مقالات المركز

حوار “الضرورة” بين العرب وتركيا


  • 16 ديسمبر 2024

شارك الموضوع

تستعد المنطقة العربية وإقليم الشرق الأوسط لمرحلة جديدة بعد رحيل النظام السوري، وبدء تشكل معادلات سياسية وأمنية وعسكرية جديدة، سوف يكون لها تداعياتها الخطيرة ليس في سوريا أو المشرق العربي فقط؛ بل في كل المحيط العربي، وما يرتبط بالمنطقة العربية من تشابكات وتعقيدات، ومصالح كذلك، مع القوى الإقليمية غير العربية، مثل إيران وتركيا، وصولًا إلى تأثير ما يحدث بسوريا في “ميزان القوى الدولية”، وحضورها في المنطقة وخارجها، خاصة فيما يتعلق بالحسابات الأمريكية والروسية والصينية والأوروبية في المنطقة وخارجها.

ومن شأن هذه التشابكات والمصالح أن تطرح أسئلة كثيرة عن المستقبل، وأيضًا المسارات التي يمكن للدول العربية أن تسلكها للحفاظ على مصالحها، وحماية ما تبقى من “مساحة الأمل” في الحفاظ على وحدة سوريا، وعدم تفككها وتقسيمها على مائدة الطامعين والطامحين. وأفضل المسارات التي يجب على الدول العربية العمل عليها سريعًا هو المسار التركي؛ من خلال “حوار عربي تركي”، ليس فقط لأن تركيا باتت في المرحلة الحالية “الرقم الصعب والأهم” في المعادلة السورية؛ بل لأنه يمكن لتركيا والدول العربية أن تجد طريقًا مشتركًا ومساحة كافية للعمل على أهداف ومصالح مشتركة في سوريا بهدف الإبقاء على “الدولة السورية”، وعدم تحولها إلى دولة فاشلة، أو “عبء” على النظام الإقليمي العربي. ورغم المآسي والمظالم التي يشكو منها أبناء العروبة فيما يتعلق بتاريخ تركيا، خاصة في نهايات الحرب العالمية الأولى، فإن ما يحدث في سوريا يجعل الحوار العربي التركي العميق والصريح “ضرورة حتمية”؛ لعدد من الأسباب، أهمها:

أولًا- تجنب الأخطار المشتركة

المؤكد أن استقرار سوريا سوف يكون عاملًا إيجابيًّا للعالم العربي وتركيا في آن واحد؛ لأن وجود جماعات إرهابية، مثل داعش، أو حزب العمال الكردستاني -الذي تصنفه تركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة منظمة إرهابية- لا يتفق مع المصالح العربية والتركية؛ فتركيا تخشى ظهور كيان كردي مستقل على حدودها، بما يشجع نحو 20 مليون كردي داخل تركيا على التفكير في الأمر نفسه، وانفصال أكراد سوريا لن يكون له تأثير سلبي على وحدة سوريا فقط؛ بل سيشكل دافعًا إلى التقسيم والتشظي في المشرق العربي وتركيا، كما تخشى الدول العربية من خروج الدواعش من مخيم الهول، أو سجن جويران، ومعروف أن مخيم الهول وحده به نحو 90 ألف داعشي وأهالي الدواعش، وما يسمى “بأشبال داعش” الذين رفضت الدول الأوروبية استقبالهم خوفًا على أمنها، وخلال الأيام التي تلت رحيل نظام الأسد تحول تنظيم داعش من العمل السري وفي الظلام إلى العمل العلني في البادية السورية، كما أن المعارك التي تقودها القوات الكردية التابعة للإدارة المدنية الكردية في سوريا (قسد)، وخروج الأكراد من منبج وتل رفعت، والمعارك المستمرة مع قوات “الجيش السوري الحر” المدعوم من تركيا، يمكن أن يُضعفا الحراسة والقبضة الأمنية للأكراد على “مخيم الهول “، ويؤديا الى هروب دواعش مخيم الهول على غرار ما جرى في السجون السورية الأخرى، وهنا سوف تكون كارثة أمنية يصعب التحكم فيها، كما جرى في أعوام 2013 و2014 عندما سيطر داعش على مساحات واسعة من شرق سوريا وغرب العراق، وهنا تلقي المصالح العربية التركية في حصار وعزل العناصر الشديدة التطرف في كل الجغرافيا السورية.

ثانيًا- رسم خطوط المصالح المشتركة

هناك مصالح عربية مشتركة يمكن لسوريا أن تكون الجسر الذي يدعمها، منها الاحتفاظ بسوريا كدولة موحدة؛ لأن تفكك سوريا في المدى الإستراتيجي سوف يكون عبئًا شديدًا على تركيا؛ لأنه في تلك الحالة سوف تتعامل أنقرة مع كيانات ودويلات كثيرة في سوريا، وقد تتعرض لنوع من الانتقام الداخلي في ظل وجود نحو 10 ملايين علوي في تركيا يخشون على أقاربهم في سوريا، وفي الوقت نفسه لن يخدم تفكيك سوريا الأمن القومي العربي؛ ولهذا يمكن أن يحافظ كل طرف على مصالحه، بل يمكن أن يساعد الجانبين العربي والتركي الجانب الآخر على تحقيق أهدافه، من خلال رسم هذه الأهداف المشتركة في الحفاظ على الوحدة السورية.

ثالثًا- تركيا محور التفاعلات الأمنية والعسكرية في سوريا

لا شك أن تركيا باتت الآن هي “محور التفاعلات السياسية والأمنية والعسكرية” في سوريا؛ لأنها الداعم الحقيقي للفصائل المسلحة، وهي التي ترسم ملامح العملية السياسية والأمنية من خلف الستار في سوريا؛ ولهذا سارع كبار مسؤوليها، مثل وزير الخارجية، ورئيس المخابرات، بزيارة دمشق لهندسة المرحلة المقبلة مع الفصائل المسلحة؛ ولذا فإن “الحوار العربي التركي” مهم جدًّا حتى يكون الجانب العربي حاضرًا وفاعلًا في صياغة المعادلات السياسية والأمنية التي تنتظر سوريا في الأيام والسنوات المقبلة.

رابعًا- تصحيح القناعات

تاريخيًّا، كانت هناك قناعات خاطئة متبادلة بين الجانبين التركي والعربي، وربما تأسيس فكرة العروبة نفسها كان بدافع أن تقف كل الدول العربية أمام السلوك التركي في بداية القرن العشرين، لكنّ الجانبين نجحا اليوم في تجاوز كثير من الخلافات، وظهر هذا في عودة العلاقات التركية العربية إلى زخمها وقوتها مع السعودية ومصر والإمارات والعراق، لكن هذا لا ينفي وجود مخاوف عربية من أطماع تركية في سوريا، هذه الأطماع ظهرت في تصريحات من شخصيات قومية تركية، مثل دولت بهجلي، زعيم الحزب القومي التركي والشريك في التحالف الحاكم “تحالف الشعب”، وهنا تأتي أهمية “الحوار التركي العربي” حتى تسمع الدول والعواصم العربية الفاعلة الموقف والرأى الصحيح والرسمي من الحكومة التركية بشأن مساحة العمل المشترك التي يمكن أن تجمع بين العرب والأتراك في سوريا خلال المرحلة الفارقة من تاريخ سوريا.

خامسًا- تحييد الأطماع الإسرائيلية

الواضح أن إسرائيل استغلت الفراغ السياسي والأمني خلال الأيام الماضية لتقضي على نحو 90% من القدرات البرية والبحرية والجوية للجيش السوري، وهذا الأمر ليس في مصلحة تركيا والعالم العربي؛ لأن وصول الطائرات الإسرائيلية بدون أي عائق أو دفاعات جوية للحدود التركية ليس في مصلحة أنقرة على المديين الإستراتيجي والبعيد، كما أن القضاء على الجيش السوري بهذه الطريقة ليس في مصلحة الأمن القومي العربي؛ ولهذا فإن التنسيق العربي التركي في سوريا من شأنه أن يحد -ولو قليلًا- من الأطماع والاندفاعة الإسرائيلية على الأراضي السورية، ويمكن لأنقرة أن توجه أنظار الفصائل المسلحة إلى خطورة التحركات الإسرائيلية التي لم تعد تقتصر على الجولان والقنيطرة، بل ذهبت بعيدًا في أقصي جنوب سوريا، في درعا، وقرب الحدود السورية الأردنية.

سادسًا- ضمانات للعراق

أكثر الدول التي يمكن أن تعاني بسبب الفراغ السياسي والعسكري في سوريا هي العراق؛ لأن الفصائل المسلحة السورية لها امتدادات فكرية وأيديولوجية في العراق، حتى الاسم الخاص بهيئة تحرير الشام لا يقتصر على سوريا فقط؛ بل يشمل كل دول المشرق العربي، وتحاول الحكومة العراقية -بكل ما تملك من قوة- تأمين الحدود، وصد أي عمليات عسكرية محتملة؛ لأن ما يجري على الحدود العراقية السورية يمكن أن يكون له صدى في المحافظات الشمالية والشمالية الغربية في العراق، مثل محافظات الأنبار، وصلاح الدين، والموصل، وهي محافظات اجتاحها داعش عام 2014، واستغرق تحريرها نحو 4 سنوات، وهنا يأتي الدور التركي المهيمن والفاعل والمؤثر في كل القوى بسوريا حتى لا تحاول نقل تجربتها من سوريا إلى العراق. ويمكن أن يسهم التعاون الاقتصادي الكبير بين تركيا والعالم العربي في تأكيد المصالح التركية من خلال التعاون والتشارك مع العالم العربي، وتكفي الإشارة هنا إلى أن الميزان التجاري بين تركيا والعراق فقط وصل إلى نحو 20 مليار دولار في عام 2023، وتسطيع تركيا أن تؤدي دورًا إيجابيًّا لمنع نقل تجربة الفصائل المسلحة من سوريا إلى العراق الذي عانى النسخة السابقة من الإرهابيين الذين انتقل بهم أبو بكر البغدادي مما يسمى “الدولة الإسلامية في سوريا والعراق”، وأزال الحدود بين البلدين، وصولًا إلى تأسيسيه ما يسمى “تنظيم الدولة الإسلامية”، الذي كان قائمًا عمليًّا على أراضٍ في سوريا والعراق.

سابعًا- ضمانات ليبية

هناك اتفاق أن جميع الأوراق التي تملكها تركيا في سوريا تتشابه مع أوراقها في ليبيا، فعلى سبيل المثال كان لتركيا قواعد عسكرية شمال غرب سوريا في شمال محافظة إدلب لمنع تمدد الأكراد بعد مدينتي منبج وتل رفعت، وكذلك كان لها وجود عسكري في شمال شرق سوريا، وكانت تسعى دائمًا إلى إنشاء منطقة عازلة بعمق 35 كم، كما طلب الرئيس رجب طيب أردوغان من نظيره الأمريكي دونالد ترمب عام 2019، وفي ليبيا قاعدتان عسكريتان لتركيا؛ الأولى جوية في منطقة “الوطية”، والثانية بحرية في “مصراتة”. كما يعمل الجيش السوري الحر لمصلحة تركيا في طرد الأكراد من مدينتي منبج وتل رفعت، ويشتبك في هذه الأيام مع الأكراد شرق الفرات، ويمكن للدول العربية أن تطلب “ضمانات تركية” بالسيطرة على الفصائل المسلحة التابعة لحكومة عبد الحميد دبيبة في غرب ليبيا؛ لعدم إثارة الفوضى في ليبيا، أو أي محاولة جديدة للحرب مع الجيش الوطني الليبي في الشرق؛ لأن هناك أصواتًا تركية بالفعل بدأت بالحديث عن تراجع العناصر الروسية الموجودة شرق ليبيا، إذ يزعم بعضهم أن كل هذا يوفر فرصة للجماعات المسلحة غرب ليبيا لتكرار النموذج السوري في ليبيا، ومعروف أن تركيا هي الراعي والمظلة لكل الفصائل غرب ليبيا؛ ولهذا سيكون الحوار العربي التركي بشأن هذا الملف مهم جدًّا.

ثامنًا- حسن الجوار

في تجربة ما يسمى “الربيع العربي” عام 2011، تخلت تركيا عن مبدأ حسن الجوار، ودعمت مجموعات كانت تعمل ضد دولها، لكن بداية من عام 2020 عادت العلاقات العربية التركية إلى سابق عهدها، وربما أقوى، لكن بعد ما حدث في سوريا عادت نفس مجموعات عام 2011 إلى الحديث عن تحقيق الحلم القديم، وهؤلاء يراهنون في المقدمة على دعم أنقرة لهم، على غرار دعم تركيا للفصائل المسلحة، وهنا سيكون الحوار العربي التركي مهمًّا جدًّا لتأكيد ضرورة احترام مبدأ حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية.

ثبت أن الدبلوماسية والحوار المباشر هما أفضل وسيلة من أجل حل الصراعات والخلافات، وتنحية القناعات الخاطئة، وهو ما يقول إن “الحوار العربي التركي” في هذه المرحلة بشأن سوريا ستكون له ثمار إيجابية وطيبة للطرفين العربي والتركي.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع