فوجئ العالم، في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، بعملية عسكرية فريدة من نوعها، قامت بها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في غلاف غزة، سمّتها “طُوفان الأقصى”، شكلت تطورًا جديدًا ومختلفًا عن سائر عملياتها السابقة ضد إسرائيل، منذ ظهورها للعلن عام 1987. أدت هذه العملية العسكرية، التي وصفها الخبراء العسكريون بـ”الناجحة”، إلى رد فعل عسكري إسرائيلي، تحت اسم عملية “السيوف الحديدية”، ما زالت مستمرة حتى كتابة هذه السطور. يقيم هذا التقرير موقف القوى الدولية والإقليمية الفاعلة من الحرب الإسرائيلية على غزة، وفق معايير الجيوبوليتيك؛ حسب تصورات كل طرف، ويختتم بالاستنتاجات.
تعرضت إسرائيل- وفق جميع المعايير- لهزيمة إستراتيجية وعسكرية وتقنية كبرى، في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، حين تمكنت جهة فاعلة غير حكومية (NSA)، لا تمتلك دولة، وتحت حصار مُطبق منذ 17 سنة، ومحاصرة من جميع الاتجاهات، ولا تمتلك عمقًا جغرافيًّا يشكل سندًا لها، وبوسائل بدائية لكنها مبتكرة، من اختراق الحدود وصولًا إلى الداخل الإسرائيلي، والمكوث عدة ساعات، استطاعت خلالها اقتحام عدة مستوطنات، وأسر جنود واختطاف مدنيين، وصل عددهم الإجمالي من 200 إلى 250 مدنيًّا وعسكريًّا.
هدم هذا الهجوم المباغت، السردية الإسرائيلية التي رسختها في الأذهان العربية، وسوّقت بها نفسها للقوى الغربية منذ حرب الخامس من يونيو (حزيران) 1967، بأنها القوى العسكرية والتكنولوجية والمخابراتية الأقوى والأكبر من كل بلدان الشرق الأوسط مجتمعة، وهو ما أهلها (من ضمن عدة أسباب أخرى) لنيل الدعم الأمريكي الكامل، كمشروع استثمار سياسي ناجح، يخدم سياسات واشنطن في المنطقة، ويضمن لها مصالحها.
تبدو أي تسوية سياسية، وفق ما جرت عليه العادة في حروب إسرائيل السابقة مع حماس، “غير واردة”، ولا يمكن قبولها وفق أي معيار، بعد هذه الهزيمة المذلة التي أفقدت مواطنيها ثقتهم بقوة دولتهم. كذلك تهدم هذه الهزيمة كل استثمار إسرائيل الدعائي في المنطقة، لإقناع شعوبها بأنها قوة لا تُقهر، من الأفضل التسليم والاستسلام لها وفق شروطها “السلام مقابل السلام”؛ لأنه لا جدوى من فرض أي شروط مقابل هذا السلام، لكونها قوة منتصرة دائمًا، السلام معها في ذاته، يمثل مكسبًا ومكافأة، وحماية تلقائية لأي دولة وشعب يقرر اتخاذ هذه الخطوة.
لكي ترمم إسرائيل صورتها أمام شعبها، وأمام يهود العالم المؤمنين بالأيديولوجية الصهيونية، وتحافظ على قناعة القوى الغربية بضرورة الإبقاء على دعمهم واستثمارهم فيها، وتستعيد ثقة من آمنوا بقوتها القاهرة في المنطقة، لا بد لها من رد قوي عنيف وغير مسبوق، يشكل عبرة لكل من تسول له نفسه التفكير، فضلًا عن محاولة تهديدها، أو مقاومتها، وبهذا الرد فقط، يمكن أن تفرض شروطها في أي عملية تفاوضية على إقامة علاقات معها، أو استثمارات لطرق وممرات تجارية؛ لذا، هناك حاجة إلى عمل على الأرض، يؤكد أنها طرف موثوق به، بل الأكثر أمانًا وموثوقية في كل المنطقة، وإلا خسرت ما تمتلكه من قيمة لموقعها الإستراتيجي كهمزة وصل بين مشرق العالم العربي ومغربه، وجنوب آسيا والشرق الأوسط وصولًا إلى أوروبا، وهو ما يمنحها- بجانب الدعم الغربي- قيمة جيوسياسية تؤهلها لسيادة المنطقة.
خلافًا لخطاب حماس المعلن، عن أهداف هذه العملية، التي لا تبدو طموحة فحسب؛ بل غير واقعية، غرضها التسويق لنفسها داخليًّا وخارجيًّا. يمكن القول إن دوافع حماس الأكثر واقعية- وفق منطقها- استباق أي اتفاق سلام بين السعودية وإسرائيل سيؤدي إلى عزلها تمامًا من المعادلة الفلسطينية والإقليمية.
السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، قررت التعامل مع أي اتفاق سلام إسرائيلي- سعودي، وفق نهج جديد لا يعتمد على الرفض والشجب والإدانة، كما حدث عند توقيع “الاتفاقيات الإبراهيمية”؛ بل من خلال التفاوض المباشر مع الرياض، بشأن المكتسبات التي يمكن أن تحصل عليها منها، ومن خلال علاقتها بعد هذا الاتفاق المفترض مع إسرائيل، بما يؤدي إلى تحسين أوضاع السلطة وسكان الضفة، مقابل وضع مزرٍ وبائس لسكان غزة، وهو ما قد يدفع الحاضنة الشعبية لحماس إلى التخلي عنها، أو سيضعف قدراتها التفاوضية مع السلطة إذا قررت تسليم إدارة القطاع لها مجددًا.
أرادت حماس، عبر هذه الخطوة الاستباقية، أن تضرب بقبضتها على الطاولة كما يقال، للقول للجميع (نحن هنا)، من خلال عملية تأسر فيها عددًا من الجنود الإسرائيليين، ثم التفاوض بعدها على إطلاقهم مقابل تبييض السجون من كل الأسرى، الذين يمثلون عدة تيارات فلسطينية، بعضهم ينتمي إلى فتح؛ لنيل شعبية محلية وعربية، وعقد صفقة بموجبها تنضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية، والاعتراف بها بوصفها طرفًا فاعلًا في أي عملية تفاوضية، سواء مع إسرائيل أو البلدان العربية، بما يضمن عدم عزلها أو تجاوزها، في ظل فقدانها للأمل بأي عودة لتيار الإخوان لحكم بلد عربي رئيس، وتراجع الدعم القطري والتركي، وإمكانية عقد تسوية إيرانية- أمريكية.
يبدو أن حماس فوجئت بمدى هشاشة الأمن الإسرائيلي في غلاف غزة، وهو ما أدى إلى إغراء عدة تيارات أخرى وأفراد غير منضبطين بالتورط في اختطاف مدنيين، كما اعترف قادة حماس أنفسهم، مع حسابات خاطئة لرد الفعل الإسرائيلي، ومستويات الدعم الغربي والأمريكي على وجه الخصوص.
إذا ربحت حماس هذه المعركة، ولم يُقضَ عليها، وظلت متحكمة في قطاع غزة، على الرغم من أي خسائر، سيعدّ ذلك “انتصارًا”، يؤهلها إلى المطالبة بالمكانة التي ترى أنها تستحقها في المعادلة الفلسطينية والإقليمية. أما في حالة الخسارة، فستفقد كل شيء تقريبًا، ومن خلفها تيار الإسلام السياسي السُّني، حيث تمثل غزة آخر معقل لهذا التيار في المنطقة، وهو ما يجعل المعركة الحالية مختلفة عن سائر المعارك والمواجهات السابقة.
لم يكن غريبًا رد الفعل الغربي الداعم بشكل مطلق لإسرائيل، لكن الغريب هذه المرة، تبني الرواية الإسرائيلية عما جرى من أحداث، دون أي تدقيق، وحالة القمع غير المسبوق لأي صوت سياسي أو إعلامي يحاول تحري دقة هذه الرواية، وفرض صوت واحد ووحيد على وسائل الإعلام والمؤسسات الأكاديمية والبحثية، وصولًا إلى قوانين قمعية لا تصدر من سوى دول “العالم الثالث” الاستبدادية، وفق المعايير الغربية.
في المقابل، وبالنظر إلى النجاح الأولي الكبير لعملية “طُوفان الأقصى”، والوضع الجيوبوليتيكي المرتبك للولايات المتحدة، في ظل التحدي الذي تمثله روسيا والصين، وصعود عدد من القوى الإقليمية، وانتهاجها سياسة أكثر استقلالية عن واشنطن، يبدو رد الفعل الغربي عامة، والأمريكي على وجه الخصوص “منطقيًّا” للحفاظ على الوضعية الجيوبوليتيكية لأمريكا.
الرسالة الغربية واضحة: أولًا، الحفاظ على ثقة المؤمنين بالأيديولوجية الصهيونية في بقاء إسرائيل. نحن من أسسنا لليهود “وطنًا” قوميًّا على أرض فلسطين في الشرق الأوسط، وتعهدنا بدعم هذا الكيان الوليد ليصبح الأقوى والمهيمن على كل دول المنطقة مجتمعة، ولا يعني فشل هذا الكيان في حماية شعبه أن نترك اليهود ليتعرضوا لـ”هولوكوست” جديد؛ بل سنهرع بكل قوتنا لحمايتكم، والقتال لأجلكم لو اقتضى الأمر، فلا تخشوا شيئًا، ولا يوجد ما يدعو إلى أي هجرة عكسية.
ثانيًا، رسالة لكل خصوم الولايات المتحدة والغرب. الدفاع عن الحلفاء أمر لا شك فيه؛ لأن ترك إسرائيل تتعرض للهزيمة على يد “ميليشيا” تحكم مدينة محاصرة، يمثل إشارة خطيرة جدًّا لكل من الصين وروسيا، وغيرهما من القوى الإقليمية الناهضة، بأن جوهرة التاج في الاستثمار السياسي الغربي، لن تكون أكثر قيمة من تايوان، أو أوكرانيا، أو كوسوفو، وغيرها من المناطق المتنازع عليها، وهو ما سيؤدي إلى انفراط عقد التحالف الغربي، وما يمتلكه من قوة ردع. دعم إسرائيل في هذه المرحلة الصعبة للغرب، محاولة لتأكيد أن هيمنته لا مجال للتشكيك فيها، أو اختبارها.
ثالثًا: تأكيد أمريكي لكل حلفائها التاريخيين وأصدقائها في المنطقة، بأنها لم ولن تتخلى عن دورها الأمني، وأن مشاريع السلام مع إسرائيل لا ينبغي أن تتأثر بما جرى في السابع من أكتوبر.
وجد كلا البلدين في الصراع الحالي فرصة مثالية لتخفيف الضغط المفروض عليهما من الغرب. روسيا استفادت من صرف الأنظار عن الجبهة الأوكرانية، وبالتنسيق مع الصين، استنزفت الولايات المتحدة دبلوماسيًّا في مجلس الأمن والأمم المتحدة؛ لإظهار “نفاقها”- بحسبهما- أمام المجتمع الدولي، ودول الجنوب العالمي، والتأكيد لشعبيهما على “المعايير المزدوجة” الأمريكية، في مقارنة رد فعلها تجاه الحرب في أوكرانيا، والمطالبة الصينية بتوحيد تايوان، أو طريقة التعامل مع الأويغور، مع ما تقوم به إسرائيل من إبادة ممنهجة وقتل للأطفال في غزة، لتأكيد أن العداء الأمريكي غير مرتبط بسياساتهما.
في النهاية، كلا البلدين مستفيد من الصراع الذي يوفر لهما فرصة للضغط على واشنطن، واكتساب مزيد من الشعبية والنفوذ في العالمين العربي والإسلامي، وتعزيز دعوتهما بشأن ضرورة بناء نظام عالمي جديد، خلافًا للنظام الحالي المهيمن عليه غربيًّا بقيادة أمريكية، وهو ما يضمن لهما تعزيز مواقعهما الجيوبوليتيكية في جوارهما القريب والعالم.
عولت حماس على الدور التركي والإيراني، في مساندتها بشكل أكبر فيما يبدو من قدراتهما. تعاني تركيا أزمة مالية وسياسية داخلية، حيث أوضحت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة مدى الانقسام العمودي في البلاد، مع عدم وجود أي قيادة تبدو مؤهلة لتولي السلطة بعد أردوغان من داخل حزبه.
إيران هي أيضًا على موعد مع انتقال للسلطة قد يحدث في أي لحظة، في ظل تقدم المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في العمر، وهو ما دفعه إلى ترتيب البيت الداخلي في الانتخابات الأخيرة، من خلال فرض هيمنة التيار المحافظ على جميع المؤسسات المنتخبة. يضاف إلى ذلك، وضع اقتصادي شديد الصعوبة، ووصول الشعب الإيراني إلى مرحلة حرجة من الإنهاك نتيجة للصراعات التي لا تبدو نهاية لها منذ هيمنة التيار الإسلامي على السلطة، وإقصائه جميع التيارات الأخرى التي شاركت في صنع الثورة على الشاه.
لدى تركيا وإيران مكاسب جيوسياسية تحققت بالفعل على مدار العقود الماضية، وهيمنة تمكن حلفاؤهما من تحقيقها في بعض البلدان العربية، قد يُعصَف بها إذا تدخلتا تدخلًا مباشرًا في الصراع الحالي بين إسرائيل وحماس، بعدما أظهرت واشنطن عزمها على التدخل العسكري إذا اقتضى الأمر لحماية إسرائيل من طهران وحلفائها.
تاريخيًّا، تحملت ما تسمى “دول الطوق” (مصر، والأردن، وسوريا، ولبنان)، بالإضافة إلى العراق، العبء الأكبر في مواجهة إسرائيل حربًا وسلمًا. المواجهة الحالية تعد الأكبر على الإطلاق بين إسرائيل والشعب الفلسطيني المتزامنة مع ضعف جميع هذه الدول مجتمعة بشكل لم يسبق له مثيل. مصر في وضع اقتصادي ربما هو الأصعب منذ عام 1882. الأردن يعاني أزمة وجودية، في ظل خلل في التركيبة السكانية بين العشائر وذوي الأصول الفلسطينية، وضعف اقتصادي بالتزامن مع تراجع كبير في الدعم الإقليمي والدولي. سوريا ولبنان والعراق يمكن اعتبارها- وفق منهجية العلوم السياسية- “دولًا فاشلة”.
يضاف إلى كل ما سبق، حالة حرب أهلية في السودان، واليمن، وليبيا، والصومال، وانكفاء جزائري منذ العشرية السوداء (1991- 2002)، ومحدودية للقدرة لدى تونس، والمغرب، وموريتانيا، وجيبوتي، وجزر القمر. باختصار، بلاد الرافدين والشام، وبلدان شمال وشرق إفريقيا العربية باستثناء مصر، خارج نطاق الخدمة. تظل دول شبه الجزيرة العربية “الخليج”- وحدها- التي تمتلك استقرارًا سياسيًّا واجتماعيًّا، وقدرات مالية، وعلاقات دولية متزنة ومتوازنة مع الفاعلين في المنطقة والعالم.
بسبب طبيعة تركيبتها السياسية والاجتماعية، وتاريخ نشأة الدولة القومية الحديثة، مع عدم معاناتها من الظاهرة الاستعمارية بشكل عميق، كما هي الحال في بقية العالم العربي، لم تؤسس دول الخليج جيوشًا قائمة على التجنيد الإلزامي لمواطنيها، ولم تدخل حروبًا كبرى، أو تخوض معارك ضارية ضد الاستعمار لأجل التحرر الوطني. أنظمتها السياسية ملكية، قائمة على علاقات مباشرة وخاصة بين الشعب والعائلات الحاكمة، ووفرة مالية نتيجة ما تمتلكه من ثروات طبيعية، وحسن استغلالها جيدًا، ضمن لها الاستمرارية.
نتيجة لهذا الوضع، لا تتبنى السياسات الخليجية الخطابات الأيديولوجية، ولا سياسات المواجهة الثورية، واعتمدت على الخطاب الهادئ، والرهان على القوى الدولية الرابحة، بدلًا من الدخول في مغامرات غير محسوبة في ظل تقديرها لقدراتها كما هي.
يقود أغلب دول الخليج الآن جيل جديد من القادة الشباب، لديهم طموحاتهم وتصوراتهم الخاصة عن تطوير بلدانهم. كذلك تغيرت، بحكم الظروف، وكذلك العقلية الجديدة الحاكمة، الأولويات والتحديات. على سبيل المثال، يمثل التحدي الإيراني ووكلاؤه، الخطر الأمني الأكبر لدول الخليج، وكذلك الإرهاب والفكر المتطرف. اقتصاديًّا، عصر ما بعد النفط، والتوجه نحو الطاقة الجديدة، وندرة المياه، والأمن الغذائي، والتغير المناخي الذي إذا استمرت وتيرته وفق الوضع الحالي، ستصبح الحياة شديدة الصعوبة في أغلب دول الخليج، هي كلها تحديات يُنظر إليها على أنها وجودية، وبحاجة إلى تغييرات حاسمة، وجذرية، وسريعة.
وفق هذا الوضع، لا تمثل إسرائيل، ولا الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، أولوية لدول الخليج. واقعيًّا، إسرائيل لم تخض أي حرب ضد دولة خليجية، والمسافة بين الطرفين بعيدة في ظل عدم وجود حدود مباشرة، وهناك أعداء مشتركون لكلا الطرفين، وتلاقٍ في المصالح في بعض الملفات الأمنية. كما أن مشروعات التنمية المرتبطة بمستقبل دول الخليج، ستعاني صعوبات وعقبات لتحولها إلى واقع عملي دون حالة من الهدوء والعلاقات المباشرة مع إسرائيل، كبوابة عبور وقبول لها من القوى الغربية، التي ما زالت تمتلك أدوات الهيمنة المالية، والعسكرية، والأمنية في المنطقة والعالم.
وفق خريطة توزيع القوى السياسية الفلسطينية، تمثل حماس وحركة الجهاد الإسلامي، الثقل الأكبر والحاكم لقطاع غزة، وكلتاهما لديها علاقات وثيقة- وإن لم تكن تبعية- بإيران وحلفائها في المنطقة، وهم المهددون الرئيسون لأمن بلدان الخليج. السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله تعاني اهتراءً سياسيًّا، وفسادًا ماليًّا، وفقدانًا للفاعلية، ومحدودية في التأثير، ونطاق حكمها محصور في بعض مناطق الضفة الغربية.
الأسئلة الكبيرة المطروحة خليجيًّا:
كل هذه الأسئلة، في ظل ضعف العالم العربي، وحالة عدم الاستقرار التي تبدو أنها باتت مزمنة للجمهوريات العربية، وعدم ظهور أي قوة دولية (حتى الآن) قادرة على سد الفراغ الأمريكي، ووجود أخطار وجودية تهدد مستقبل الخليج، خلقت رؤية جديدة تجاه نظريات الأمن القومي العربي القديمة، في ظل ما تبدو عليه من أساطير غير قابلة للتحقق، واستبدلت بها نظريات جديدة.
في الماضي، قدمت دول الخليج العربية الدعم المالي لـ”بلدان الطوق”، أو “المواجهة”، وفوضتها في اتخاذ ما تراه مناسبًا للتعامل مع إسرائيل، ووافقت منظمة التحرير الفلسطينية في سياساتها العسكرية ثم التفاوضية لحل القضية الفلسطينية، ولديها مصلحة مباشرة في إنهاء هذا النزاع، وكانت- وما زالت- مستعدة لتقديم الدعم المالي المطلوب للشعب الفلسطيني، لكنها لم تعد معنية بتعطيل مسيرتها ومشروعاتها لأجل هذا الصراع الذي لم تشارك في صنع القرار فيه، وبعدما فشل كل من تصدروا لمواجهة إسرائيل حربًا أو سلمًا. كما أنها غير معنية بانتصار تيار ينتمي إلى الإسلام السياسي، لديه تحالفات وعلاقات وثيقة مع خصومها، في أن ينتصر في هذه المعركة، أو أن تدخل في مواجهة لصالحه.
حققت حماس نصرًا عسكريًّا كبيرًا على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، ربما فاجأ حماس نفسها، ولم تكن تتوقعه. في المقابل، تعرضت إسرائيل لهزيمة كبرى وفق معايير القوة بين الطرفين، لكن الانتصار العسكري في ظل تفكك النخب الفلسطينية، وفقدانها وحدة سياسية وعسكرية، وغياب قوى إقليمية وازنة ومؤثرة داعمة لهم، لا يؤدي بالضرورة إلى ترجمة هذا “النصر” الأولي إلى مكسب سياسي.
الولايات المتحدة، ومن خلفها الغرب، لا يمكنهم قبول تعرض إسرائيل للهزيمة، ولا ظهور حماس في مظهر “المنتصر” في نهاية هذه الحرب- بأي شكل من الأشكال- ويعود ذلك إلى الوضع الجيوسياسي المهتز للغرب الذي يمكن أن يسهم أي “نصر” افتراضي لحماس في فتح “صندوق باندورا” على الغرب وتحالفاته في عدة مناطق أخرى في العالم.
تستغل روسيا الحرب الحالية في تثبيت أقدامها العسكرية على الجبهة في أوكرانيا، وإظهار “المعايير المزدوجة” للغرب، وكسب شعبية في العالمين العربي والإسلامي، ومحاولة مقايضة الغرب على تخفيف العقوبات، أو تراجعه عن دعم أوكرانيا مقابل تحييدها عن الصراع، وفي كل الأحوال، لا تمتلك روسيا أدوات ضغط قادرة أن تجبر إسرائيل على وقف حربها، لكنها تمتلك القدرة على أن تضطلع بدور الوسيط النشط، في ظل وجود علاقات ودية تجمعها بكل أطراف الصراع المختلفة.
الصين مثلها مثل روسيا، تستفيد من الحرب في الترويج لنفسها على حساب الولايات المتحدة، كما أنه تبدو مرتاحة لهذا الصراع الذي يفقد الثقة بإسرائيل، وإمكانية استغلال موقعها لخلق ممرات تجارية بديلة مع الهند، التي تسعى إلى منافستها على بلدان الجنوب العالمي من خلال الدعم الغربي.
ليس من مصلحة مصر والأردن كسر حماس في غزة، ولكنهما في الوقت نفسه لا يملكان القدرة على دعمها. يظل الوضع الأنسب للقاهرة وعمّان، هو قيام دولة فلسطينية مستقلة، سيكون دور الضامن الأمني محجوزًا لهما في الغالب، وهو ما يمنحهما دورًا لا غنى عنه لدى الإسرائيليين، والفلسطينيين، والقوى الإقليمية والدولية، أو وجود عملية سلام نشطة، سيكون لهما فيها الدور الأبرز بعملية الوساطة. أما أي تسوية تحدث في المنطقة تؤدي إلى حذف القضية الفلسطينية من على جدول الأعمال، والانفتاح العربي على إسرائيل، وقيام مشروعات مشتركة وممرات تجارية، فستعني إضعافًا لمواقف كلا البلدين الضعيفة أصلًا في معادلات المنطقة الجديدة، وخصمًا من أدوارهما التاريخية.
نهاية ظاهرة الإسلام السياسي في غزة تعني لغالبية بلدان الخليج، سقوط تجربة الإسلام السياسي سقوطًا كاملًا، وسحب الورقة الفلسطينية من إيران، ومن ثم إضعاف نفوذها الجيوسياسي والدعائي في المنطقة. كما أن إنهاك إسرائيل في هذه الحرب على المستويات كافة، وما تعرضت له- حسب وصف كثير من الخبراء الإسرائيليين أنفسهم- من “فضيحة” كشفت تواضع قدراتها التكنولوجية والعسكرية في مواجهة الجهات الفاعلة غير الحكومية، وهو ما يجبر الولايات المتحدة على الحفاظ على بقائها النشط في المنطقة، ويضعف الموقف الإسرائيلي التفاوضي، ستؤدي كل هذه العوامل- وفق ما يبدو من تصورات خليجية- إلى تعزيز دور دول الخليج العربية على حساب إيران، والحصول على أفضل المكتسبات من إسرائيل وأمريكا، وتأثير فاعل في الملف الفلسطيني، لأول مرة منذ بدء هذا الصراع قبل 100 عام.
تبدو تركيا أكبر الخاسرين جيوسياسيًّا من الحرب الحالية، حيث ظهر بوضوح ضعف موقفها وازدواجيته، وعدم قدرتها على فعل شيء ملموس لدعم “حلفائها”، في حين ما زالت إيران تمتلك أوراقًا كثيرة يمكن أن تفاوض الغرب بها، وقدرات دعائية تدعم من خلالها خطابها “المقاوم” لحاضنتها الشعبية، وذلك من خلال الاحتكاكات التي يقوم بها حزب الله في لبنان، وحركة “أنصار الله” الحوثيين في اليمن.
يبدو أن معاناة الفلسطينيين ستظل مستمرة، ولن يأخذ أحد الفلسطينيين على محمل الجد، ويعطل مشروعاته الطموحة أو يتوقف عن استغلال معاناتهم في خدمة مصالحه الخاصة، لأجل قضيتهم. وعلى الرغم من كل مظاهر الدعم الدولي الشعبي الحالية، فإنها تظل موسمية، مرتبطة بسخونة الصراع، ولا تترجم إلى مكاسب سياسية دون وحدة سياسية تتبعها وحدة للبندقية الفلسطينية، وتبني مقاومة هجينة، لا تُختزل فقط في المفاوضات، أو العمل المسلح، وهو ما سيجبر إسرائيل- في النهاية- على منح الفلسطينيين حقهم المشروع في إقامة دولة مستقلة ذات سيادة.
ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.