مختارات أوراسية

حرب غزة تبلور صورة إسرائيل


  • 27 أغسطس 2024

شارك الموضوع

يجتذب الحديث عن إسرائيل في الوقت الحالي كثيرًا من الاهتمام، سواء من المحللين أو الجمهور، لكن الأيديولوجية والتحيز والأساطير تجعل من الصعب فهمها فهمًا سليمًا. غالبًا ما يتم التعامل مع المناقشات المتعلقة بإسرائيل بحذر لتجنب اتهام المعلقين بمعاداة السامية. في مقال سابق، شرحتُ ما يميز معاداة الصهيونية عن معاداة السامية. ومع ذلك، فإن الصعوبة الرئيسة في فهم إسرائيل تكمن في الارتباط المعتاد لهذه الدولة الواقعة في غرب آسيا باليهود. هل من العدل أن ننظر إلى أولئك الذين يعيشون ويحكمون إسرائيل على أنهم يهود أم أنهم أصبحوا شيئًا آخر، أي إسرائيليين؟

إن الجدل بشأن “الطبيعة مقابل التنشئة”؛ عن التأثير النسبي للصفات الوراثية والظروف البيئية على الفرد، أقدم مما يتصوره كثير من الناس، ويمكن تتبعه في مراحل مختلفة من السرد الكتابي. غضب الله من عبادة بني إسرائيل للعجل الذهبي، وكان على استعداد لتدميرهم جميعًا وإنشاء أمة جديدة مع موسى، وتبين أن الطبيعة كانت عاملًا رئيسًا، حيث فقد الله الأمل في إمكانية إعادة تأهيل هذا “الشعب الوحشي”.

ومع ذلك، في قصة كتابية أخرى، قبل السماح لبني إسرائيل بدخول أرض كنعان، أُرسلوا إلى البرية أربعين عامًا لإعادة تعليمهم. في هذه الحالة، كان التركيز على التأثيرات البيئية بدلًا من الطبيعة، على أمل أن يصبحوا أشخاصًا أفضل من خلال اختبار فضل المن غير المحدود من السماء، وهو ما يبدو أنه أول محاولة معروفة للهندسة الاجتماعية، ولم يلق سوى نجاح متباين.

ويمثل التاريخ الحديث لليهود محاولة أكثر جرأة لإعادة التربية هذه. لعدة قرون، كانت المثل العليا لليهود هي الرحمة والتواضع والإحسان. إن النفور من العنف متأصل جدًّا إلى درجة أن كثيرًا من المجتمعات اليهودية تزيل السكاكين التي يمكن أن تكون أسلحة قتل من على المائدة قبل تلاوة البركات بعد الوجبات (البركة والعنف غير متوافقين).

بعد أن تعلموا لعدة قرون السعي إلى تحقيق التميز الأخلاقي، اختار اليهود- الذين كانوا أقلية صغيرة في البداية- الدور غير المعتاد للمستوطنين الاستعماريين، وهو دور متأصل تاريخيًّا في الحضارة المسيحية الأوروبية.

بالإضافة إلى ذلك، كان من السهل الرجوع إلى الوصايا الكتابية. على سبيل المثال: “طهروا الأرض واسكنوا فيها، فإني أعطيتكم هذه الأرض لتمتلكوها”. رفض المستوطنون فهم التوراة في إطار اليهودية الحاخامية، وفسّروا التوراة حرفيًّا وماديًّا. في المقابل، في التقليد اليهودي، تُقرأ الآيات الكتابية التي تذكر العنف على نحو استعاري: “السيف والقوس اللذان استخدمهما يعقوب ضد أعدائه، أصبحا رمزين لطاعة الوصايا الإلهية والأعمال الصالحة”. ووفقًا للتقاليد اليهودية، يجب على اليهود إظهار البطولة في بيت المعرفة، وليس في ساحة المعركة، لكن الصهاينة رفضوا هذا التقليد باعتباره تقليد “المنفيين الضعفاء”.

وبطبيعة الحال، كما هي الحال في أي مكان آخر، سواء أكان ذلك في الهند، أم أمريكا، أم الجزائر، كان رد فعل غالبية سكان فلسطين- اليهود والمسيحيين والمسلمين- معاديًا للمستعمرين الذين شرعوا في الاستيطان في فلسطين بنهاية القرن التاسع عشر. لقد نشأت المقاومة، ومن جيل إلى جيل، حاول الإسرائيليون قمعها. بدأ يُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم مصدر خطر دائم. وفي الوقت نفسه، أخذ الإسرائيلي، الذي تدرب على روح الشجاعة العسكرية، مكان اليهودي الذي تعلم التفوق الأخلاقي، والبر الذاتي، حيث أصبحت هذه المعاني محتقرة في إسرائيل. لم يكن مقتل جاكوب دي هان، وهو يهودي ومحامٍ ومناهض للصهيونية، على يد أعضاء الهاغانا الصهيونية في عام 1924، بمنزلة بداية الإرهاب السياسي المنظم في فلسطين فحسب؛ بل كان أيضًا بمنزلة تأكيد لهوية وطنية جديدة.

إن مُثُل الشجاعة العسكرية لا تُغرَس من خلال المدرسة فحسب،؛ بل أيضًا، والأهم، من خلال مصير جميع المستعمرات الاستيطانية: “قمع المقاومة من جانب السكان المحليين”. ومن الجد إلى الأب إلى الابن، يحاول الإسرائيليون “تدجين السكان الأصليين” بالقوة، وإجبارهم على الخضوع للتمييز، ونزع الملكية، والتطهير العرقي.

إن الأخبار اليومية عن الوحشية العسكرية الإسرائيلية في غزة تؤكد نجاح التحول الصهيوني لليهود، والدليل الإضافي هو الدعم الكبير لهذه الأعمال من المجتمع الإسرائيلي بكامله. إن المناقشات الأخيرة في البرلمان الإسرائيلي، التي دافع فيها بعض أعضاء الكنيست عن شرعية الاغتصاب الجماعي للسجناء الفلسطينيين على يد الجنود الإسرائيليين، تشير إلى تجريد عميق من الإنسانية، أي إنكار الإنسانية لدى الآخرين، فضلًا عن الحرمان من الإنسانية، وما يصاحبها من القسوة والمعاناة، وهذا الوضع يهدد بتجريد الجندي نفسه من إنسانيته.

وللقضاء على هذا التهديد، عليه أن يخلق مسافة بينه وبين الضحية، ويتحقق ذلك من خلال تصنيع القتل، الذي بدأ بغرف الغاز، والقصف الشامل، واستمر بعمليات القتل المستهدف باستخدام الصواريخ والطائرات الانتحارية بدون طيار. لقد حقق العلماء والمهندسون الإسرائيليون المشهورون عالميًّا، بمساعدة الشركات الأمريكية الكبرى، طفرة نوعية في تحسين العنف عن بعد. والآن في غزة، تُحدَّد الأهداف وتُدمَّر بواسطة الذكاء الاصطناعي، وهذا لا يشير إلى رفض القيم الأخلاقية لأسلافهم فقط؛ بل يشير كذلك إلى رفض أساسي للإنسانية.

تشير الحرب الإسرائيلية على غزة إلى انتصار التعليم على الطبيعة، في حين تثبت أن التقدم التكنولوجي لا يعني التقدم البشري. لقد أصبح الأمر ببساطة هو القاعدة للانحلال الأخلاقي، وهو الأمر الذي تقبله أغلب الحكومات الغربية فقط لأن اليهود- في رأيهم- هم الذين يرتكبون هذه الفظائع- سواء أكانت قتلًا جماعيًّا، أم تطهيرًا عرقيًّا، أم إبادة جماعية. ومع ذلك، فإن قليلًا من الناس يدركون أن قرنًا من استعمار فلسطين قد حول اليهودي إلى إسرائيلي لا يرحم؛ لذلك، لفهم الدولة والمجتمع الإسرائيليين، يجب على المرء أن يتوقف عن النظر إليها على أنها “دولة يهودية”، وهو مفهوم غامض جدًّا، لا يؤدي إلا إلى تشويش الصورة، وتعتيم الواقع؛ وحينئذ فقط سوف يتمكن العالم من الحكم على إسرائيل مثل أي دولة أخرى من حيث جدارتها.

المصدر: مجلة روسيا في السياسة العالمية

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع