أبحاث ودراساتمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة

دلالات هجوم “توساش”: ماذا يعني أول استهداف لقلب صناعة الدفاع التركية؟


  • 30 أكتوبر 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: omanobserver.om

كان إعلان حزب العمال الكردستاني مسؤوليته عن الحادث الإرهابي الذي وقع في الثالث والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري بشركة الصناعات الجوية والفضائية التركية “توساش”، على بعد 40 كيلومترًا من العاصمة التركية، وأسفر عن مقتل خمسة أشخاص وإصابة 22 آخرين، كان بمنزلة وأد للمبادرة التي تبناها الزعيم القومي دولت باهتشلي قبل أقل من 24 ساعة على الهجوم الإرهابي، من أجل حل القضية الكردية؛ ومن ثم فإن تفكيك هذا التزامن المعقد يرتبط بالإجابة عن عدة تساؤلات عن دلالة توقيت الهجوم، ورمزية الميدان، وسياق الهجوم، والرسائل التي يحملها؛ ما يقودنا إلى استشراف فرص نجاح المبادرة التركية في ظل البيئة المضطربة، سواء على الصعيد الداخلي، أو الصعيد الخارجي، ومستقبل عملية السلام التي تحاول تركيا إرساء دعائمها منذ عقود في ظل المتغيرات الحالية.

تفكيك سياق الهجوم

بدا الحادث الذي عاشته العاصمة التركية أنقرة يوم الأربعاء الماضي مختلفًا؛ لاعتبارين جوهريين يتمثلان في:

أولًا: رمزية الميدان: استهدف الهجوم شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية توساش التي تعد في الأساس قلب صناعة الدفاع التركية، والتي تأسست في سبعينيات القرن الماضي، وفي عام 2005 تحولت إلى منشأة تركية خالصة، وبدأت الشركة بتصنيع الطائرات المحلية وتطويرها، خاصة الطائرات بدون طيار، ومؤخرًا انطلقت منها أولى التجارب المتعلقة بهذا المجال، الخاصة بطائرة “قآن” الحربية، التي لطالما قال الرئيس التركي إن ميزاتها تضاهي “إف -16” الأمريكية؛ ومن ثم فإن اختيار حزب العمال الكردستاني لتوساش يعود إلى أن الجيش التركي يستخدم الطائرات التي تصنع في الشركة لقصف أهدافه بدلًا من العمليات البرية.

ثانيًا: دلالة التوقيت: جاء الهجوم بعد أقل من 24 ساعة من مبادرة استثنائية وجهها زعيم حزب الحركة القومية دولت باهتشلي إلى مؤسس حزب العمال الكردستاني المسجون عبد الله أوجلان، اقترح فيها إعلان الحزب إنهاء الإرهاب وإلقاء السلاح مقابل الحصول على “حق الأمل” الذي تنص عليه المادة الثالثة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، والتي تحظر أحكام السجن إلى أجل غير مسمى، وتحددها بـ25 عامًا، كما أن رسالة التوقيت الثانية أنه يأتي بالتزامن مع إقامة البلاد معرض “ساها إكسبو”، الذي يعد أكبر تجمع عالمي في قطاع الصناعة الدفاعية في تركيا وأوروبا، فعلى مدى خمسة أيام شاركت أكثر من 124 دولة، وأكثر من 150 ألف زائر.

وجاء رد تركيا على هذا الهجوم سريعًا، بعد أن اتهمت فريقًا من كتيبة الخالدين. وقبل أن يعلن الحزب مسؤوليته عن الهجوم رسميًّا، استهدفت القوات التركية ليل الأربعاء مواقع عدة لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق، ووحدات حماية الشعب الكردية في شمال سوريا، وهو ما أسفر عن تدمير 47 هدفًا لتنظيمي حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية، 29 منها في شمال العراق، و18 في شمال سوريا.

مسار الصراع بين حزب العمال الكردستاني وتركيا

لطالما شهد الحزب المحظور في تركيا، والمصنف على قوائم الإرهاب لديها ولدى الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية، صراعًا تاريخيًّا مع أنقرة، وتحديدًا منذ عام 1984، تتخلله فترات من التهدئة القصيرة، كان آخرها ما سُمي بـ”حل القضية الكردية عن طريق السلام” بين عامي 2012 و2015، حيث أجرت تركيا محادثات سلام مع أوجلان الذي يقبع في سجن بجزيرة “آمرلي” الواقعة في بحر مرمرة منذ عام 1999 حتى الآن.

 لكن هذه العملية، وجهود التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، انهارت في يوليو (تمّوز) 2015، وبدأت فترة من أكثر الفترات ظلامًا على حزب العمال، إذ اعتقلت الدولة التركية آلاف السياسيين والناشطين الأكراد، وأطاحت بالعشرات من رؤساء البلديات المنتخبين، كما تمكنت من دفع الحزب إلى خارج حدود البلاد عبر عمليات عسكرية واسعة النطاق داخل تركيا وخارجها، بما في ذلك في العراق وسوريا.

ومع بداية الشهر الجاري خطت تركيا سلسلة من الخطوات التمهيدية لاستعادة جهود السلام بين النظام والحزب، تجلت في محادثات حزب العدالة والتنمية مع أعضاء الحزب الديمقراطي الكردي (ديم) داخل البرلمان، وبعد ذلك بدأ باهتشلي -بالتدريج- بإطلاق تصريحات تتعلق بالقضية الكردية وعملية السلام في البلاد، كان ثمرتها إعلان المبادرة الموجهة إلى زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون، كما ظهرت بوادر حسن النية للحكومة التركية حين سمحت لعائلة الزعيم الكردي بزيارته لأول مرة منذ مارس 2020.

وفي هذا السياق، ارتكزت المبادرة التي طرحها زعيم حزب الحركة القومية خلال جلسة للبرلمان على شقين؛ رفع العزلة عن أوجلان في مقابل إعلان حل حزب العمال الكردستاني، وإنهاء إرهابه، أمام أعضاء مجلس الأمة التركي الكبير، مؤكدًا أن إلقاء أوجلان هذا الخطاب قد يكون سبيلًا لإطلاق سراحه من السجن. ومن جانبها دعمت جميع الأحزاب السياسية مبادرة باهتشلي، وعلى رأسها حزب “العدالة والتنمية”، وحزب “الحركة القومية”، وحزب “الشعب الجمهوري”، وحزب “الديمقراطية والمساواة” (ديم)، فيما رأى أردوغان أنها فرصة ذهبية للحزب لحل خلافه مع الدولة التركية، دون اللجوء إلى الإرهاب.

مستقبل العلاقة بين تركيا وحزب العمال في ظل العدوان الإسرائيلي

ثمة دوافع خفية للخطاب الجديد لأردوغان، ومبادرة حليفه القومي تجاه القضية الكردية، تتمثل في كون انفتاح التحالف الحاكم على الحزب الكردي هو جزءًا من ديناميكيات المرونة الداخلية في التعامل مع تهديدات النظام التي ظهرت بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فعلى مدى العامين الماضيين كانت أنقرة تجري مناقشات داخلية مكثفة عمّا ينبغي القيام به بشأن حزب العمال الكردستاني ومستقبل الأكراد.

لطالما استغل حزب العدالة والتنمية أصوات الأكراد في الانتخابات التركية، سواء أكانت الرئاسية أم المحلية، لتقوية موقف الحزب ضد معارضيه، واليوم يحتاج أردوغان إلى الأكراد مجددًا من أجل محاولات تعديل الدستور في أقرب وقت لضمان ولاية الرئيس التركي الجديدة للبلاد، ما يتطلب فتح مسارات حوار مع أحزاب المعارضة لحل الصراع التركي الكردي. فضلًا عن هذا، فإن أردوغان يرغب بأن يحافظ على إرثه بوصفه زعيمًا تركيًّا استطاع نقل العلاقة مع الأكراد إلى مستوى مختلف.

ولعل الدافع الأهم للرئيس التركي هو القلق العميق من ترسيخ قدم كيان كردي في شمال سوريا وشرقها، حيث تخشى أنقرة من تمدد هذا الكيان في البلدان المجاورة؛ ما يمثل تطويقًا كرديًّا وتهديدًا مستمرًا على الحدود التركية، وورقة ضغط محتملة قد يستخدمها نظام بشار الأسد؛ ما يقوض تدخل أردوغان في الحرب الأهلية السورية.

ورغم كل تلك المخاوف للنظام التركي، فإن هذا التوجه الجديد لحكومة العدالة والتنمية ينبغي أن يوضع في سياق واقعي يسمح بنجاحه، فالقضية الكردية لا تتعلق بالمبادرة التركية وسعي الحكومة التركية للانفتاح فقط؛ بل يجب أن تكون هناك في المقابل مبادرة من الحزب الكردي في تركيا ترحب بهذا التوجه، وتكشف عن مدى استجابة الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني إلى أوجلان، حيث لديهم بالفعل منطقة ذات حكم ذاتي، ودعم قوي من الولايات المتحدة، تجعلهم يفكرون في مقابل التضحية بكل هذا، خاصةً في ظل الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان؛ ما يجعلهم مفتاحًا أساسيًّا في تطورات المشهد، سواء على صعيد العلاقة مع نظام بشار الأسد، أو موقفهم في الحرب، حيث تثار عدة مراسلات في الأيام القليلة الماضية بين أطراف كردية محورية في شمالي العراق وسوريا وبعض الدوائر الأمريكية والإسرائيلية التي تحاول إقناع الجانب الكردي بأن حرب الجيش الاسرائيلي في غزة، وجنوب لبنان، والعراق، وسوريا، تخدم في النهاية خطة تأسيس دولة كردية كبيرة وقوية إقليميًّا؛ إذ يتطلع الجانب الإسرائيلي إلى ضمان وجود أطراف كردية داعمة لمشروعاته الاستعمارية في المنطقة من خلال إضعاف المعادلة السنية في العراق، والمعادلة الشيعية في لبنان وسوريا.

الخاتمة

وفقًا لمعطيات المشهد الراهن، ثمة فرصة تاريخية أمام حزب العمال الكردستاني لاستغلال  التحول في خطاب الحزب الحاكم لفرض شروط الحزب، وانتهاز الدوافع الداخلية في تركيا المرتبطة بمحاولة حكومة العدالة والتنمية ترسيخ حكمها للبلاد وإطالة أمده، والمحفزات الإقليمية في ظل الحرب الدائرة في المنطقة  التي تفتح أبواب الحوار الجاد بين الحكومة والحزب، كما تسهم المتغيرات الخارجية المتمثلة في خطوات الولايات المتحدة لسحب قواتها من سوريا، خاصةً إذا فاز دونالد ترمب في الانتخابات الأمريكية المقبلة، في تسهيل المهمة أمام أردوغان لتحييد حزب العمال الكردستاني إستراتيجيًّا، على الأقل في الوقت الراهن؛ ومن هذا يمكن القول إن أي مسار لإعادة إحياء عملية السلام بين الدولة والحزب يتطلب توافر مزيد من الضمانات لكلا الجانبين، لا سيما أن تاريخ تركيا مع حزب العمال الكردستاني كان محفوفًا بعمليات السلام الفاشلة والصراع العسكري الممتد.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع