منذ الهزة الجيوسياسية في المشرق العربي التي ضربت سوريا، واستيقط الجميع على فرار الرئيس بشار الأسد وقادة نظامه، وسيطرة المعارضة السورية المسلحة على زمام الأمور والعاصمة دمشق، لوحظت حالة تسارع من الحكومة الليبية في غرب البلاد برئاسة عبد الحميد الدبيبة للتواصل وبناء علاقات مع النظام السوري الجديد من خلال المغازلة بالدعم وتأييد ما حدث هناك، وكانت حكومة الدبيبة من أوائل الحكومات العربية التي باركت ما حدث، وأجرت اتصالات وزيارات لدمشق.
وطبيعة العلاقات بين حكومة الدبيبة والإدارة السورية الجديدة، وقبلها طبيعة العلاقة بين الدبيبة ونظام الأسد، تجعلنا نسعى إلى محاولة تقديم قراءة لطبيعة العلاقات الإستراتيجية والمصالح بين حكومة الدبيبة ونظام “أحمد الشرع” الجديد في سوريا.
رصد طبيعة العلاقات بين حكومة بشار الأسد وحكومة الوحدة الوطنية تسوده حالة من الضبابية؛ لأن التواصل المعلن كان شبه متوقف، لكن الحكومة الليبية ظلت في طور الصمت، وتجنبت تمامًا الحديث عن نظام الأسد، أو حتى علاقاته العسكرية والتجارية مع القيادة العامة وشرق ليبيا، وهذا الصمت في ذاته موقف.
لكن لوحظت حالة من التناقض في تعامل حكومة الدبيبة إزاء تسارع الأحداث في سوريا قبيل سقط نظام الأسد وفراره إلى روسيا، وقد صدر عن الحكومة تصريحين متناقضين في أقل من 48 ساعة؛ الموقف الأول: عندما أجرى المكلف بتسيير وزارة الخارجية بحكومة الوحدة، الطاهر الباعور، اتصالًا مع وزير خارجية “نظام الأسد”، جاء فيه دعم صريح للنظام السوري، خاصة أن خارجية الدبيبة أشادت بتجربة الأسد فيما أسمته “محاربة الإرهاب”، وسط تأكيدات من الخارجية دعم ليبيا لوحدة الأراضي السورية وسلامتها.
وهذا الموقف لاقى ترحيبًا وإشادة من وزارة الخارجية في نظام الأسد، حيث نشرت على صفحاتها شكرًا لحكومة الدبيبة على موقفها الداعم.
الموقف الثاني: بعد الحديث عن فرار الأسد وسقوط نظامه على نحو مفاجئ ودراماتيكي، سارعت حكومة الدبيبة إلى الترحيب بالسقوط، مؤكدة احترامها لتطلعات الشعب السوري نحو الحرية والعدالة، وأعلنت انحيازها إلى الثورة السورية، بل هاجت نظام الأسد، الذي اعتبرته دكتاتورًا، وأعلنت دعمها الثابت لنضال السوريين المشروع ضد الاستبداد، معتبرة هذه المرحلة “تتويجًا لمسار كفاح طويل من أجل الكرامة والحرية”.
التواصل الإنساني بين حكومة الدبيبة وحكومة بشار، ثم حالة التناقض التي صاحبت تعامل الحكومة الليبية مع تسارع وتيرة الأحداث في سوريا، ودعمها للنظام ثم التراجع، وتوجيه الدعم نفسه إلى الإدارة السورية الجديدة، يحمل طابعا “براغماتيا” تنتهجه هذه الحكومة في التعامل مع التطورات الإقليمية حولها؛ ما يعني فقدان بوصلة الدبلوماسية والقراءة الدقيقة للأحداث.
في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، استيقط العالم العربي والدولي على تغير كبير، وانهيار سريع ومفاجئ لنظام بشار الأسد وجيوشه ومرتزقته أمام قوات المعارضة المسلحة، وسرعان ما اعترف العالم كله بهذه التحولات والوجوه الجديدة، وتحولت حقبة الأسد الابن إلى تاريخ قديم “قذر”، يسعى الجميع إلى غسل يده منه.
وكانت حكومة الوحدة الليبية من أوائل الحكومات العربية مسارعةً في التواصل، ومباركة وصول المعارضة السورية المسلحة إلى سدة الحكم والسيطرة، وفرار بشار الأسد وقادة جيشه ونظامه، وانتهجت حكومة الدبيبة هنا إستراتيجية إعادة تموضع متسارعة بإعلان دعمها للشرع ومجموعته، ثم ترجمة ذلك بإجراء اتصال رسمي للمباركة، ثم تشكيل وفد ليبي حكومي لزيارة دمشق ومباركة ما حدث، لتكون من أوائل الحكومات العربية زيارة ودعمًا وتقاربًا وإعادة تموضع.
وتم تأكيد هذا التموضع الجديد بخطوات عملية من الحكومة الليبية، حيث بدأت باتصال في يوم الأربعاء 25 ديسمبر (كانون الأول) 2024، من وزير الدولة لشؤون الاتصال السياسي، وليد اللافي، مع وزير الخارجية السوري الجديد، أسعد الشيباني، نقل له فيه رسالة من رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، أكد فيها موقف ليبيا الثابت في دعم الشعب السوري والحكومة السورية الحالية”.
كما أشار اللافي في اتصاله إلى حرص الدبيبة على تعزيز العلاقات الثنائية بين ليبيا وسوريا من خلال تبادل الوفود بين البلدين، بهدف تعزيز التعاون في مختلف المجالات، مؤكدًا أهمية التنسيق المشترك في القضايا الإقليمية والتحولات الراهنة، بما يخدم المصالح المشتركة، ويسهم في تحقيق الاستقرار في المنطقة، وهو ما رد عليه وزير الخارجية السوري بتقديره لمواقف حكومة الوحدة الوطنية، مؤكدًا تطلع سوريا إلى مزيد من التعاون والتنسيق مع ليبيا”، وفق منصة “حكومتنا” الرسمية.
وبالفعل تحول التواصل من مجرد اتصال هاتفي إلى زيارة حقيقية للعاصمة دمشق بعد فرار الأسد ونظامه، وبعد اتصال اللافي بـ3 أيام فقط، زار وفد من حكومة الدبيبة سوريا، وعقد لقاء مع قائد إدارة العمليات العسكرية وزعيم “هيئة تحرير الشام” في سوريا حينذاك، أحمد الشرع، لتقديم التهنئة للشعب السوري والقيادة الجديدة، وإعلان الاستعداد للتعاون معًا.
وبالنظر إلى طبيعة الوفد الذي ضم: وزير الدولة للاتصال والشؤون السياسية، وليد اللافي، ووزير العمل بالحكومة، علي العابد، ومدير الاستخبارات العسكرية، اللواء محمود حمزة، يتضح أن “البراغماتية” وطبيعة المصالح الثنائية ظاهرة من أول الخطى من جانب الدبية وحكومته نحو النظام الجديد في دمشق؛ لأن اللافي يمثل للدبيبة شخصيًّا، ويتولى ملف السياسة والإعلام، أما العابد فله دلالة بأن التعاون في ملف العمالة والمشروعات هو المقصود والمستهدف، ووجود مدير الاستخبارات العسكرية والمقرب من دولة تركيا “محمود حمزة” يحمل رسالة مغازلة لأنقرة من جانب، وبعدًا عسكريًّا وأمنيًّا من جانب آخر، خاصة ما سنخلص له في هذه الورقة من ملف “المرتزقة السوريين” في المنطقة الغربية بليبيا.
وتأكدت هذه العلاقة والتنسيق والتواصل باللقاء الذي جمع بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، ورئيس سوريا في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، ضمن فعاليات منتدى أنطاليا الدبلوماسي 2025 في تركيا، وإعلان حكومة الدبيبة أنه “تم الاتفاق بين الطرفين على تفعيل اللجنة العليا الليبية السورية المشتركة لتعزيز التعاون الثنائي في مجالات متعددة، وتنظيم وضع المقيمين السوريين في ليبيا”، ونعتقد أن المقصود بالجملة الأخيرة هنا هو تقنين، بل ترحيل المرتزقة السوريين المقيمين في العاصمة طرابلس وبعض مناطق الغرب الليبي، المعروفة آلية قدومهم إلى هناك عبر دولة تركيا.
وكلمة السر في العلاقة الإستراتيجية والبراغماتية بين حكومة الدبيبة ونظام الشرع السوري تكمن في ملف “المرتزقة السوريين”؛ لأن الدبيبة يريد التخلص من هذه الأزمة التي تسبب لحكومته حرجًا دوليًّا وإقليميًّا، والشرع يحتاج إلى هؤلاء الأفراد الذي يمكن أن يدمجهم في صفوف قواته هناك، لكن من يملك القرار في إنهاء هذا الملف بسلام وهدوء، هل الشرع الذي لا يعرف شيئًا عن هؤلاء السوريين ولا تبعيتهم؟ أم الدبيبة الذي تنكر حكومته وجود مرتزقة أصلًا؟ أم تركيا صاحبة القرار لأنها التي تولت وصولهم إلى غرب ليبيا خلال حرب 2019 وهجوم قوات القيادة العامة على العاصمة؟
خلال كلمته في افتتاح المؤتمر الأول لقادة الاستخبارات العسكرية لدول جوار ليبيا، المنعقد بطرابلس بتاريخ 21 ديسمبر (كانون الأول) 2024، أكد الدبيبة أن “ليبيا لن تكون ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية”، وأن حكومته لن تسمح بأن تتحول أراضي ليبيا إلى مأوى للعناصر “الإرهابية” والمجموعة العسكرية الهاربة من بلدانها، ولا أن تُستخدَم ليبيا ورقةَ ضغط في أي مفاوضات أو صراعات دولية”.
وهذا التصريح يمكن حمله -في بعض جوانبه- على ملف المرتزقة السوريين، خاصة أنه جاء في التوقيت نفسه الذي استولت فيه المعارضة السورية المسلحة على زمام الحكم في سوريا، بل ذكرت مصادر وتقارير إعلامية أن حكومة الدبيبة طرحت الأمر بكل صراحة على الإدارة السورية الجديدة، وناقشته كذلك مع تركيا، لكن دون تفاصيل عن الوصول إلى آلية معينة للتخلص من هؤلاء المرتزقة.
وبطبيعة الحال وواقع المشهد في ليبيا، مع غياب تام للمعلومة الدقيقة، يصعب تحديد عدد المرتزقة السوريين، سواء الموجودون في غرب ليبيا تحت إمرة تركيا، أو الموجودون في شرق ليبيا ووسطها تحت إمرة روسيا، لكن المؤكد أن الأعداد بالآلاف، والإحصاءات لدى الحكومات فقط، ولن تفصح عنها.
والمؤكد أيضًا أن سعي حكومة الدبيبة إلى التخلص من هؤلاء المرتزقة لا يمكن أن تكون دوافعه وطنية، أو سياسية، أو أمنية فقط؛ بل يأتي استجابة للضغوط الدولية والإقليمية المستمرة على هذه الحكومة لضرورة إخراج هؤلاء المرتزقة مثلما يطالبون بإخراج المرتزقة الروس “الفاغنر” من شرق ليبيا، وهذا ما تؤكده المؤسسات الدولية في كل لقاء مع حكومة الدبيبة.
ملف المرتزقة السوريين هو الخيط الأكبر الذي يربط حكومة الدبيبة بنظام سوريا الجديد، وإن كانت هناك خيوط أخرى لا تقل أهمية، ومنها التعاون في مجال الطاقة؛ لأن سوريا تفتقر إلى هذا الأمر، ويمكن أن تكون ليبيا خيارًا اقتصاديًّا واستثماريًّا مهمًّا في هذا المجال، لكن يظل ملف المرتزقة هو الأبرز.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.