مقالات المركز

خطة ترمب الجديدة.. انتصار للواقعية


  • 23 نوفمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: thetimes

تحظى الخطة الجديدة للرئيس الأمريكي دونالد ترمب لوقف الحرب في أوكرانيا بكل محفزات النجاح وأسبابه وعوامله؛ لأن من يدقق في الخطة، التي تتكون من 28 بندًا، يتأكد أنها “متوازنة وعادلة”، والأهم أنها “خطة واقعية”، ووُضعت برؤية إستراتيجية لا تعالج فقط كثيرًا من الأسباب التي قادت إلى هذا الصراع الدموي؛ بل تؤسس لسلام واستقرار دائمين بين روسيا وكل جيرانها الأوروبيين، وتعيد من جديد الروح إلى رؤية وفلسفة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر الذي كان يرى في روسيا “محور السلام والاستقرار العالمي” لفترة تزيد على 4 قرون.

وتتجلى واقعية هذه الخطة في روح الإصرار على وقف الحرب بما يحقق جزءًا كبيرًا من أهداف الطرفين الروسي والأوكراني، ويحفظ ماء الوجه للجميع في روسيا وأوكرانيا وأوروبا، ويتصدى بشجاعة للقضايا المحورية التي عجز الكثيرون عن الاقتراب منها، خصوصًا من الأوروبيين الذين ما زال جزء كبير منهم يراهن على فشل الخطة الجديدة رغم الزخم الأمريكي، ووضع الرئيس ترمب “مهلة أخيرة” للتوقيع عليها من جانب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ليلة عيد الشكر الموافق الخميس المقبل 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري.

تتجسد واقعية الرئيس ترمب في هذا التحرك الجديد “أنه بنى الخطة على ما يجري على الأرض من تفوق روسي كاسح في جميع محاور القتال من خاركييف وسومي أقصى الشمال الشرقي إلى أقصى الجنوب في خيرسون وزابوروجيا، وعدم قدرة الأوروبيين على دعم الجبهة الأوكرانية بالسلاح والذخيرة والمال إلى الأبد في ظل المشكلات الكبيرة التي يعانيها الجيش الأمريكي، مثل النقص في السلاح والذخيرة بسبب تجريف مخازن السلاح الأوروبية والأمريكية منذ فبراير (شباط) 2022، فالولايات المتحدة لا تستطيع أن تدفع إلى الرئيس الأوكراني أكثر مما دفعت بعد أن قال الرئيس ترمب مرارًا وتكرارًا إن بلاده قدمت أكثر من 300 مليار دولار مساعدات عسكرية ومدنية لأوكرانيا منذ بدء الصراع، كما أن الأوروبيين لا يستطيعون وحدهم مواصلة دفع تكاليف الحرب التي تصل إلى نحو 6 مليارات دولار شهريًا من أجل هزيمة روسيا، أو تغيير النتائج على الأرض في ظل التفوق الروسي الواضح في حشد الجنود، فضلًا عن تفوق مصانع السلاح والذخيرة الروسية على كل ما لدى الأوروبيين من خطوط إنتاج للسلاح والذخيرة، فالدول الأوروبية قدمت ما يزيد على 200 مليار دولار لأوكرانيا في صورة مساعدات عسكرية واقتصادية وإنسانية، كما أن ما يسمى بتحالف “الراغبين” الذي يضم نحو 50 دولة، ويضم دولًا من خارج أوروبا والولايات، مثل أستراليا وكوريا الجنوبية واليابان، قدم ما يزيد على 50 مليار دولار أخرى. وبعد إنفاق كل هذه الأموال يرفض الناخبون الذين انتخبوا الرئيس ترمب دفع مزيد من الأموال إلى أوكرانيا، كما أن المواطن الأوروبي دفع فاتورة غالية من ازدهاره ورفاهيته بعد ما يقرب من 3 سنوات على الحرب في أوكرانيا؛ ولهذا فإن أي رفض أوكراني للخطة الجديدة يعني ذهاب كييف إلى الحرب بمفردها، أو بدعم الأوروبيين فقط، وهذا لا يمكن أن يساعد أوكرانيا على استعادة الأراضي التي سيطر عليها الجيش الروسي منذ 24 فبراير (شباط) 2022، فالرئيس ترامب واضح جدًا في هذه القضية، حيث نقل المقربون منه قوله إن رفض زيلينسكي الخطة الجديدة يعني وقف الدعم الأمريكي العسكري والاستخباراتي للجيش الأوكراني.

لسان حال الرئيس ترمب عندما طرح هذه الخطة بهذه الواقعية أن الغرب قدم كل شيء لأوكرانيا، لكنها فشلت في العودة إلى حدود 1991، بل شهد العامان الأخيران تراجعًا أوكرانيًا واضحًا في جميع الجبهات منذ فشل ما يسمى “بالهجوم المضاد” في 4 يونيو (حزيران) 2023، وفشلت ورقة استبدال دونباس باحتلال أوكرانيا لمقاطعة كورسك بعد نجاح الجيش الروسي في طرد الأوكرانيين من مقاطعة كورسك، ولا يوجد أي احتمال -بأي نسبة- لتكرار الهجوم الأوكراني على كورسك، أو بيلغورد، أو بريانسك، وهو ما يعني عمليًا وواقعيًا أن استمرار الحرب ما هو إلا استنزاف لكل الأطراف، وفي مقدمتهم دافع الضرائب الأمريكي، وهو أمر يحتاج أن يتوقف من وجهة نظر الجمهوريين الساعين إلى الفوز من جديد في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2026. فما المكاسب التي سوف تحصل عليها روسيا وأوكرانيا وأوروبا والولايات المتحدة من خطة ترامب الجديدة؟ وهل يمكن أن تعرقل بعض الأطراف القومية الأوكرانية والديمقراطيون في الكونجرس الأمريكي هذه الخطة؟ وماذا عن خطة استنزاف روسيا التي تؤمن بها بعض الأطراف الأوروبية؟

مكاسب للجميع

تأتي “واقعية” خطة الرئيس ترمب أنها تمنح “مكاسب” لجميع الأطراف في ظل سيطرة روسيا على نحو 20% من حدود أوكرانيا لعام 1991، بإجمالي نحو 115 ألف كم من إجمالي مساحة أوكرانيا التي تصل إلى 604 آلاف كم، فجميع الأطراف في روسيا وأوكرانيا وأوروبا والولايات المتحدة سوف تربح من تلك الخطة التي تمنح أيضًا مكاسب لكل دول العالم التي تضررت من هذه الحرب التي كانت سببًا في ارتفاع التضخم العالمي، وهذه المكاسب هي:

أولًا- روسيا

سوف تحقق روسيا من خلال هذه الخطة غالبية المطالب التي كان الكرملين يطرحها طوال فترة الحرب، وحتى قبل الحرب، وأهم ما تنطوي عليه هذه الخطة أنها تعالج “جزءًا كبيرًا” من جذور تلك الحرب وأسبابها، وتمنح روسيا المكاسب التالية:

1- المقاطعات الخمس

تمنح خطة الرئيس ترمب روسيا السيطرة على نحو 20% من الأراضي الأوكرانية التي كانت تابعة لكييف قبل مارس (آذار) 2014، وتضم 5 مقاطعات رئيسة، حيث تمنح خطة ترمب بفرض السيادة الروسية على شبه جزيرة القرم، وإقليم دونباس الذي يضم مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك بالكامل إلى روسيا، في حين تحتفظ كلٌّ من روسيا وأوكرانيا بالمساحات التي تسيطر عليها فقط في خيرسون وزابوروجيا. وسبق لروسيا أن ضمت شبه جزيرة القرم عام 2014، وضمت المقاطعات الأربع الأُخر خيرسون وزابوروجيا ولوغانسك ودونيتسك في سبتمبر (أيلول) 2022. وفي الوقت الحالي يسيطر الجيش الروسي على نحو 88% من إقليم دونباس، ونحو 75% من خيرسون وزابوروجيا، وتطرح الخطة تبادلًا محدودًا لمساحات من الأراضي يسيطر عليها الجيش الروسي في خاركييف، وسومي، وميكولايف. ووفق خطة نشرها البيت الأبيض في 30 أغسطس (آب) الماضي، فإن الجيش الروسي يسيطر حاليًا على 99% من مقاطعة لوغانسك، ولم يتبق سوى جيوب صغيرة في أيدي القوات الأوكرانية تُقدر مساحتها بنحو 23 كم حتى أغسطس (آب) الماضي، كما يسيطر الجيش الروسي على 76% من مقاطعة دونيتسك، حيث يسيطر على نحو 20 ألف كم من مساحة المقاطعة التي لا تزيد على 26 ألف كم، وهذا يعني أن الجيش الروسي يسيطر على نحو 88% من إقليم دونباس، في حين تسيطر روسيا على 76% من مساحة مقاطعة زابوروجيا، حيث تسيطر على 19.5 ألف كم من إجمالي مساحتها التي لا تزيد على 27 ألف كم، بما فيها مدينة إنيرغودار التي تضم أكبر محطة للطاقة النووية في أوروبا، وهي محطة زابوريجيا للطاقة النووية. أيضًا يسيطر الجيش الروسي على 73% من مقاطعة خيرسون، حيث يسيطر على نحو 18 ألف كم من مساحة المقاطعة التي يصل إجمالي مساحتها إلى 28.5 ألف كم.

2- إغلاق باب “الناتو”

تحل خطة ترمب أزمة كبيرة تتعلق بتوسع حلف دول شمال الأطلسي (الناتو) شرقًا، حيث تغلق الباب تمامًا أمام دخول أوكرانيا حلف “الناتو”، وكان هذا مطلبًا رئيسًا لموسكو، وسببًا جوهريًا لاندلاع الحرب، لكن هذا المكسب لا يتعلق فقط بأوكرانيا، فإغلاق باب “الناتو” أمام أوكرانيا يعني أن دولًا مثل جورجيا ومولدوفا لن تتمكن من دخول “الناتو”، وهذا مكسب كبير “لسيد الكرملين” الرئيس بوتين.

3- النموذج الألماني

تنص الخطة على تحديد عدد الجيش الأوكراني بنحو 600 ألف جندي، وفي هذا تكرار “للنموذج الألماني” بعد الحرب العالمية الثانية، حتى تركز أوكرانيا على التنمية والازدهار في المستقبل، وتعيش في سلام وأمان مع روسيا. وفي الوقت الحالي يصل عدد الجيش الأوكراني إلى نحو مليون جندي، وهذا يعني أن أوكرانيا لا يمكن أن تشكل خطرًا على روسيا في المستقبل القريب، على الأقل خلال العقدين المقبلين، خصوصًا أن الخطة تمنع أوكرانيا من شراء أسلحة بعيدة المدى يمكن أن تهدد بها العمق الروسي.

4- قوات خارج أوكرانيا

تُقر الخطة بالرغبة الروسية في عدم إرسال أي قوات تحت علم “الناتو” أو قوات “الدول الأوروبية” إلى أوكرانيا، كما كانت تقترح فرنسا وبريطانيا من قبل، وهي القوات التي أثارت جدلًا كبيرًا في أوروبا وكانت موسكو تراها خطرًا على الأمن الروسي، وكانت تعد  هذه الخطوة بمنزلة شرارة لحرب جديدة، وليس لوقف الحرب في أوكرانيا.

5- رفع العقوبات

لا تضمن هذه الخطة رفع العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا فحسب؛ بل دمج روسيا في الاقتصاد العالمي من خلال عودتها إلى مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى بعد أن خرجت من المجموعة عقب سيطرة الجيش الروسي على شبه جزيرة القرم عام 2014.

ثانيًا- أرباح أوكرانية

تطرح الخطة مكاسب لأوكرانيا، وتحل كثيرًا من المشكلات التي رافقت خروج أوكرانيا للنور منذ عام 1917، وهذه المكاسب هي:

1- دولة أوكرانية “كاملة السيادة”

من يراجع خطاب الرئيس بوتين ليلة اندلاع الحرب في أوكرانيا يكتشف أن هناك تشكيكًا روسيًا دائمًا في وجود الدولة الأوكرانية وحدودها التي ظهرت لفترة 4 سنوات فقط من عام 2017 حتى 2021 قبل أن تكون ضمن الاتحاد السوفيتي السابق. وفي عام 1954 نقل الاتحاد السوفيتي السابق شبه جزيرة القرم من روسيا إلى أوكرانيا. أما حدود 1991 فغالبية الروس لم يكونوا يعترفون بها، مع أن  الأمم المتحدة اعترفت بهذه الحدود عندما كانت روسيا في حالة انهيار بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، لكن خطة الرئيس ترمب تقول إن أوكرانيا سوف تكون دولة ذات سيادة كاملة على نحو 475 ألف كم، وهي مساحة كافية بأن تكون أوكرانيا دولة عملاقة اقتصاديًا وتنمويًا بعد حل مشكلاتها مع روسيا، ويمكن أن تسير على  المسار الألماني نفسه من النجاح والازدهار.

2- استرداد أراضٍ

تضمن خطة الرئيس ترمب استرداد أوكرانيا بعض الأراضي التي يسيطر عليها الجيش الروسي في الوقت الحالي خارج المقاطعات الخمس التي ضمتها موسكو، وسوف تسترد كييف نحو 4% من مساحة مقاطعة خاركييف، ونحو 1% من مساحة مقاطعتي سومي وميكولايف، بالإضافة إلى بعض الأراضي الصغيرة الأخرى في دنيبروبيتروفسك.

3- ضمانات أمنية

سوف تحصل أوكرانيا على ضمانات أمنية من أوروبا والولايات المتحدة تشبه الضمانات القائمة في حلف “الناتو”، بل ستُوضع طائرات عسكرية من الحلف الأطلسي في بولندا هدفها حماية أوكرانيا إذا شنت روسيا حربًا شاملة على أوكرانيا.

4- مناطق منزوعة السلاح

المناطق التي تشكل الآن نحو 18% من مساحة دونباس، والتي سوف تنسحب منها أوكرانيا، سوف تتحول إلى “منطقة عازلة” لا يكون فيها سلاح ثقيل من الجانب الروسي، وهو ما يعزز أمن أوكرانيا على المدى البعيد، ويمنع الاحتكاك العسكري بين موسكو وكييف في المستقبل.

5- خيرسون وزابوروجيا

لن تحصل روسيا على كل الأراضي في خيرسون وزابوروجيا، وهما مقاطعتان ضمتهما موسكو في سبتمبر (أيلول) 2022، وسوف يُجمَّد الصراع هناك وفق خط التماس الحالي، وهذا يعني حصول أوكرانيا على نحو 25% من مساحة هاتين المقاطعتين الصغيرتين، كما أنها سوف تحصل على جزء من عائدات محطة زابوروجيا للطاقة النووية، وهي أكبر محطة للطاقة النووية في أوروبا.

ثالثًا- مكاسب أمريكية وأوروبية

سوف يعود تركيز الأوروبيين على التنمية والتصنيع والازدهار بدلًا من إنفاق نحو تريليون يورو على السلاح والذخيرة، وهو ما يعيد قبلة الحياة للاقتصادات الأوروبية التي فقدت كثيرًا من الزخم خلال سنوات الحرب الثلاث، كما أن الولايات المتحدة تستطيع أن تركز على “الجبهة الصينية” في شرق آسيا وجنوب شرقها بعد أن استحوذت الحرب في أوكرانيا على أموال واشنطن وجهدها منذ فبراير (شباط) 2022.

3 عقبات

رغم كل المزايا التي تحظى بها هذه الخطة لكل الأطراف، فإن هناك من يمكنه إجهاض هذه الخطة، مثل القوميين الأوكرانيين الذين يقولون إن الحل يكمن فقط في العودة إلى حدود 1991، وعدم التنازل عن شبر واحد من الأراضي الأوكرانية، كما يعارض بعض الديمقراطيين في الكونغرس، مثل السيناتور جاك ريد من ولاية رود آيلاند، ومارك وارنر من فيرجينيا، وباتي موراي من واشنطن، وكريس كونز من ولاية ديلاوير، وبريان شاتز من ولاية هاواي، وإليزابيث وارن من ولاية ماساتشوستس. كما أن الخطة دعت لانتخابات جديدة في أوكرانيا، وهذا قد يكون سببًا آخر لتمسك الحكومة الأوكرانية الحالية بخيار الحرب خوفًا من خسارة أي انتخابات مقبلة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع