة التي أدت إلى اجتزاء بعض الأجزاء وحذفها، ولعل ذلك يرجع إلى الرقابة التي ترى أن بعض الأمور لا تتناسب مع ثقافة القارئ، وخاصة في الدول العربية، نتج تضارب في ترتيب أحداث الرواية ونهايتها، ووجد بعض المترجمين صعوبة في ترجمتها عن النص الأصلي، معللين ذلك باستخدام بولغاكوف لغتين؛ الأولى: الروسية القديمة للسرد الروائي للرواية الأقدم التي تقع أحداثها في القدس، أما الثانية فهي الروسية للرواية والأحداث التي تقع في موسكو.
ومثلما واجهت الرواية نقدًا سياسيًّا، ومنع النظام السوفيتي نشرها؛ لما جاء فيها من نقد بولغاكوف التجربة الماركسية، والنظام الاجتماعي السوفيتي، لم تسلم أيضًا من النقد الديني بقسوة من رجال الدين، ولاقت هجومًا لاذعًا من الكنيسة، واتهامات لبولغاكوف بالترويج للشيطان.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.