تُعدّ مذابح الأرمن، التي وقعت خلال الفترة من 1915 إلى 1923 على يد الإمبراطورية العثمانية، من أكثر الفصول مأساوية في التاريخ الحديث، حيث راح ضحيتها ما يُقدَّر بنحو 1.5 مليون أرميني في عمليات قتل جماعي، وتهجير قسري. وعلى الرغم من الإجماع الأكاديمي والتاريخي الواسع على تصنيف هذه الأحداث على أنها إبادة جماعية، فقد اتسمت سياسة إسرائيل تجاه هذه القضية بتردد طويل الأمد في الاعتراف الرسمي بها على أنها إبادة جماعية، قبل أن تتغير مواقفها مؤخرًا. يثير هذا التحول تساؤلات عن الأسباب التي أدت إلى تعطيل الاعتراف عقودًا، ودوافع الاعتراف الآن، والدلالات والانعكاسات الجيوسياسية لهذا التغيير.
لعقود، كانت العلاقات الإستراتيجية بين إسرائيل وتركيا عاملًا حاسمًا في تعطيل الاعتراف بمذابح الأرمن على أنها إبادة جماعية. منذ تأسيس إسرائيل عام 1948، شكلت تركيا، بوصفها دولة ذات أغلبية مسلمة وغير عربية، حليفًا إستراتيجيًّا نادرًا في منطقة الشرق الأوسط المعادية إلى حد كبير. هذه العلاقة كانت مبنية على مصالح مشتركة، بما في ذلك التعاون العسكري والاقتصادي، والتصدي للنفوذ الإيراني والعربي. وبسبب رفض تركيا المتواصل الاعتراف بالإبادة الأرمينية، واعتبارها هذا الاعتراف إهانة للهوية التركية، تجنبت إسرائيل اتخاذ موقف قد يُغضب أنقرة ويعرض هذه العلاقة للخطر.
أحد الأسباب الرئيسة الأخرى هو رغبة إسرائيل في الحفاظ على الهولوكوست (المحرقة اليهودية) بوصفها رمزًا فريدًا للمعاناة اليهودية، مما يعزز الرواية الصهيونية التي تقدم الشعب اليهودي على أنه ضحية استثنائية للإبادة الجماعية. الاعتراف بمذابح الأرمن بوصفها إبادة جماعية قد يُضعف هذا الاحتكار الرمزي، مما يقلل من التأثير العاطفي والسياسي للهولوكوست على المستوى الدولي. بعبارة أخرى، كان هناك تخوف من أن يؤدي الاعتراف بالإبادة الأرمينية إلى “تسطيح” تجربة الهولوكوست، أو مقارنتها بمآسٍ أخرى.
على الصعيد الداخلي، واجهت إسرائيل ضغوطًا من بعض الجماعات اليهودية، مثل رابطة مكافحة التشهير (ADL)، التي كانت مترددة في دعم الاعتراف بالإبادة الأرمينية خوفًا من تأثير ذلك في العلاقات مع تركيا. كما أن السياسة الإسرائيلية الرسمية، التي غالبًا ما تخضع لاعتبارات دبلوماسية، تجنبت اتخاذ موقف واضح للحفاظ على التوازن في العلاقات الدولية.
في السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات بين إسرائيل وتركيا تدهورًا كبيرًا، خاصة في ظل حكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي تبنى مواقف مناهضة لإسرائيل، لا سيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. هذا التدهور قلّل الحاجة إلى استرضاء تركيا؛ مما جعل الاعتراف بالإبادة الأرمينية خيارًا سياسيًّا أقل كلفة. على سبيل المثال، دعم أردوغان القوي للفلسطينيين، وانتقاده الحاد لسياسات إسرائيل في غزة، جعل الحفاظ على العلاقات مع تركيا أقل أولوية لإسرائيل.
شهدت السنوات الأخيرة زيادة في الاعتراف الدولي بالإبادة الأرمينية، حيث أقرت دول مثل الولايات المتحدة (2021) وألمانيا (2016) وفرنسا رسميًّا بأن مذابح الأرمن كانت إبادة جماعية. هذا الزخم الدولي وضع إسرائيل في موقف حرج، حيث بدا رفضها الاعتراف متعارضًا مع القيم الأخلاقية التي تدعي الدفاع عنها، خاصة في ضوء تاريخها مع الهولوكوست. الاعتراف الإسرائيلي قد يكون محاولة لمواءمة موقفها مع التوجهات الدولية. داخل إسرائيل، كانت هناك أصوات تدعو منذ سنوات إلى الاعتراف بالإبادة الأرمينية، مثل الرئيس الإسرائيلي السابق ريفلين، الذي أكد الواجب الأخلاقي للاعتراف بمعاناة الشعوب الأخرى. هذه الأصوات اكتسبت زخمًا مع تزايد الوعي العام، والضغط من المجتمع المدني، مما دفع إسرائيل إلى إعادة تقييم موقفها.
الاعتراف بالإبادة الأرمينية يعكس تحولًا في السياسة الخارجية الإسرائيلية، حيث تسعى إسرائيل إلى تعزيز علاقاتها مع أرمينيا والدول الأخرى التي تدعم الاعتراف بالإبادة، مثل اليونان وقبرص، في مواجهة النفوذ التركي المتزايد في المنطقة. هذا التحول قد يكون جزءًا من إستراتيجية أوسع لمواجهة تركيا، خاصة في ضوء دعم أنقرة لجماعات مثل حماس، ومواقفها العدائية تجاه إسرائيل.
من المتوقع أن يؤدي الاعتراف الإسرائيلي إلى مزيد من التوتر مع تركيا، التي ترفض بشدة تصنيف مذابح الأرمن على أنها إبادة جماعية، وتراه إهانة لتاريخها. قد تستغل تركيا هذا الاعتراف لتصعيد خطابها ضد إسرائيل، وربما تعزز دعمها للفلسطينيين كورقة ضغط. ومع ذلك، وبسبب تدهور العلاقات بالفعل، قد تكون التداعيات محدودة نسبيًّا. ومن الناحية الرمزية، يمكن أن يساعد الاعتراف على تحسين صورة إسرائيل دوليًّا، خاصة في ظل الانتقادات الموجهة إليها بسبب سياساتها في الأراضي الفلسطينية. من خلال الاعتراف بالإبادة الأرمينية، قد تسعى إسرائيل إلى تقديم نفسها على أنها دولة تدافع عن حقوق الإنسان، والعدالة التاريخية، مما يعزز موقفها في المحافل الدولية.
الاعتراف قد يفتح الباب أمام تعزيز العلاقات بين إسرائيل وأرمينيا، التي كانت معقدة بسبب المواقف السياسية والتاريخية. ومع ذلك، فإن اعتراف أرمينيا بالدولة الفلسطينية في يونيو (حزيران) 2024 قد يعقد هذه العلاقة، حيث استدعت إسرائيل السفير الأرميني لتوبيخه، وهذا يشير إلى أن العلاقات بين الطرفين ستبقى محكومة بحسابات جيوسياسية معقدة.
إن قرار إسرائيل الاعتراف بمذابح الأرمن على أنها إبادة جماعية، بعد عقود من التردد، يعكس تحولات عميقة في السياسة الخارجية الإسرائيلية، مدفوعة بتدهور العلاقات مع تركيا، والضغوط الدولية، والحاجة إلى تعزيز الصورة الأخلاقية. هذا الاعتراف يحمل دلالات رمزية وسياسية، حيث يعزز العلاقات مع أرمينيا وبعض الدول الأوروبية، لكنه قد يزيد التوتر مع تركيا. في النهاية، يظل هذا القرار مثالًا واضحًا على كيفية تشابك الأخلاقيات والجيوسياسية في اتخاذ القرارات السياسية؛ مما يعكس تعقيدات العلاقات الدولية في منطقة الشرق الأوسط.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير