مقالات المركز

قراءة في خطاب بوتين من الصين

دعاة الحرب في أوروبا.. ومعضلة الضمانات الأمنية


  • 2 سبتمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: table.media

يبدو أن الخطاب الروسي الرسمي في المرحلة الراهنة يحتاج إلى أن يتجه إلى مزيد من الوضوح في رسم خطوط الفصل بين ما تراه موسكو أسبابًا جذريةً للأزمة، ثم الصراع أو الحرب الأوكرانية، وما تراه مجرد أعراض أو تداعيات ثانوية.

في هذا السياق أضع تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قمة منظمة شنغهاي للتعاون، المنعقدة اليوم، 1 سبتمبر (أيلول) 2025، في مدينة تيانجين الصينية. بوتين أعاد التأكيد في تصريحه أن أي تسويةلا بد أن تقوم على إزالة هذه الأسباب، وعلى رأسها التوازن الأمني المفقود في أوروبا.

بوتين شدد بالطبع على أن روسيا تُثمِّن جهود الصين والهند وشركائها الإستراتيجيين الآخرين في تقديمهم مقترحات للتسوية، وأن ما تمّ التفاهم عليه في قمة ألاسكا مع ترمب يمكن أن يشكل أرضية أولية لفتح الطريق نحو تسوية سلمية.

هذا الطريق الذي يقصده بوتين، يرتبط -حسب تصوري لما يدور في رأسه بالطبع- على نحو مباشر بما يصفه الكرملين منذ سنوات، وقبل اندلاع المرحلة الساخنة من المواجهة في ساحة أوكرانيا، بالضمانات الأمنية، التي طالب وحاول الوصول إلى الاتفاق عليها مع بايدن قبل أسابيع من دخول دباباته إلى أوكرانيا.

مفهوم الضمانات الأمنية في ذاته بات محوريًّا في مقاربة روسيا للعلاقات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة؛ فموسكو، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، استندت إلى وعود غربية شفهية وغير مكتوبة بعدم توسع حلف الناتو شرقًا، لكن تلك الوعود تحولت سريعًا إلى تاريخ من الخديعة والخذلان، مع موجات متلاحقة من التوسع الأطلسي وصلت إلى الفناء الخلفي لروسيا لتضم جمهوريات البلطيق عام 2004، وتبعتها مساعٍٍ لضم أوكرانيا وجورجيا عام 2008. من هنا، يرى الكرملين، ويرى بوتين، ومن ورائه النخبة الروسية، أن أي تفاهمات غير موثقة بمعاهدات ملزمة قانونيًّا تبقى مجرد حبر على ورق؛ بل تبقى أوراقًا مؤقتة قابلة للتنصل.

القلق الروسي اليوم يتضاعف بفعل الواقع الميداني في أوكرانيا؛ فالبنية العسكرية الغربية هناك، من مستشارين عسكريين، ومنظومات تسليح بعيدة المدى، وقواعد تدريب متقدمة، تتحول -في نظر موسكو- إلى وجود أطلسي فعلي على حدودها.

وإلى جانب ذلك، تدور في الغرب نقاشات بشأن إعادة نشر الردع النووي التكتيكي في أوروبا الشرقية، وتعزيز الوجود البحري في البحر الأسود وبحر البلطيق، كل ذلك تراه روسيا -بلا شك- تهديدًا مباشرًا لمعادلة الردع الإستراتيجي التي صمدت طوال عقود الحرب الباردة.

من هنا، تذهب موسكو أبعد من المطالبة بوقف توسع الناتو، لتطرح رؤيتها بشأن نظام أمني أوروبي جديد، يقوم على معاهدات واضحة وملزمة. وفي خطاب الكرملين والخارجية، من واقع قراءتي له يوميًّا تقريبًا، ألمس الحنين إلى روح “معاهدة القوات التقليدية في أوروبا”، أو تحديث “وثيقة فيينا” بشأن بناء الثقة، لكن المشكلة تكمن في أن واشنطن وحلفاءها ينظرون إلى مقترحات موسكو على أنها قيود تهدف إلى شل قدرة الحلف على المناورة؛ ولهذا يتسم الموقف الغربي بالتعطيل المستمر لأي مبادرة تفاوضية في هذا الاتجاه.

في السياق نفسه، جاء تصريح المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، ليضع الأوروبيين في خانة “دعاة الحرب”، فلم يتهم بيسكوف عواصم، مثل برلين وباريس ولندن وبروكسل، بتعطيل التسوية التي بدأها بوتين مع ترمب فحسب؛ بل بتحريض كييف على التشدد، ورفض المقترحات الروسية التي نقلها ترمب إلى زيلينسكي.

والأهم -في رأيي- أن هذا الخطاب الروسي يجد هذه الأيام ما يوازيه -ولو جزئيًّا- في الإعلام الأمريكي، حيث أشارت تقارير نقلها موقع “أكسيوس” إلى أن إدارة ترمب تحمل بعض القادة الأوروبيين مسؤولية عرقلة التقدم في المفاوضات الأخيرة، معتبرة أنهم يضغطون على أوكرانيا للمطالبة بتنازلات روسية غير واقعية، في حين أن أوروبا نفسها عاجزة عن تحمل كلفة الحرب واستمرارها.

أما على الأرض الأوروبية، فإن الملف الأوكراني يتخذ مسارين متوازيين؛ الأول اقتصادي عقوباتي، عن طريق حزم العقوبات التي وصلت الآن إلى بحث الحزمة التاسعة عشرة، وطرح مبدأ العقوبات الثانوية على شركاء روسيا الكبار، مثل الهند والصين.
والثاني عسكري- رمزي، من خلال نقاشات غير محسومة بشأن إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا، وهو خيار تواجهه عوائق لوجستية وبرلمانية واضحة، وتردد ظاهر تمامًا لمن يتابع ويقرأ المواقف الأوروبية والتصريحات المتضاربة؛ لذلك تميل بعض الأصوات، مثل رئيسة الدبلوماسية الأوروبية كايا كالاس، إلى طرح صيغة أكثر تواضعًا: إرسال مدربين عسكريين، وإنشاء مراكز تدريب في غرب أوكرانيا، بعدما كان الحديث عن إرسال ما بين 30 ألفًا إلى 100 ألف جندي أوروبي.

اللافت أن قمة منظمة شنغهاي للتعاون لم تشر -من قريب أو بعيد- إلى الأزمة الأوكرانية في إعلانها الختامي، كما حدث في السنوات السابقة، وهذا التجاهل المتكرر يعكس أن الأولويات في “العالم غير الغربي” لا تتمحور حول الأزمة الأوكرانية كما في السردية الغربية الأطلسية، فالموضوع لدول شنغهاي ليس مركزيًّا، بل يقع على الهامش، لصالح قضايا إقليمية وآسيوية تتعلق مثلًا بملفات كمكافحة الإرهاب، وأمن الطاقة، وتوسيع استخدام العملات الوطنية في التبادل التجاري.

والرسالة الضمنية هنا -حسبما أقرؤها- أن أوكرانيا، نعم أزمة وقضية، لكنها قضية غربية الطابع، ولا ينبغي تحميلها وزنًا يتجاوز حدودها في أجندة دول الأغلبية العالمية.

وهكذا يتضح أن المعضلة الأوكرانية -في نظر موسكو- ليست نزاعًا حدوديًّا، أو خلافًا سياسيًّا مع كييف فحسب؛ بل هي تجسيد لأزمة أوسع في بنية الأمن الأوروبي، وهذا ما يحاول بوتين إيصاله إلى ترمب وغيره؛ ولذلك فإن أي تسوية حقيقية لا بد أن تستند إلى معالجة ثلاث دوائر متداخلة في الذاكرة الروسية التي تعرضت للإهانة:

1- الدائرة التاريخية: وسببها خيبة الأمل الروسية من وعود الغرب “الكاذبة” منذ مطلع التسعينيات.
2- الدائرة الإستراتيجية: السعي إلى منع الناتو من تثبيت وجود دائم على حدود روسيا.
3- الدائرة الدبلوماسية: بناء إطار تفاوضي جديد يخرج من هيمنة الأحادية الأمريكية إلى تعددية تحترم توازن المصالح.

وختامًا أقول إن تجاهل هذه المرتكزات، أو أي منها -بحسب فهمي للتصور الروسي، تصور موسكو والكرملين وبوتين- يجعل أي حل سياسي هشًّا، قابلًا للانهيار مع تبدل موازين القوى، أو تغير الإدارات الأمريكية، والغربية عمومًا؛ وعليه، فإن إصرار بوتين على الضمانات الأمنية ليس تكتيكًا آنيًّا؛ بل هو جوهر مشروعه الإستراتيجي لضمان أمن روسيا، وقد يكون يقصد به استقرار أوروبا على السواء.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع