تتناول رواية “الحرس الأبيض” فترة تاريخية مركبة وبالغة التعقيد. في عام 1917 تندلع الثورة البلشفية في روسيا، ويُقبَض على الأسرة الحاكمة، ويُعدَم أفرادها جميعًا. يحدث هذا إبان اشتراك روسيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى، ويشجع البلاشفة تمرُّد الجنود ليعودوا من الحرب ويعلنوا العصيان.
تتطور الأحداث حتى انسحاب روسيا من الحرب العالمية الأولى وبدْء الحرب الأهلية بين قوات الحرس الأبيض والبلاشفة. في الفترة نفسها تندلع حركة استقلال شعبية في أوكرانيا لتنفصل عن روسيا القيصرية، بالإضافة إلى وجود قوات ألمانية في أوكرانيا من المفترض أنها تُناصِر قوات الحرس الأبيض الموالية لروسيا القيصرية، في حين يساند البلاشفة حركات تمرد الفلاحين، وتأتي أنباء عن اقتراب جيش بتليورا، أحد قادة حركة الاستقلال الأوكرانية، من المدينة لإحكام قبضته عليها. نحن أمام عدة جيوش تتصارع على أرض أوكرانيا في ظروف تاريخية بالغة التعقيد، وتتبدل الولاءات بسرعة شديدة وسط إطار من الفوضى المفزعة، ونقص المعلومات الكامل. هذه بعض ملامح الفترة الفارقة.
كتب بولغاكوف روايته هذه في الفترة من عام 1923 إلى عام 1924، ونُشِر أول أجزائها في عام 1925 في مجلة “روسيا”، ونُشِرت كاملة لأول مرة في فرنسا في الفترة من عام 1927 إلى عام 1929. بدأ الكاتب إذن بكتابة روايته بعد اندلاع الأحداث بخمسة أعوام فقط، ومع ذلك استطاع كتابة عمل إبداعي فذ، أعدُّه شخصيًّا من علامات الأدب الروسي في النصف الأول من القرن العشرين، وتعود أهميته إلى شكله ومضمونه على السواء، حيث أبدع بولغاكوف في تفهم شخصياته ومصائرها، بل مصير وطنه كله، وقدّم تحفته الأدبية في شكل أدبي ينضح بالجدة، والحيوية، والابتكار.
وُلد ميخائيل بولغاكوف عام 1891، ويعد من أبرز أدباء روسيا في القرن العشرين. بدأ دراسته في كلية الطب بجامعة كييف، وتطوع للذهاب إلى الجبهة في الحرب العالمية الأولى ليعمل طبيبًا، وعاد من الجبهة لينهي دراسته، ثم استُدعي من موسكو، وكلفوه بالعمل في إحدى القرى النائية بمقاطعة سمولينسك. أسفرت هذه التجربة عن صدور كتابه الأول “مذكرات طبيب ريفي”. اندلعت الثورة إبان عمله هناك، وعانى بولغاكوف تغيّر السلطة في كييف، والفوضى السياسية والاجتماعية المريعة هناك، التي أدت إلى تهديد حياته عدة مرات، حيث حاولت جهات كثيرة اجتذابه ليعمل طبيبًا ضمن قواتها. حاصر رجال بتليورا المدينة، وسعوا إلى استقلال أوكرانيا عن روسيا، وهربت القوات الألمانية، وكذلك البلاشفة، وجرت الإعدامات، واقتحم بتليورا المدينة. جندوا بولغاكوف ليعمل طبيبًا ضمن قواتهم، وأُرسِل بعيدًا عن وطنه إلى مدينة غروزني، عاصمة الشيشان حاليًّا.
في عام 1920 لحقت الهزيمة بقوات الحرس الأبيض نهائيًّا في القوقاز، وبدأت السلطة السوفيتية بعمل برامج تثقيف للشعب، واضطلع بولغاكوف بهذا الدور بعد أن ترك مهنة الطب نهائيًّا. حقَّق نجاحًا كبيرًا بعد نشر ملحمته “الحرس الأبيض” عام 1923، التي تحوَّلت إلى إحدى أنجح المسرحيات في التاريخ السوفيتي “أيام آل توربين”، وشاهدها ستالين بنفسه نحو خمس عشرة مرة. انخرط بولغاكوف في العمل الأدبي. وبوصفه أديبًا حرًّا، وجد نفسه في قبضة الجحيم السوفيتي، من دون أن يتمكن من السفر إلى الخارج. ربما لم يُرِد هذا، وفي الوقت نفسه لم يُرِد التنازل عن استقلاليته، ورفض الكتابة من إطار الواقعية الاشتراكية، وهي المدرسة الرسمية التي دعَّمتها السلطة السوفيتية. لجأ بولغاكوف إلى الرمز، وقدَّم بعض التنازلات هنا وهناك، ونجح في نشر بعض الأعمال، والعمل في المسرح بتوصية من ستالين نفسه، بعد أن اشتكى إليه الكاتب من سوء الحال والمصير، ولم تُنشر روايته الشهيرة “المعلم ومارغريتا”، إلا بعد وفاته، بصورة منقوصة في البداية، ثم نُشرت كاملة بعد وفاته بمدة طويلة عندما بدأت السلطة السوفيتية في تقديم بعض التنازلات.
يُعد بولغاكوف واحدًا من أهم الأدباء الروس في القرن العشرين، واكتسبت أعماله شهرتها من رصد التحولات العميقة التي مرت بها روسيا بعد الثورة البلشفية. استطاع في أعماله الأدبية تقديم نظرة عميقة لطبيعة التحولات التي مرت بالمجتمع، وقدَّم أعماله الفريدة هذه من خلال مزيج من الواقعية والفانتازيا والسخرية والنقد الاجتماعي، فصنع لنفسه أسلوبًا خاصًا ومميزًا.
تأخر الاعتراف الرسمي بمكانته العظيمة في روسيا بسبب ما لاقاه من عنت من السلطة السوفيتية، وتأخر نشر أعمال كثيرة له؛ منها رائعته “المعلم ومارغريتا”، لكن النقد الروسي الحديث يراه واحدًا من أعمدة الأدب الكلاسيكي في القرن العشرين، وتُدرَّس رواياته ومسرحياته على نطاق عريض.
تمر أغلب المجتمعات بفترات عاصفة، حيث تعايش بعض أجيالها حروبًا ضد عدو أجنبي، أو حروبًا أهلية، أو ما شابه، لكن بعض المجتمعات تعايش -في فترات قصيرة نسبيًّا- كوارث واسعة النطاق، ومكثفة بدرجة يصعب أن يتخيلها أحد. الأديب ابن مجتمعه، ويعايش معه هذه الفترات، ولا بد أنها تترك فيه أثرًا لا يُمحى، ويتصدى قطاع لا بأس به من الأدباء للكتابة عن هذه الفترات الانتقالية، لكن في أغلب الأحيان، يأتي مستوى الكتابة عن أحداث عظيمة التأثير والنطاق، عايشها الأديب منذ فترة زمنية قصيرة، منخفضًا وسطحيًّا، حيث إن الكاتب لا يكون قد استوعب كاملًا الأبعاد العميقة لما حدث. في حالتنا هذه نجد استثناءً واضحًا.
تركز رواية بولغاكوف على أسرة آل توربين، التي تتكون من ألكسي توربين، وهو طبيب في الثامنة والعشرين، وشقيقته يلينا توربينا، في الرابعة والعشرين، ونيكولكا، الأخ الأصغر، في السابعة عشرة، فضلًا عن شخصيات أخرى محيطة بالأسرة، ولا يُعد عدد الشخصيات الرئيسة كبيرًا مقارنة بحجم الرواية.
تنتمي الأسرة إلى طبقة معادية للثورة البلشفية، وتناصر قوات الحرس الأبيض التي تمثل روسيا القديمة والإمبراطورية، بكل ما تحمله لهذه الشخصيات من حنين عارم، يتشابك مع كل ذكريات الأسرة الحميمة، والرقيقة، والجميلة.
تجد الأسرة نفسها على حافة الهاوية مع تطور الأحداث، وانسحاب الحلفاء، والأنباء المؤكدة عن انتصار البلاشفة القريب، ويُترك كل من أفراد الأسرة لمصيره بعد أن يتحطم عالمه الناعم والرقيق تمامًا؛ ذلك العالم المُشيَّد على الجهل بكل ما يحدث على بعد أمتار من المدينة.
المدينة هي كييف، ولا يُذكر اسمها صراحة، كأنها المدينة بـ”الـ” التعريف، وهي التي تُعرِّف من فيها، ولا تحتاج إلى من يُعرِّفها.
تبدأ أحداث الرواية في شتاء 1918/ 1919، في المدينة الواقعة تحت احتلال القوات الألمانية، والسلطة في يد الجيتمان (قائد القوزاق في أوكرانيا). تدور المعارك على بعد كيلومترات من المدينة التي تعايش أجواءً غريبة تصفها الرواية تفصيلًا، بعد امتلائها بالوافدين من موسكو وبطرسبورغ، من مصرفيين، وتجار، وصحفيين، ومحامين، وشعراء، وداعرات… إلخ. تجتمع أسرة آل توربين على العشاء، وبصحبتهم بعض الأصدقاء من القوات العسكرية الأوكرانية، وينخرطون في مناقشة مصير مدينتهم، والشائعات عن اقتراب جيش بتليورا من المدينة. يبدون حسرتهم على عدم تشكيل جيش مختار من طلبة المدارس العسكرية والضباط، مُكوَّن من الآلاف، لحماية المدينة، وهو ما حالت دون تحقيقه قيادة جيتمان.
يعلن زوج يلينا توربينا أن الألمان سيغادرون المدينة، وأنه سيرحل معهم عبر قطار هيئة الأركان، ولا يستطيع اصطحاب يلينا معه الآن. يؤكد لزوجته أنه سيعود مع جيش الجنرال دينيكين الذي يتشكل حاليًا في منطقة الدون في غضون أشهر بسيطة. تدرك يلينا، وكذلك إخوتها، نية زوجها الهروب من المدينة قبل قوع الكارثة.
تتشكل بعض الوحدات العسكرية الأوكرانية استعدادًا للدفاع عن المدينة ضد قوات بتليورا، وينضم أليكسي توربين، وصديقاه كاراس وميشلايفسكي، إلى خدمة العقيد ماليشيف، قائد كتيبة الهاون، حيث خدم كاراس وميشلايفسكي بوصفهما ضابطين، وتوربين بوصفه طبيب الكتيبة، لكن في الليلة التالية، يتضح أن الجيتمان قد فرّ مع كبار القادة من المدينة في قطار ألماني، فيحل العقيد ماليشيف الكتيبة الحديثة التشكيل، إذ لم يعد هناك أحد ليحميه، ولأن السلطة الشرعية في المدينة انهارت.
تتقدم قوات بتليورا فعلًا، ويدور القتال. يدرك العقيد ناي تورس، الذي تولى الدفاع عن المدينة، أنه وقع في فخ وحوصر، فيأمر الجنود بخلع شاراتهم والهرب. يموت ناي تورز أمام الأخ الأصغر نيكولكا، الذي ينجو بأعجوبة من المصير نفسه. يشق طريقه إلى منزله عبر الساحات والأزقة.
أما الأخ الأكبر أليكسي، فلم يعلم شيئًا عن حل الكتيبة، فيذهب إلى البناية التي من المفترض أن تجتمع الكتيبة عندها، وهناك يعثر على العقيد ماليشيف، ويخبره العقيد بما حدث. يحاول أليكسي العودة إلى المنزل، لكنه ينسى خلع شارته العسكرية، فتطارده قوات بتليورا وتصيبه بنيرانها. تؤويه امرأة غريبة وتعالجه. تتفاقم إصابته، وتصيبه حمى ويهذي، ويؤكد الأطباء أن حالته ميؤوس منها، لكنه ينجو بأعجوبة. يتعافى بعد مدة، وتجتمع الأسرة مجددًا على خلفية انسحاب قوات بتليورا من المدينة، وسماع دوي مدافع القوات البلشفية التي تقترب من المدينة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.