كان إيرل بيل، وزير الدولة البريطاني لشؤون الهند، أول من اقترح “حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية” عقب المظاهرات الضخمة، و”الثورة العربية في فلسطين” عام 1936، وكان هذا المقترح هو الأساس الذي قام عليه قرار التقسيم رقم (181)، الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، كما كان المفكر السياسي الأمريكي نعوم تشومسكي أول من طرح مصطلح “حل الدولتين” في وسائل الإعلام الأمريكية عقب حرب 5 يونيو (حزيران) 1967، وتعرض بسببه لانتقادات لاذعة من اللوبي الصهيوني وصلت إلى حد التهديد بالقتل، لكن أول رئيس أمريكي نطق كلمة “دولة فلسطينية” كان الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون.
ورغم مرور ما يزيد على 8 عقود على طرح “حل الدولتين حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية” أول مرة، لم ترَ الأجيال الفلسطينية المتعاقبة أي أفق حقيقي لقيام الدولة الفلسطينية وفق حل الدولتين، بما في ذلك اتفاقية أوسلو في 13 سبتمبر (أيلول) عام 1993، التي وضعت الأساس للسلطة الوطنية الفلسطينية، ورسمت طريقًا لإقامة دولة للفلسطينيين بحلول عام 1999. واليوم مع اندلاع الحرب الجديدة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، تتعالى الأصوات الإسرائيلية الداعية إلى خلق “واقع أمني وسياسي” جديد للتعامل مع قطاع غزة والضفة الغربية، فالنتيجة التي ينتظرها الليكود ومن معه في الحكومة من حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة والضفة الغربية، هي دفع سكان تلك المناطق إلى الهجرة خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأكثر من مسؤول إسرائيلي، ومنهم داني أيالون، العضو البارز في التحالف الحاكم، دعا سكان غزة للذهاب إلى شبه جزيرة سيناء، وبالتوازي مع ذلك تعمل إسرائيل على تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية لنهر الأردن إلى الضفة الشرقية للنهر، أي إلى المملكة الأردنية الهاشمية.
اللافت أيضًا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عرض، في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، من على منصة الأمم المتحدة، “خريطة” لإسرائيل الكبرى، لا يوجد فيها تنازل عن شبر واحد من فلسطين التاريخية لنحو 5.6 مليون فلسطيني، منهم 2.3 مليون نسمة في قطاع غزة، و3.3 مليون في الضفة الغربية والقدس الشرقية. ورغم حديث الكثيرين عن حل الدولتين بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، فإن الخطاب السياسي الإسرائيلي والأمريكي في الوقت الحالي لا يعطي “حل الدولتين” أي أولوية، فهل ما زال حل الدولتين مطروحًا على الطاولة ؟ وكيف عملت إسرائيل- بدعم كامل من الولايات المتحدة- على تفريغ “حل الدولتين” من مضمونه ؟ وما الخيارات المتاحة للشعب الفلسطيني حال التـأكد من الوفاة الكاملة لهذا الحل؟
المؤكد أن فشل المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعدم الاتفاق على قضايا الحل النهائي التي تتعلق بالقدس، واللاجئين، والحدود، والمستوطنات، كان وراء تراجع “حل الدولتين” الذي مرَّ بسلسلة من المراحل، وهي:
أولًا: لجنة بيل عام 1937، وهي أول تصور لتقسيم أراضي فلسطين التاريخية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكانت ردًا على طلب الشعب الفلسطيني جلاء الاحتلال البريطاني، ووقف هجرة اليهود إلى فلسطين. ونتيجة لأعمال العنف التي ارتكبتها الميليشيات الصهيونية آنذاك، سعت حكومة بريطانيا إلى تقديم هذا الحل لمنع العنف بين الطرفين.
ثانيًا: لجنة وود هيد عام 1938، وحاولت أن تعيد فكرة التقسيم على أطراف المعادلة الثلاثة، وهم الفلسطينيون، والإسرائيليون، والحكومة البريطانية، لكنها في النهاية فشلت في وقف العنف الذي تمارسه العصابات الإسرائيلية بحق السكان الفلسطينيين.
ثالثًا: قرار التقسيم رقم (181)، هو أول قرار أممي بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر يناير (كانون الثاني) 1947، ويقسم فلسطين التاريخية إلى 3 أقسام؛ دولتين ومنطقة دولية، ودولة فلسطينية تضم 11 ألف كم، بنسبة 42.3 % من إجمالي دولة فلسطين، وكانت تضم أراضي ومدنًا قريبة من غلاف غزة، مثل عكا، والجليل الغربي، وأسدود، وأجزاء من صحراء النقب، ودولة يهودية تضم 15 ألف كم، بنسبة 57.7 % من أراضي فلسطين التاريخية، في حين وُضعت مدينة القدس ومدينة حيفا، وجميع الأراضي الفلسطينية المجاورة لهما، تحت الوصاية الدولية، وصوتت 33 دولة لصالح القرار، وعارضته 13 دولة، وامتنعت 10 دول عن التصويت.
رابعًا: القرار رقم (242) لعام 1967، هذا القرار هو صدى للمقترح الذي قدمه نعوم تشومسكي، وصدر في 22 نوفمبر (كانون الثاني) عن مجلس الأمن الدولي، ومع أنه يدعو صراحة إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلها في 4 يونيو (حزيران) 1967، فإن إسرائيل قالت بعد ذلك إن القرار يدعو إلى الانسحاب من “أرض محتلة”، وليس “الأرض المحتلة”، بمعنى أنها لا تريد الانسحاب من كل الأراضي؛ بل من بعض الأراضي فقط.
خامسًا: الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل، فرغم قيام دولة إسرائيل في مايو (أيار) 1945، وعدم قيام الدولة الفلسطينية في الوقت نفسه، طلبت إسرائيل من منظمة التحرير الفلسطينية الاعتراف بها، وقبلت منظمة التحرير- الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني- بهذا الأمر، واعترفت بإسرائيل عام 1988، وكان هذا نقلة نوعية كبيرة في إدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ومع ذلك لم تقدم إسرائيل مقابل هذه الخطوة حتى الآن.
سادسًا: اتفاقية أوسلو، ووقّعت في 13 سبتمبر (أيلول) 1993 بعد مفاوضات طويلة وماراثونية بين حركة فتح وإسرائيل في العاصمة النرويجية أوسلو، بين الرئيس ياسر عرفات، ممثلًا عن منظمة التحرير الفلسطينية، وشمعون بيريز، وزير الخارجية الإسرائيلية آنذاك، ونصت على قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل بحلول سنة 1999.
سابعًا: اللجنة الرباعية وخريطة الطريق، وكانت بمقترح من رئيس الوزراء الإسباني الأسبق خوسيه ماريا أزنار، في 30 أبريل (نيسان) عام 2002، وتضم روسيا، والولايات المتحدة، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ووضعت خريطة طريق تنص على إقامة دولة فلسطينية بحلول عام 2005، مقابل وقف الفلسطينيين الانتفاضة الثانية.
ثامنًا: المبادرة العربية عام 2002، وجوهر هذه المبادرة هو حل الدولتين؛ لأنها تدعو إلى التطبيع الكامل مع إسرائيل مقابل قيام دولة فلسطينية على حدود 4 يونيو (حزيران) عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، ورغم دعوة هذه المبادرة إلى استعادة كل الأراضي العربية المحتلة في الجولان السوري ومزارع شبعا، فإن حل الدولتين كان في القلب منها.
تاسعًا: مؤتمر أنابوليس، وهو المؤتمر الذي استضاف فيه الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وعددًا من الدول العربية، في مقر البحرية الأمريكية في أنابوليس بولاية ميرلاند في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2007، وطالب المؤتمر بإقامة دولة فلسطينية بنهاية الولاية الثانية للرئيس جورج بوش الابن قبل يناير (كانون الثاني) 2009.
رغم هذا المسار الطويل من المحاولات الفلسطينية لتنفيذ “حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية”، فإن الرفض الإسرائيلي، وإفشال كل المبادرات والخطط السابقة، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، دفع بعض التقديرات أن تقول إن “حل الدولتين” مات إكلينيكيًّا، ولا ينتظر فقط سوى إعلان وفاة هذا الحل؛ لعدد من الأسباب، وهي:
1- سلخ الأراضي: رغم قرار التقسيم الذي أعطى الفلسطينيين 11 ألف كم، فإن إسرائيل بدأت بقضم الأراضي، خاصة في القدس الشرقية، والضفة الغربية، ومنطقة الأغوار، فعندما وُقّعت اتفاقيات أوسلو عام 1993، كان عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة 250 ألفًا، واليوم وصل عددهم إلى 750 ألفًا، وفق جهاز الإحصاء الإسرائيلي، كما قُطّعت أوصال الضفة الغربية عن طريق الجدار العازل.
2- شراء بضائع المستوطنات: مع أن غالبية الدول الأوروبية ترفض شراء المنتجات الإسرائيلية التي تُزرع أو تصنع في الضفة الغربية، فإن الولايات المتحدة كان لها رأي آخر؛ ففي نوفمبر (كانون الثاني) 2020 وافقت واشنطن على اعتبار البضائع الإسرائيلية التي تُنتَج في الضفة الغربية بضائع إسرائيلية، وهو يمثل قبولًا للرغبة الإسرائيلية في ضم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية إلى إسرائيل.
3- نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في 14 مايو (أيار) 2018، وهو أمر أحبط الفلسطينيين، خاصة أنه أعقبه خطة ترمب التي أطلق عليها “صفقة القرن”، ولم يقبلها الفلسطينيون.
4- السعي إلى التهجير: الأيديولوجيا التي قامت عليها إسرائيل منذ أواخر القرن التاسع عشر هي طرد الفلسطينيين، وأن يحل محلهم السكان الإسرائيليون، وتستغل إسرائيل التعاطف الدولي معها في الحرب الحالية لدفع الفلسطينيين إلى مغادرة الضفة الغربية إلى الأردن، وسكان قطاع غزة إلى مصر، حتى تصبح الأرض الفلسطينية “أرضًا بلا شعب”؛ ومن ثم يسهل تصفية القضية.
5- عدم الإجماع: سواء على الجانب الإسرائيلي أو الفلسطيني، فالأحزاب اليمينية المتطرفة في حكومة بنيامين نتنياهو ترفض التنازل عن الأرض وإقامة دولة فلسطينية على حدود 4 يونيو (حزيران) 1967، وعاصمتها القدس الشرقية؛ لأن هذا سوف يؤدي إلى تفكيك المستوطنات، وحتى عندما طرحت فكرة تبادل الأرضي، وقبل بها الفلسطينيون، عادت إسرائيل ورفضتها.
على الجانب الفلسطيني، هناك من يقول إن ما جرى يوم 7 أكتوبر يؤكد أن إسرائيل “نمر من ورق”، و”بيت من العنكبوت”، وأن القبول بحل الدولتين لا يتوافق مع تضحيات الشعب الفلسطيني، ويطالب هؤلاء باسترجاع كل فلسطين التاريخية من رأس الناقورة شمالًا إلى رفح جنوبًا، ومن البحر المتوسط إلى نهر الأردن.
برغم كل الإحباط، وعدم التوافق على آليات “حل الدولتين”، سواء في النصف الثاني من القرن الماضي، أو في العقد الأخير، فإن ما جرى منذ 7 أكتوبر الجاري قد يدفع الإسرائيليين إلى تقديم مرونة في حل الدولتين، وهناك مجموعة من العوامل التي تدفع إلى التمسك بحل الدولتين رغم كل التحديات السابقة، ومنها:
1- مساحة مشتركة: فالدول العربية، والشرق أوسطية، والمجتمع الدولي، توافقوا على هذا الحل، كما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر (كانون الأول) 2012 قرارًا بقبول فلسطين بصفة “مراقب” وفق حدود حل الدولتين، وهي الخطة الوحيدة التي تقبلها كل الدول العربية، وكل دول الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، وروسيا، والصين، وحتى برنامج الرئيس جو بايدن الانتخابي 2020 تضمن رؤية حل الدولتين.
2- رؤية جديدة: بعد كل ما يجري في المنطقة منذ 7 أكتوبر، وتهديد هذه الحرب للأمن والسلم الدوليين، فإن العمل على تفعيل “حل الدولتين” يظل هو الخيار السياسي المتاح أمام الدول الفاعلة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويمكن أن تكون هناك رؤية لمجموعة من الأدوات الجديدة تقود إلى تحقيق هدف حل الدولتين.
في ظل عوامل الإحباط لحل الدولتين، وما تحظى به هذه الرؤية من دعم عربي، وإقليمي، ودولي، يمكن رسم 3 سيناريوهات، وهي:
السيناريو الأول: الدولة الواحدة
ويقوم على عدم الوصول إلى مساحة مشتركة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بشأن حل الدولتين، مع طرح صيغ ورؤى سياسية وأمنية جديدة تتجاوز حل الدولتين؛ ومن ثم التوجه نحو خيارات جديدة، مثل خيار “الدولة الواحدة” ذات المكونين الفلسطيني والإسرائيلي، وهناك عدد من القادة الفلسطينيين قالوا هذا علنًا.
السيناريو الثاني: تدوير الصراع
ويقضي هذا السيناريو ببقاء البيئة السياسية الفلسطينية والإسرائيلية، ومعها الداعمون للطرفين على حالها، وعدم حدوث أي خلل في الميزان الجاري في القوة بين البلدين؛ ولهذا ستكون الحرب التي بدأت يوم 7 أكتوبر مجرد جولة من جولات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، سوف تتكرر في المستقبل كما تكررت الحروب الخمس السابقة بين الفصائل وإسرائيل.
السيناريو الثالث: تصفية القضية
ويقوم على أن إسرائيل نجحت في تهجير 750 ألف فلسطيني في النكبة الأولى، ويمكن أن تكرر النكبة الثانية مع سكان قطاع غزة والضفة الغربية، وإذا نجحت في ذلك فإنها سوف تفرض سيطرتها على كل أراضي فلسطين التاريخية كما عرض نتنياهو في الأمم المتحدة الشهر الماضي.
حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية بالحدود التي قبلتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012 صعب المنال، لكن بعد الحرب الجارية على غزة، يمكن لإسرائيل قبول دولة فلسطينية منزوعة السلاح، ناقصة السيادة، في المساحة الوسط بين الدولة والحكم الذاتي، يقول الفلسطينيون من خلالها إنهم حققوا حلم الدولة، في حين لا تعطيهم إسرائيل أكثر مما لديهم في الوقت الحالي.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.