تقدير موقف

حلول بلينكن «المؤقتة» لا تصنع سلامًا


  • 5 نوفمبر 2023

شارك الموضوع

يقول المغني الأمريكي الشهير بول سايمون، في إحدى أغانيه: “الأرقام لا بد أن تترك لك علامة على الباب”، والمقصود هنا أن تكرار الشيء نفسه لا يمكن أن يأتي بنتيجة مختلفة. ومع أن القضية الفلسطينية لاحت تداعياتها على المسرح الإقليمي والدولي منذ نحو قرن من الزمان، ومع أن الأطراف الدولية جربت قبل الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، كل “المسكنات السياسية”، و”الحلول الجزئية”، فإن النتيجة كانت واحدة؛ وهي أن السلام والاستقرار لا يمكن أن يعمّا المنطقة والعالم ما دام هذا الجرح الفلسطيني ينزف.

ورغم الفشل الكامل لكل “الحلول المؤقتة والجزئية”، ها هي الولايات المتحدة تكرر المسار نفسه، والطريق عينه، عندما يقوم وزير خارجيتها أنتوني بلينكن بزيارة جديدة للشرق الأوسط يوم الجمعة 3 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري تشمل إسرائيل، والسلطة الفلسطينية، والأردن، وتركيا، وربما دولًا أخرى لم تُعلن بعد، والهدف هو التسويق والترويج لأفكار البيت الأبيض بشأن “الإدارة المستقبلية” لقطاع غزة. ومع أن الحرب لم تضع أوزارها بعد، فإن الرؤية الأمريكية تفترض مسبقًا انتصار إسرائيل، وهزيمة المقاومة. وتعتمد الفكرة الرئيسة لهذه الخطة على ثلاث خيارات، تبدأ بإسقاط حكم حماس في قطاع غزة، الذي بدأ منذ عام 2007؛ من خلال تشكيل قوات متعددة الجنسيات، أو إرسال قوات حفظ سلام دولية على غرار قوات حفظ السلام التي تعمل بين مصر وإسرائيل منذ توقيع اتفاقية السلام الإسرائيلية المصرية عام 1979، أما الخيار الثالث فهو وضع قطاع غزة تحت “الحكم المؤقت” للأمم المتحدة، في ظل نصيحة واشنطن لتل أبيب بعدم البقاء في القطاع أو احتلاله احتلالًا مباشرًا.

ليس هذا فقط، فالوزير بلينكن يتحدث عن خلق سلطة “فعالة ومتجددة” في غزة، ولم ينسَ وزير الخارجية الأمريكي أن يعرض على جلسة استماع في لجنة المخصصات بمجلس الشيوخ ما وصفها “بالترتيبات المؤقتة” التي تشمل عددًا من الدول الأخرى في المنطقة، وقد تشمل هذه الخطة مشاركة وكالات دولية تساعد على توفير الأمن والحكم في قطاع غزة. فما حظوظ نجاح تلك الخطط الجديدة؟ وهل يمكن أن تقود إلى سلام حقيقي، وازدهار شامل للشرق الأوسط؟

الحدود اللينة

عندما تم التوقيع على اتفاقيات أوسلو في 13 سبتمبر (أيلول) 1993، كان هناك اتفاق على الانتهاء من كل الملفات العالقة للوصول إلى الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وأطلق على تلك الملفات قضايا الحل النهائي، وكان من أبرزها قضية الحدود الدائمة للدولة الفلسطينية، لكن إسرائيل رفضت في ذلك الوقت أي مقترح يتعلق بحدود “دائمة وثابتة”  للدولة الفلسطينية، وقالت بدعم من الولايات المتحدة إن “الحدود اللينة”، أي “المؤقتة”، إنما هي لحين التأكد من جدية الفلسطينيين في السلام، ورفض الزعيم ياسر عرفات هذه الحدود المؤقتة، وهذا الادعاء بعدم جدية الفلسطينيين في السلام. كما أن نتنياهو منذ وصوله إلى الحكومة أول مرة عام 1996، تبني خيار “السلام الاقتصادي”، الذي يقوم على تحسين الاقتصاد والخدمات للمناطق الفلسطينية حتى ينسى الفلسطينيون قضيتهم، وهذا أيضًا فشل فشلًا ذريعًا، وخير شاهد على هذا الأمر أن أعمار المقاومين في غزة، وفصائل مثل “عرين الأسود” و”مخيم جنين” في الضفة الغربية، تبدأ من 18 عامًا، ولا تتجاوز 25 عامًا، كما أن إسرائيل جربت تسليم قطاع غزة لطرف ثالث غير الفلسطينيين عندما انسحبت من القطاع عام 2005، وفشلت، واضطرت في النهاية أن تتعامل مع القطاع وفق اتفاق المعابر في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2005.

من ينظر إلى مقترحات بلينكن بشأن مستقبل قطاع غزة، يكتشف مجموعة من الثغرات، منها:

1- تفترض الخطة “سحق حماس بالكامل”، ليس كتنظيم مسلح، أو حتى كجناح عسكري، لكنها تفترض “محو فكرة حماس”  من عقول الفلسطينيين وقلوبهم، وهذا أمر مشكوك فيه كثيرًا، فالحركة التي سيطرت على القطاع نحو 16 عامًا، وأضفت على حضورها في المشهد الفلسطيني القداسة، والأيديولوجية، والدفاع عن القدس والأقصى، لا يمكن تغييبها بالطريقة الأمريكية الجديدة، وإسرائيل نفسها راهنت حتى السادس من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على أن حماس غيرت أيديولوجيتها، ويمكن احتواؤها بدخول الأموال إلى قادتها، لكن النتيجة الواضحة كانت هي أن كل قادة إسرائيل الأمنيين والعسكريين قالوا إنهم أخطأوا في هذه الحسابات.

2- فكرة إسقاط حكم من الخارج، وتعيين قوات الاحتلال ما تشاء، فكرة فاشلة وخاطئة، وجربتها الولايات المتحدة في أفغانستان، وفي غيرها، والنتيجة معروفة للجميع، وهي أن الشعوب تقف ضد أي حاكم أو حكومة تُنصَّب من الخارج.

3- رَفْضُ المتطرفين في حكومة نتنياهو تسليم القطاع إلى السلطة الوطنية الفلسطينية بحجة أنها ضعيفة، الهدف منه هو تجزئة الأراضي الفلسطينية، ولعل تحليل سلوك المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية يقول إنهم يقومون بالدور الذي يقوم به الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة.

4- بعد ما جرى في غزة من مجازر وشهداء، سيكون من الصعب على أي طرف إقليمي مشاركة الولايات المتحدة هذه الأفكار، كما أن الدول الأوروبية والمنظمات الدولية لا يمكن أن تكون بديلًا عن الخيار الوطني الفلسطيني، ولا يمكن لشعب قطاع غزة أن يقبل باحتلال جديد تحت اسم لامع وبراق.

المؤكد أن إسرائيل والولايات المتحدة ليس لديهما أي تصور حقيقي لليوم الثاني بعد انتهاء هذه الوحشية الإسرائيلية، وبدلًا من مواجهة الحقيقة، وهي انسداد الأفق السياسي طوال السنوات الماضية بين الفلسطينيين والإسرائيليين تسعى الولايات المتحدة إلى الدخول في مسار “الحلول المؤقتة” نفسه، وهي حلول كانت وستظل غير مقبولة من الشعب الفلسطيني، والشعوب العربية والإسلامية، وكل الأحرار في العالم.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع