شكّل اختيار روسيا والولايات المتحدة للرياض -عاصمة المملكة العربية السعودية- لاستضافة “أول لقاء” على هذا المستوى الرفيع بين وزيري الخارجية الروسي والأمريكي منذ بداية الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) 2022، تتويجًا للجهود الدبلوماسية العربية التي عملت بقوة على احتواء الحرب في أوكرانيا ووقفها منذ الأسبوع الأول للصراع، كما يعكس اختيار الرئيسين الأمريكي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين للرياض لعقد قمتهما المقبلة “الدور المحوري” للدول العربية في تعزيز الأمن والسلام الدولي، ويؤكد تحول العواصم العربية إلى وسيط رئيس في النزاعات والصراعات، إذ تستضيف الرياض أيضًا الاجتماع المقبل بين الولايات المتحدة وأوكرانيا. وقبل الرياض، كان لمسقط -عاصمة سلطنة عمان- دور مرموق في التوصل إلى هدنة ناجحة لوقف الحرب في اليمن، كما أن مسقط كانت المكان الذي انطلقت منه كل مفاوضات السلام والاستقرار بين الدول الغربية وإيران، وهو ما يعزز المكانة الإقليمية والدولية للأمة العربية، ويزيد الوزن النسبي للعالم العربي في حسابات القوة الشاملة على المستويين الإقليمي والدولي.
ومن يراجع الموقف العربي من الحرب في أوكرانيا خلال السنوات الثلاث الماضية، يتأكد له مدى وضوح الرؤية العربية ونضجها في التعامل مع هذا الصراع المعقد، فغالبية الدول العربية تضررت -على نحو مباشر أو غير مباشر- من الصراع في أوكرانيا، خاصةً في مجالات الغذاء والطاقة، فأسعار القمح وصلت إلى أرقام قياسية في عامي 2022 و2023؛ إذ يعتمد كثير من الدول العربية على شراء الحبوب والزيوت والأسمدة من روسيا وأوكرانيا، ودولة مثل مصر دفعت ثمنًا غاليًا بوصفها أكبر مستورد للقمح في العالم؛ إذ تستورد سنويًّا من روسيا وأوكرانيا نحو 12 مليون طن من القمح والذرة؛ ولهذا وقفت غالبية الدول العربية إلى جانب كل الجهود الدولية لوقف الحرب، ورفضت العواصم العربية -رفضًا قاطعًا- الانضمام إلى العقوبات الغربية على روسيا باعتبارها عقوبات غير قانونية، وغير شرعية؛ لأنها فُرضت من خارج مجلس الأمن.
اليوم، مع عودة الآمال لوضع نهاية لهذه الحرب من خلال الدبلوماسية، يتصدر العالم العربي مشهد السلام في أوكرانيا، من خلال استضافة السعودية -في الفترة المقبلة- للفرق الفنية من الجانبين الروسي والأمريكي لوضع الخطوط العريضة لتحسين العلاقات الثنائية الأمريكية الروسية، تمهيدًا لوقف الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يؤكد قدرة الدول العربية على أداء دور بارز في وقف الحروب خلال الفترة المقبلة، وأن يكون الإقليم العربي هو “محور السلام والاستقرار” في العالم. فما الأدوار العربية التي يمكن أن تدفع نحو نجاح المفاوضات الروسية الأمريكية لوقف الحرب؟ وكيف يمكن البناء على هذا الدور العربي لتعزيز المكانة العربية في معادلات المستقبل؟ وما الأوراق التي تجعل الدور العربي والدبلوماسية العربية “الرقم الرابح” في الحسابات المعقدة في الحرب الروسية الأوكرانية؟
منذ اليوم الأول للحرب في أوكرانيا كان هناك إدراك عربي مبكر لمآلات هذه الصراع وتداعياته على كل دول العالم، ومنها الدول العربية؛ ولذلك تحركت الدول العربية على أكثر من صعيد بهدف احتواء الصراع، وتقليل آثاره السلبية على السلام العالمي، والاقتصاد الدولي؛ ولهذا أخذت الجهود العربية أكثر من مسار، وأبرز هذه المسارات هي:
أولًا- أول اجتماع لتسوية الأزمة كان “عربيًّا”
بعد 3 أيام فقط من اندلاع الحرب في أوكرانيا، وفي 27 فبراير (شباط) 2022، دعت مصر إلى عقد اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية بهدف بذل كل جهد ممكن لتسوية الأزمة سياسيًّا بما يحافظ على الأمن والاستقرار الدوليين، وبما يضمن عدم تصعيد الموقف أو تدهوره، وتفاديًا لتفاقم الأوضاع الإنسانية والاقتصادية وأثرها في المنطقة والعالم. وفي التاسع من شهر مارس (آذار) 2022 اجتمعت جامعة الدول العربية في اجتماع طارئ، وقالت في بيان: “نتمنى ونتطلع إلى مخرج دبلوماسي للحرب الجارية في أوكرانيا، يوقف نزيف الصراع، ويحقن دماء الأبرياء من كل الأطراف، ويحفظ الحقوق، ويلبي الشواغل التي يمكن معالجتها بالحوار، وبمنطق الحلول الوسط”.
ثانيًا- وفد للوساطة بين موسكو وكييف
لم تكتفِ الدول العربية بعقد اجتماع طارئ؛ بل شكلت لجنة وزارية من 7 وزراء خارجية زارت موسكو ووارسو؛ لأنه كان يصعب على الحكومة الأوكرانية أن تجتمع مع وفود أجنبية في كييف في ذلك الوقت المبكر من الحرب، وعرضت اللجنة الوزارية رؤية عربية لوقف الحرب في 4 أبريل (نيسان) 2022، ويعتقد كثيرون أن ما قدمه العرب في وقت مبكر من الحرب يمثل الركيزة السياسية والدبلوماسية التي يمكن أن تنطلق منها أي جهود جديدة لوقف الحرب المستمرة منذ 3 سنوات.
ثالثًا- “بيت العرب” للروس والأوكرانيين
وفي سبيل إجراء مزيد من المفاوضات بين الدول العربية وكل من روسيا وأوكرانيا، دعت جامعة الدول العربية كلًا من موسكو وكييف لعرض وجهة نظرها على الدول العربية في مقر الجامعة في القاهرة (بيت العرب)، وقد لبى الدعوة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في 25 يوليو (تموز) 2022، وهو ما دفع روسيا إلى وصف الدور العربي إزاء الحرب الأوكرانية بأنه “متزن ومعتدل”، وأن العلاقات الروسية العربية دائمًا ما تقوم على “الصداقة والود”. وتأكيدًا للدور العربي المتوازن؛ عقدت جامعة الدول العربية اجتماعًا خاصًا على مستوى المندوبين للاستماع إلى وجهة النظر الأوكرانية في 10 أغسطس (آب) 2022، التي شرحها المبعوث الأوكراني الخاص لشؤون الشرق الأوسط وإفريقيا، السفير ماكسيم صبح، عبر الفيديو كونفرانس. وحتى اليوم تظل الدول العربية من أنشط الأطراف الدولية التي تسعى إلى تقديم حلول مقبولة لهذا الصراع الدامي.
رابعًا- المساعدات الإنسانية
لم يتوقف الدور العربي عند الجهد الدبلوماسي؛ بل شاركت الدول العربية بفاعلية كبيرة في إرسال المساعدات الإنسانية بآلاف الأطنان إلى أوكرانيا، فعلى سبيل المثال أرسلت المملكة العربية السعودية 140 طنًا من المساعدات الإنسانية إلى أوكرانيا في 15 فبراير (شباط) 2024، وهي الطائرات التي جهزها مركز الملك سلمان للإغاثة، ونقلتها 4 طائرات سعودية إلى مطار زوسوف البولندي القريب من الحدود الأوكرانية تمهيدًا لدخولها عبر الحدود البولندية إلى أوكرانيا، وسبق للسعودية أن وقّعت عام 2023 اتفاقية ومذكرة تفاهم بتقديم حزمة مساعدات إنسانية إضافية لأوكرانيا بمبلغ 400 مليون دولار، بعد أن قدمت مساعدات طبية وإيوائية عاجلة بقيمة 10 ملايين دولار للاجئين من أوكرانيا إلى الدول المجاورة، خاصةً بولندا، وذلك بالتنسيق مع الحكومة البولندية، ومنظمات الأمم المتحدة.
كما أرسلت دولة الإمارات العربية المتحدة آلاف الأطنان من المساعدات الإنسانية ومولدات الطاقة، وأكثر من 5000 كمبيوتر محمول إلى أوكرانيا، وسبق لها أن قدمت إمدادات إغاثية عاجلة للمتضررين في أوكرانيا، منها 100 مليون دولار أمريكي إلى المدنيين الأوكرانيين، كما دُشِّن جسر جوي من المساعدات الإغاثية والمواد الغذائية الأساسية والطبية وسيارات الإسعاف، وغيرها من المستلزمات الطبية والتعليمية، فضلًا عن تسييرها طائرات تحمل إمدادات إغاثية للاجئين الأوكرانيين في دول الجوار، مثل بولندا، ومولدوفا، وبلغاريا. كما قدمت دول قطر والكويت والبحرين مساعدات إنسانية لأوكرانيا، ليصل مجموع ما قدمته الدول العربية من مساعدات لأوكرانيا إلى نحو 500 مليون دولار.
خامسًا- دبلوماسية الأسرى
يعد نجاح الدبلوماسية العربية في الحرب الأوكرانية نجاحًا استثنائيًّا؛ إذ نجحت دولتا الإمارات العربية المتحدة والسعودية في التوصل إلى اتفاقيات مع روسيا وأوكرانيا للإفراج عن آلاف الأسرى من الجانبين الروسي والأوكراني. وبعد نجاح الإمارات في إطلاق سراح 300 أسير، منهم 150 أوكرانيًّا و150 روسيًّا في شهر فبراير (شباط) الماضي، تكون دولة الإمارات وحدها قد نجحت في 12 عملية تبادل أسرى، أُطلق فيها سراح 2,883 أسيرًا، واضطلعت السعودية بدور دبلوماسي رفيع في تحرير آلاف الأسرى من الجانبين الروسي والأوكراني. أما دولة قطر فكان لها دور كبير في “لم شمل الأطفال” الأوكرانيين مع عائلاتهم؛ ففي 16 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 أعلنت قطر نجاح “عملية لم شمل” عدد من الأطفال الأوكرانيين بعائلاتهم في أوكرانيا، وأنها سهلت استضافة الأطفال وعائلاتهم في مقر سفارة دولة قطر في موسكو، ثم نقلهم إلى وجهتهم النهائية. وفي 5 ديسمبر (كانون الأول) 2023 نجحت قطر للمرة الثانية في لم شمل الأطفال الأوكرانيين مع عائلاتهم في أوكرانيا، ضمن جهود وساطتها المستمرة من أجل لم شمل الأسر المشتتة بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية.
المؤكد أن الدبلوماسية العربية أدّت دورًا لا يمكن تجاهله في تخفيف معاناة الحرب الروسية الأوكرانية، وتحفيز موسكو وكييف على الذهاب إلى طاولة المفاوضات، وهو ما ينتظره الجميع في مفاوضات الرياض المقبلة
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.