منذ إطلاق الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مبادرته الجديدة المتعلقة بالحرب في أوكرانيا، يوم الاثنين 14 يوليو (تموز) 2025، التي منح فيها بوتين مهلة زمنية مدتها خمسون يومًا للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، بدا المشهد وكأنه يدخل مرحلة يمكن وصفها بمرحلة التحكم المدروس في التصعيد، بحيث تعاد خلالها برمجة خطوط التماس، وموازين الدعم، وتوقيتات التفاوض، مع الأخذ في الحسبان التوازنات الداخلية الدقيقة لكل طرف من أطراف الصراع، أي روسيا، وأوكرانيا ومن ورائها الأوربيون، فضلًا عن الولايات المتحدة.
ولكن إذا ابتعدنا عن اللغة الدبلوماسية، فإن السؤال الجوهري -من وجهة نظري- الذي يطرح نفسه على كل من يتابع هذا الملف هو: هل نحن بالفعل أمام محاولة أمريكية جادة لإنهاء الحرب؟ أم أننا أمام مناورة سياسية -ترمبية- تهدف إلى إعادة تشكيل مشهد ما بعد الصيف بما يضمن مصالح واشنطن الإستراتيجية، ويُبقي موسكو في حالة استنزاف، لكن لا تصل إلى حد الانفجار؟
قد يبدو لمن يقرأ خطاب ترمب الأخير بشأن الحرب الروسية- الأوكرانية، وتفسيراته المستمرة للإعلام له -أقول قد يبدو- وكأنه يحمل لهجة متشددة حاسمة، فهو يمنح: مهلة محددة، ويهدد بعقوبات جمركية، ويحذر زيلينسكي من استهداف موسكو، ويحمل الطرفين -أي بوتين وزيلينسكي- المسؤولية الكاملة.
لكنني أعتقد أن بإمكاننا في العمق قراءة هذا الخطاب الترمبي بوصفه صيغة اختبارية مرنة، تسعى إلى ما يمكن تسميته بـ”إدارة فوقية من أعلى للنزاع” بدلًا من حله، وهذا أستشفه من طبيعة إدراة ترمب للأمور منذ ولايته الأولى.
الرئيس الأمريكي لا يُخفي خيبة أمله في بوتين، وهذا ما يقوله، لكنه في الوقت نفسه يرفض الهجوم المباشر عليه، كما كان بايدن يفعل. ترمب يصف بوتين بأنه رجل قوي، ويقول: بوتين خدع كل الرؤساء الأمريكيين السابقين، لكنه مع ذلك -أي ترمب- لا يزال يعتقد أن بإمكانه التفاهم معه بشروط أكثر “أمريكية”، أي من موقع قوة لا منطق الشراكة، على طريقة الجنوب الأمريكي كما يقال.
وبين هذا وذاك، تظهر حسابات ترمب الخاصة، فهو لا يريد أن يبدو كمن يكافئ بوتين وموسكو، ولا أن يظهر كذلك كمن يدعم زيلينسكي، دون حدود كبايدن؛ لذلك فإن منح مهلة زمنية خمسين يومًا بدلًا من اتخاذ إجراءات فورية، تعكس -في رأيي- رغبة الرئيس الأمريكي في مسك هذا التوازن الدقيق الذي يسعى إليه بين القوة الملوحة والحل الممكن.
أما في موسكو، فحسبما أتابع، لا يبدو أن مبادرة ترمب قد قوبلت بحالة من الرفض، بل على العكس، هناك ما يشبه حالة “الانتباه” تجاه ما يمكن أن تفضي إليه هذه المهلة، لكن دون التسرع في إصدار أحكام، أو اتخاذ مواقف قاطعة.
فوزير الخارجية سيرغي لافروف، في تعليقه من بكين، حيث كان يحضر اجتماعات منظمة شنغهاي، ويُحضِّر لزيارة بوتين المرتقبة إلى العاصمة الصينية نهاية أغسطس (آب) المقبل، تساءل علنًا عن خلفية الرقم “خمسين” يومًا، متسائلًا عما إذا كان الأمر يتعلق فعليًّا بإرادة تسوية، أم بإعادة توزيع أدوار، وهو يقصد -حسبما فهمت- ما قام به ترمب، الذي أوكل مهمة تنسيق التسليح إلى حلف الناتو، وترك لأوروبا تمويل الحصة الأكبر، إن لم يكن كل تكاليف التسليح الأوكراني القادم.
الموقف الروسي بدا أيضًا منتبهًا لما وصفه نائب لافروف، ألكسندر غروشكو، وهو من صقور الخارجية الروسية حاليًا، ما وصفه بـ”الطابع الغريب” للمهلة الترمبية، في ظل غياب أي ضغط أمريكي على أوكرانيا للعودة إلى المفاوضات، واستكمال مسار إسطنبول الجديد مثلًا.
غروشكو اعتبر أن تفويض التسليح للناتو هو دليل إضافي على أن دول الحلف غير معنية أصلًا بالسلام، بل تسعى إلى تثبيت “توازن استنزاف” دائم بين موسكو وكييف، ضمن إستراتيجية احتواء مزدوجة.
واللافت كذلك -من واقع متابعتي- أن أوكرانيا -الطرف المعني مباشرة بمهلة ترمب- لم تبدِ أي موقف رسمي تجاهها -حتى الآن على الأقل- سواء بالترحيب أو الرفض، أو حتى الاستفهام؛ بل اكتفى الجانب الأوكراني بإشارات إعلامية غير مباشرة تظهر أن كييف لا ترى نفسها معنية بفشل المفاوضات، بل لا تخشى تحميلها مسؤولية ذلك، وهي هنا بالطبع تعتمد مجددًا على الدعم الغربي الأوروبي غير المشروط.
وهذا التجاهل الأوكراني يعكس -من وجهة نظري- قناعة متزايدة داخل كييف بأن واشنطن، رغم تصريحات ترمب، لن تجبرها على تقديم تنازلات، وأن تهديدات العقوبات التي أعلنها ترمب موجهة فعليًّا إلى روسيا وشركائها، وليس لها -أي كييف- وهذا -حسبما أعتقد- هو ما يفسر -ولو جزئيًّا- السبب وراء تعثر الجولة الثالثة المحتملة والمرتقبة من مفاوضات إسطنبول، خاصةً في ضوء تأكيد الكرملين -أكثر من مرة علنًا- استعداده لمواصلة هذا الحوار.
نقطة أخرى تحتاج -في رأيي- إلى لفت الانتباه إليها، بما أن كل ما نكتبه هو تحليل لمعطيات، وليس نقلًا لمعلومات؛ فأحد التسريبات الأمريكية التي نُشرت مؤخرًا أشار إلى أن بوتين قد أبلغ ترمب خلال مكالمتهما الهاتفية الأخيرة، يوم 3 يوليو (تموز) 2025، بنيته شن هجوم صيفي واسع يهدف إلى تحسين الوضع الميداني قبل أي تسوية. وبالنظر إلى التوقيت الزمني للمهلة الترمبية، يمكن القول إن ترمب تعمّد منح بوتين الفرصة الزمنية؛ بمنح موسكو “نافذة غير معلنة” لتحقيق بعض الأهداف الميدانية، التي يحتاج إليها بوتين بشدة، كالسيطرة الكاملة على مقاطعة دونيتسك تحديدًا، قبل أن يدخل المسار مجددًا في قنوات سياسية مضبوطة.
هذا التفسير للمهلة الترمبية قد يفسر أيضًا الانفراج النسبي في البورصة الروسية، وفي تعامل الأسواق الروسية مع إعلان ترمب، فقد ارتفعت مؤشرات البورصة، بعدما جُمِّدَ مشروع العقوبات الأشد، في حين فتحت المهلة الزمنية أفقًا للمراوغة السياسية، لا للمواجهة المباشرة.
ومع ذلك، تبقى هناك منطقة غموض خطيرة في هذه العملية برمتها، وأقصد بها ملف التسليح؛ ففي سياق هذه المهلة، لا يقل حجم التسليح المزمع توريده إلى أوكرانيا خلالها خطورة عن البعد السياسي، هذا إن تم بالفعل طبعًا، فترمب أعلن تسليم 17 منظومة “باتريوت”، لكن من واقع ما قرأته من تحليلات عسكرية لخبراء محترمين، يبدو أن الحديث يدور عن منصات الإطلاق، وليس البطاريات الكاملة. كما رافق ذلك أيضًا حديث غير مؤكد عن استئناف توريد صواريخ “أتاكمز” البعيدة المدى، التي سبق استخدامها لاستهداف أهداف داخل أراضي روسيا المعترف بها دوليًّا.
لكن الخطر الأكبر على روسيا -حسب هذه التحليلات العسكرية- يتمثل في صواريخ (JASSM-ER)، التي يمكن إطلاقها من مقاتلات “إف-16″، التي يتراوح مداها من 300 إلى 900 كم، فتوريد هذه الصواريخ إلى أوكرانيا سوف يمثل نقلة نوعية في مستوى التهديد الإستراتيجي، خاصة أنها تُصنّع بتقنيات “ستيلث”؛ ولذلك يصعب رصدها راداريًّا، حسبما يقول الخبراء العسكريون. فضلًا عن ذلك، فإن حمولتها التدميرية تصل إلى 450 كيلوغرامًا، لكن ترمب -حتى الآن على الأقل- لم يوافق على تسليمها إلى أوكرانيا.
لذلك، وفي ظل هذا الغموض، تبقى التساؤلات قائمة عن جدية ترمب في ضبط سقف التسليح الموجه إلى كييف، أو -على العكس- نيته استخدام هذا الملف كورقة ضغط إضافية على بوتين.
وسؤال آخر مهم: ماذا لو لم تفضِ المهلة إلى نتيجة؟ هل سوف تندفع واشنطن نحو تطبيق رسوم جمركية بنسبة 100% على روسيا وشركائها التجاريين؟
من الواضح أن هذا الخيار يحمل في طياته تعقيدات سياسية واقتصادية سيكون من الصعب تجاوزها، خاصةً مع استمرار اعتماد الولايات المتحدة على واردات روسية في مجالات حرجة مثل اليورانيوم، والتيتانيوم، والأسمدة، بل أهم من ذلك، أن تطبيق هذه العقوبات قد يخلق توترًا إضافيًّا لواشنطن مع قوى كبرى، كالصين، والهند، ودول الخليج العربي، وهم جميعًا شركاء تجاريون لموسكو، ولواشنطن أيضًا في آن معًا، وهذا -في اعتقادي- ما يُفسر -إلى حد كبير- تمسك إدارة ترمب بخطاب مزدوج: التلويح بالعقوبات، مع الحفاظ على الاستثناءات (غير المعلنة طبعًا)؛ لمنع ارتداد العقوبات على الداخل الأمريكي، وهو ما لا يحتاج إليه ترمب، خاصةً قبل انتخابات التجديد النصفي العام المقبل.
إذن، ما الحكاية؟
أرى أن ما تظهره مبادرة ترمب الأخيرة هو أن الولايات المتحدة بقيادة هذا الرجل لا تبحث عن نصر لأوكرانيا؛ بل عن مخرج من الحرب، لا يبدو فيه بوتين منتصرًا، وهذا ما يفسر التلويح بتجميد الصراع على خطوط التماس، وليس إنهاءه بالكامل، وهو خيار ترمب ومبعوثه الخاص كيلوج، لكنه يصطدم بحسابات موسكو، التي لم تكمل بعد أجندتها العسكرية الصيفية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.