تقدير موقف

خطر المقاتلين الأجانب بسوريا وأثرهم في آسيا الوسطى والقوقاز


  • 30 مايو 2025

شارك الموضوع

تصوَّر مقاتلًا أجنبيًّا يسير عبر التضاريس الوعرة على الحدود بين سوريا وتركيا، متجهًا إلى موطنه الأصلي في آسيا الوسطى. هذه ليست حكاية خيالية؛ وإنما واقع يواجهه صانعو القرار اليوم في المنطقة. آلافُ المقاتلين من آسيا الوسطى والقوقاز شاركوا في النزاع السوري إلى جانب تنظيمَي “الدولة الإسلامية” و”هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا). ووفق دراسة أمريكية، فقد وُلد نحو 17% من هؤلاء في آسيا الوسطى (أي أكثر من 4,000 مقاتل)

 والرئيس الروسي قال إن نحو 7,000 مقاتل من روسيا وآسيا الوسطى انضموا إلى داعش. هؤلاء المقاتلون ينتمون إلى مجموعات متنوعة؛ فإلى جانب “الدولة” و”النصرة”، توجد فصائل خاصة بهم، مثل “جيش المهاجرين والأنصار”، و”جماعة الإمام بخاري” (غالبيتها من الأوزبك)، بل نسبة صغيرة منهم التحقت بمجموعات يقودها مقاتلون من القوقاز وداغستان وجورجيا، وغيرها.

مع انهيار مشروع “الخلافة” في سوريا، يواجه القادة في آسيا الوسطى وحوض القوقاز مأزقًا صعبًا، فالمقاتلون الأجانب الناجون إما سيبحثون عن ساحة قتال جديدة، وإما سيفكر بعضهم في العودة إلى أوطانهم. دراسات أمنية حذّرت من هذا السيناريو: فعندما تنخفض قدرة “الدولة الإسلامية”، قد تجد مجموعات إسلامية متشددة فرصة لإعادة تجميع مقاتليها، وإذا عاد هؤلاء المقاتلون دون خطط لإعادة إدماجهم سلميًّا، فقد يختفون “تحت الأرض” ويباشرون هجمات إرهابية محلية، بل إن بعض المحللين يشيرون إلى أن الحكومات أحيانًا تستغل “خطر عودة المقاتلين” لتبرير تشديد القبضة الأمنية، ومحاربة كل معارضة. في الوقت نفسه، لا تخفى على أجهزة الأمن شباك التواصل التي شيدها المقاتلون عبر السنوات؛ فمسار الرحلة من روسيا إلى سوريا مشُيّد بـ”طرق ممهدة”، تدعمها بنية تحتية من الناطقين بالروسية. إذن، السؤال المطروح اليوم أمام صناع القرار في المنطقة: كيف نلجم هذه “الطاقة البركانية” قبل انفجارها؟ الخيارات بدهية، لكنها صعبة التنفيذ. من الضروري تعزيز مراقبة الحدود، وعمليات المداهمة الأمنية ضد شبكات الدعم والإرهابيين الفارين. وفي الوقت نفسه، يجب توسيع برامج إعادة التأهيل، وإشراك مؤسسات دينية معتدلة لاستيعاب العائدين المستعدّين للسلم، فالتعامل مع هذه القضية بإجابة واحدة -سواء أكانت “أمنية صارمة” أم “إنسانية مفرطة”- قد يُفضي إلى نتائج عكسية. سياسة مُتوازنة، تجمع بين إجراءات عسكرية مضبوطة ودعم اجتماعي واقتصادي للأحياء المهددة، هي السبيل الأنجع لضمان أمن مستدام في آسيا الوسطى والقوقاز.

صعود “خلافة داعش” في الشرق الأوسط: سُجِّلَت قفزة في عدد المقاتلين الأجانب من آسيا الوسطى. ومع خسارة “داعش” أرضه، يُطرح السؤال: هل انتهى التهديد على دول المنطقة، أم تحوّل إلى شكل جديد؟ الواقع أن الأخطار تتبدّل لكنها لا تختفي، فلدى جيران أفغانستان (تركمانستان وطاجيكستان وأوزبكستان) عوامل جديدة تثير القلق.

في طاجيكستان، مثلًا، شهد عام 2018 أول هجوم إرهابي معلن بدوافع جهادية، عندما قتل خمسة مقاتلين من طاجيكستان ركابًا أجانب في إقليم دَنْغَارَة، ويقدّر مركز مكافحة الإرهاب الأمريكي أن نحو 1,300 إلى 2,000 طاجيكي كانوا يقاتلون في سوريا والعراق، وهم قد يعودون الآن إلى البلاد، أو ينتقلون إلى ساحات قتال جديدة مثل أفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، فإن جماعة “أنصار الله” الطاجيكية (المنفية في أفغانستان) أقسمت بالولاء لداعش خراسان، مما يُستغل كمركز لتدريب طاجيك فرّوا من سوريا؛ ومن ثم فإن وزارة الدفاع الروسية والدول المجاورة تراقبان بقلق هذا التمدّد.

بينما يظل الوضع في أوزبكستان تحت السيطرة النسبية بعد سياسات التقشف الوطني السابقة، لا يعني غياب الهجمات العلنية غياب الخطر تمامًا، إذ ثبت أن تنظيم داعش حاول قصف مناطق في طاجيكستان وأوزبكستان بالصواريخ، وأُحبِطَ ذلك مؤخرًا. ردّ سلطات طشقند كان سريعًا: ففي عام 2022 اعتقلت الشرطة أربع خلايا إرهابية تابعة لتنظيم “الدولة” و”كتائب التوحيد والجهاد”، وهي مجموعة أوزبكية أُسست في سوريا.

أما تركمانستان، فالحالة مختلفة؛ فالنظام الغامض يبرر استبداده بالموازنة الأمنية المطلقة: تُروّج وسائل الإعلام الرسمية لعدم وجود أي تهديد إرهابي، وتفرض قيودًا صارمة على الدين والمظهر، كمنع اللحية واللباس الإسلامي. هذه الإجراءات الخانقة قد تخفي الأخطار بدلًا من معالجتها، خاصّة مع طول الحدود المشتركة مع أفغانستان، فحتى إن لم تُسجل هجمات معروفة في تركمنستان، فيبقى احتمال تسلل خلايا داعش خراسان عبر المنافذ الوعرة ممكنًا؛ مما يدعو مسؤولي الأمن إلى العمل بحذر بين تعزيز الرقابة ومحاولة معالجة الأسباب الاجتماعية للافتتان بالجهاد.

في هذه الأثناء، تتناغم إجراءات الدول الثلاث مع سياسات أوسع، فالدول تجمع بين التعاون الأمني المشترك (مثلًا عبر تحالفات إقليمية)، والمراقبة الداخلية المعززة، دون التهويل الإعلامي المفرط الذي قد يسبب ردة فعل شعبية مضادة، وهذا التوازن يمثل الخيار الأسلم لمواجهة الطيف الإرهابي الجديد في آسيا الوسطى بعد داعش.

السيناريوهات المحتملة لسقوط النظام في طاجيكستان وصعود التيارات المتشددة

طاجيكستان، الحليفة الرئيسة لكلٍّ من روسيا والصين في آسيا الوسطى، تجتاز منعطفًا حرجًا في تاريخها، فالرئيس إمام علي رحمن (في السلطة منذ 1992) يجهّز انتقال السلطة إلى نجله رستم؛ ما يجعل البلاد على موعد مع تجربة انتقالية نادرة في المنطقة. الواقع أن هذا الانتقال يرسم إمكانية سيناريوهين متباينين:

السيناريو المرجّح هو نجاح الانتقال إلى “ملكية” جديدة تحت عباءة حكم وحيد، مدعومة بنمو اقتصادي نسبيّ (نحو 6- 8% سنويًّا)، والاحتفاظ بجزء كبير من العوائد النفطية والطاقة. بفضل هذه الموارد، قد تظل أروقة السلطة محافظة على ولاء أركان الجيش والأجهزة الأمنية؛ ما يمنع انشقاقات داخلية، أو محاولات انقلابية، لكن هذا الاستقرار هشّ، وقد تتفاقم السخطات الشعبية إذا تزامن الحكم الوراثي مع ركود معيشة، أو نقص في الحاجات الأساسية. ووفق تقرير حديث، فإن تهديدًا داهمًا لهذا الاستقرار قد يأتي من انحراف اقتصادات الأرياف نحو الفقر؛ ما يسهّل نفوذ جماعات متشددة (مثل فرع داعش الأفغاني) بين الشباب الريفي.

السيناريو الأقلّ احتمالًا هو انهيار النظام، وعدم وجود بديل مركزي قادر على ملء الفراغ.  في هذه الحالة، قد تنطلق شرارة الثورة من الطبقات الشعبية المستاءة من جراء التهميش الاقتصادي، أو من ثورة عرقية في إقليم غورنو- بادخشان (ذي الأقلية الباميرية) تنتشر إلى الأقاليم الأخرى؛ وهنا تبرز مخاوف مصحوبة بتدخل قاسٍ: فقد ينسحب بعض ضباط الجيش (كما فعل قائد فيلق عام 2015)، مما يفتح أبواب البلاد أمام تسلل عناصر من “داعش خراسان”. وللسيطرة على الفوضى، قد تطلب طاجيكستان مساعدة حلفائها؛ فالدولتان الراعيّتان لها (روسيا والصين) تحافظان على قواعد عسكرية هناك يمكن أن تُستخدما لإعادة الاستقرار.

مهما كان الطريق، يبقى خطر تنامي التيارات المتشددة حاضرًا، فطوال السنوات الماضية، اعتمد النظام الطاجيكي حملة قمع قاسية ضد أي معارضة، مُصنفًا كثيرًا من نشطاء المجتمع المدني “إرهابيين” بلا أدلة قطعية، ومع أي اهتزاز للسلطة، فإن مقاتلي داعش العائدين، أو جماعات مثل “أنصار الله” في بادخشان ستنظر إلى الفراغ السياسي بوصفه فرصة لتعزيز وجودها؛ ولذلك، ينبغي لصانعي القرار أن يدرسوا -بعناية- هذه الاحتمالات، فهل يبقى الخيار التقليدي (التضييق الأمني واستمرار الحكم الوراثي) آمنًا في المدى البعيد؟ أم يجب التفكير في إصلاحات سياسية واقتصادية تخلق متنفسًا سلميًّا بعيدًا عن التطرف؟ المفتاح هو تحضير سيناريوهات بديلة سلفًا، وضمان دعم دولي وإقليمي للحفاظ على الاستقرار أو إعادة بنائه دون انجرار البلاد إلى درك العنف والفوضى.

خريطة المقاتلين من آسيا الوسطى في سوريا والعراق.. الجنسيات والتنظيمات والمسارات

لقد تفرقت خريطة المقاتلين من آسيا الوسطى في سوريا والعراق فوضويًّا، لكن بالإمكان رسم ملامحها، فطاجيكستان وأوزبكستان تصدّران أكبر عدد من المقاتلين، لا سيما نسبةً إلى عدد السكان، حيث يُشير الخبراء إلى وجود نحو ألفي طاجيكي وآلاف آخرين من الأوزبك شاركوا مع “الدولة الإسلامية” وجماعات إسلامية أخرى. كما سُجّلت مشاركة مئات المقاتلين من قرغيزستان وكازاخستان. مثلًا، قُدّر أن نحو 250 كازاخيًا غادروا نحو “الجهاد” في سوريا حتى عام 2015. في قرغيزستان، تحدّث المسؤولون عام 2015 عن مئتي مواطن، بينهم نحو ثلاثين امرأة، غادروا البلاد، كما يؤكد باحثون مستقلون وجود 500- 1000 مقاتل من أقلية الأوزبك القرغيزية جنوب البلاد. مناطق أخرى، مثل تركمانستان وكازاخستان، بها أعداد أقل، لكنها تبقى على أهبة الاستعداد.

المقاتلون من آسيا الوسطى لم يندمجوا داخل تنظيم “الدولة الإسلامية” فقط؛ بل انضمّ كثيرون منهم أيضًا إلى جبهات مرتبطة بالقاعدة. على سبيل المثال، تشكلت فصائل خاصة بهم لقتال الأسد تحت راية “جبهة النصرة” (أو الحلفاء الإسلاميين في شمال سوريا)، حملت أسماء محلية مثل “حركة الإمام البخاري”، وجماعة البناطرش، ولواء شباب الإسلام.  ومن اللافت أيضًا أن بعض هؤلاء المقاتلين انضموا إلى وحدات تضم عناصر من القوقاز، خاصة الداغستانيين، في فصائل مثل جبهة تحرير أهل السنة في داغستان.

أما مساراتهم إلى سوريا فتنوعت تبعًا للظروف، إذ سافر كثير منهم بالطرق التقليدية: عبر روسيا ووسط آسيا وصولًا إلى تركيا، ومن هناك دخلوا الأراضي السورية عبر معبر “أونجوك” وغيره. بنية الجهاديين من دول الاتحاد السوفيتي السابق ساعدتهم على تسهيل هذه الرحلة، إذ وُجد أنهم يشكلون شبكات مساندة وأنشطة جمع تمويل في المدن الروسية الكبرى. غير أن سقوط “داعش” أجبر الآخرين على تغيير مسارهم؛ فقد اتجه بعضهم شرقًا نحو أفغانستان (الالتحاق بداعش خراسان أو طالبان)، أو إلى ليبيا والبلقان، أو بقوا معززين لمجموعاتهم في شمال سوريا دون تغيير مكانهم الجغرافي.

وماذا بعد؟ الأمر يختلف من حالة إلى أخرى؛ فبعض المقاتلين لقوا حتفهم أو قُتلوا في المعارك، وآخرون بقيت أسماؤهم في القوائم السوداء الدولية. كثير من النساء والأطفال (أُسر المقاتلين) رُحِّلوا من المخيمات ويُعادون إلى دولهم، كما فعلت قرغيزستان مثلًا بتسلمها مئات منهم، لكن عائدين مسلحين من الرجال لا يزالون يمثلون قلقًا كبيرًا؛ بعضهم احتفظ ببقائه في بلدانهم متخفيًا، وبعضهم يراوح بين مخابئ سرية وثبات في تنظيمات إقليمية أخرى. وفي كل الأحوال، فإن عودة هذه الفئات ستشكل اختبارًا لقدرة دول آسيا الوسطى على استيعابهم أو مواجهتهم، وقد تدفع بعضها إلى تعزيز التعاون مع روسيا والصين في مجال استخبارات الحدود المشتركة لمنع أي محاولات انتقامية، أو عمليات إرهابية محتملة.

كيف تعيد روسيا والصين ضبط إستراتيجياتهما الأمنية بسبب العائدين من الشرق الأوسط؟

أثقل صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” وهبوطه كاهلَ كل من موسكو وبكين في آسيا الوسطى؛ فروسيا، التي لها تاريخ طويل في مواجهة إرهاب الشيشان والقوقاز، رأت في الحرب السورية حدثًا ذا شقّين: من جهة، عملت على إبراز دورها العالمي بوصفها قوة مكافحة الإرهاب (معززة وجودها في سوريا)، ومن جهة أخرى، تشعر بقلقٍ من عودة آلاف مواطنيها وآسيويّيها الجنوبيين إلى الأراضي الروسية أو حدودها؛ ومن ثمّ بدأت موسكو بوضع مزيد من الضوابط؛ فقد زادت التعاون الأمني مع دول آسيا الوسطى عبر منظمة “حلف شنغهاي”، و”معاهدة الأمن الجماعي”، ونشرت قوات على حدودها الجنوبية مع دول مثل كازاخستان وطاجيكستان؛ لمراقبة تحرّكات المشتبه بهم. كما تستثمر شراكاتها مع عواصم المنطقة في برامج لإعادة تأهيل العائدين مقابل دعم مالي وتقني، في حين تُبقي على سياسة “صرامة أمنية” محلية في الداخل (خاصةً في داغستان والقوقاز) لمنع تكرار هجمات على غرار مسرح موسكو مؤخرًا.

 أما الصين فقد عاملت القضية نظريًّا على أنها مسألة أمن قومي. فقلق بكين من انتشار التطرف على حدودها الغربية، خاصةً في إقليم شينجيانغ المجاور لطاجيكستان، دفعها إلى تعزيز وجودها في آسيا الوسطى. أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية دائمة لها خارج أراضيها في طاجيكستان، وتشارك دوريات حماية الحدود مع الجيش الطاجيكي. كما زادت الصين تمويل برامج تنمية في المنطقة لتقوية الجبهة الاقتصادية ضد الأفكار المتشددة. وعلميًّا، عملت أجهزة الاستخبارات الصينية مع نظيراتها الروسية والطاجيكية على تبادل المعلومات عن العصابات الإرهابية العابرة للحدود.

في كلا البلدين، يبدو الاتجاه حاليًا هو “إعادة ضبط” الإستراتيجيات الأمنية من خلال بناء جدران من التنسيق الإقليمي، فروسيا والصين توصّلا إلى اتفاقيات تقضي بإرسال قوات مشتركة إلى طاجيكستان إذا اقتضت “الحاجة الملحة”، كما ذُكر في تقرير حديث. كما عزز الطرفان مراقبتهما لتحركات المقاتلين الأجانب في آسيا الوسطى؛ فوزارة الدفاع الروسية مثلًا تحرص على إشراك حلفائها في تمارين عسكرية لحماية الحدود الأفغانية. وفي المقابل، تسعى الصين إلى تقديم مساعدات إنسانية وثقافية لبعض شيوخ القرى الحدودية في طاجيكستان وأوزبكستان، في محاولة لقطع أي حبال رعاية فكرية قد تمتد إلى الإرهابيين.

باختصار، يواجه كل من موسكو وبكين معادلة صعبة: كيف تحققان الاستقرار الأمني في الجوار دون أن تفسدا تحسّن علاقاتهما مع حكومات آسيا الوسطى؟ فالحل يكمن في تعزيز منظومة الأمان الإقليمي (التعاون الاستخباراتي والتمرينات المشتركة)، وتقديم حوافز تنموية، ومراقبة عودة المقاتلين بحزم متوازن. إن تجاهل أو تهوين خطر العائدين قد يُعيد شبح الإرهاب إلى أراضٍ جُهدَ كثيرًا لإبعادها عنه، في حين أن تكريس نهج قمعي متعجرف قد يزيد حالة الإحباط في المجتمع؛ لذلك يختم المختصون بأن أفق السياسات الأمنية الجديدة يجب أن يضم رؤية متكاملة، تجمع بين تعزيز الحدود، ودعم التنمية المحلية، وتشجيع الحوار الفكري، كل ذلك في إطار شراكة روسية- صينية- وسطى آسيوية تعيد التوازن إلى أمن المنطقة.

الاستنتاجات

من أهم الاستنتاجات التي ينبغي أن تشكّل أساسًا لصياغة سياسات إقليمية فعالة: أولًا- الخطر لم ينتهِ بسقوط ما يُعرف بـ”الخلافة”؛ بل تحوّل إلى تهديد متغير الشكل ينتقل عبر الحدود، تغذّيه شبكات نائمة، وبنى تمويل وتجنيد عابرة للقوميات. إن دول آسيا الوسطى، وعلى رأسها طاجيكستان وأوزبكستان، باتت خط تماسٍ جديدًا لهذا الخطر، سواء من خلال الحدود المشتركة مع أفغانستان، أو من خلال العائدين من ساحات القتال الذين يصعب تتبعهم واحتواؤهم.

ثانيًا- غياب إستراتيجية موحدة لمواجهة هذه الظاهرة يُضعف قدرة المنطقة على الرد، فبينما تنتهج بعض الأنظمة نهج التعتيم والإنكار (كما في تركمانستان)، تعتمد أخرى سياسة القبضة الأمنية فقط، دون حلول اجتماعية أو اقتصادية مرافقة، وهذا التفاوت في المقاربات يخلق فراغًا يمكن أن تستغله الجماعات المتطرفة لتعزيز وجودها وشرعيتها لدى شرائح مهمّشة أو مستاءة من الحكومات؛ ومن هنا يتبيّن أن استقرار الأنظمة الحاكمة لا يُعدّ كافيًا في ذاته، خاصة في ظل تحوّلات سياسية مرتقبة، كتوريث السلطة في طاجيكستان؛ ما قد يفتح ثغرات خطيرة في الجدار الأمني للدولة.

ثالثًا- المعضلة لا تقتصر على الرجال المقاتلين؛ بل تشمل النساء والأطفال، الذين يشكّلون حاضنة أيديولوجية مستقبلية إذا لم يُدمَجوا في مجتمعاتهم على نحو مدروس؛ ولذلك تصبح إعادة التأهيل والدمج الاجتماعي العادل ضرورة أمنية، وليست فقط إنسانية. وفي هذا الإطار يتضح أن الرد الأمني الصرف لم يعد كافيًا؛ بل يجب أن يرافقه مشروع تنموي شامل يعالج جذور التطرف من تهميش، وفقر، وغياب عدالة.

رابعًا- تنظر كلٌّ من روسيا والصين إلى هذه القضية بوصفها امتدادًا لأمنها القومي؛ ومن هنا جاءت تحركات موسكو وبكين لإعادة ضبط إستراتيجياتهما الأمنية، من خلال تعزيز وجودهما العسكري والاستخباراتي في آسيا الوسطى، إلى جانب سياسات “القوة الناعمة” من خلال دعم مشروعات تنموية ومبادرات محلية. ومع ذلك، فإن هذا الانخراط محفوف بمعادلة حساسة: كيف تفرض هاتان القوتان الاستقرار دون إثارة قلق الأنظمة الحاكمة أو الشعوب؟

وأخيرًا، الاستنتاج الأعمق يتمثل في ضرورة بناء منظومة أمنية إقليمية جديدة، قادرة على التنسيق وتبادل المعلومات، وتحديد التهديدات قبل وقوعها، فالمعركة اليوم لم تعد تقليدية؛ بل شبكية، تتطلب أدوات غير تقليدية، تجمع بين الحزم الأمني والذكاء الاستباقي، بين الردع والعلاج، بين الدولة والمجتمع. إن تجاهل هذا التحوّل يعني فتح الباب أمام عودة شبح الفوضى في فضاء أوراسيا الهش.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع