جغرافيا

ثلاثة مشاهد من الأورال


  • 29 يوليو 2024

شارك الموضوع

على مدار عامين 2014 و2016، قمت بزيارات متنوعة إلى مدن إقليم الأورال. وهو أحد أغنى الأقاليم الروسية وأهمها، ويعد نطاقًا فاصلًا بين روسيا الأوروبية في الغرب وروسيا الآسيوية في الشرق.

وفيما يلي بعض ذكريات تلك الزيارات.

1- يكاترينبورغ

يزور الناس مدينة يكاترينبورغ عادة لتسجيل حدث نادر في حياتهم، ففي هذه المدينة الجميلة ميدان تقف فيه واضعًا قدمك في قارة آسيا وقدمك الأخرى في قارة أوروبا؛ ذلك لأن جبال الأورال التي تحتضن هذه المدينة هي بمنزلة فصل/ وصل جغرافي بين قارتي أوروبا وآسيا؛ ولهذا السبب تحتفظ روسيا لنفسها باسم الدولة “الأوروآسيوية”، مثلما تحتفظ مصر لنفسها- عبر سيناء- بمسمى الدولة “الأفروآسيوية”.

اسم المدينة مؤلف من مقطعين: “يكاترين” نسبة إلى “كاترينا” الأولى؛ الإمبراطورة الروسية زوجة المصلح الروسي الكبير بطرس الأكبر، الذي حكم روسيا في نهاية القرن السابع عشر ومطلع القرن الثامن عشر (ويبدو أن محمد علي باشا في مصر كان متأثرًا بخططه في التحديث). أما المقطع الثاني “بورغ” فكلمة دخلت إلى اللغة الروسية من لغات أوروبية زمن التحديث وتقليد أوروبا الغربية، وتعني “مدينة”.

في السنوات العشر الأخيرة بدأت يكاترينبورغ تستقطب الزوار لمشهد تاريخي آخر، مشهد يستعيد حدثًا دمويًّا مأساويًّا يعود بتاريخ روسيا إلى مئة سنة مضت.

فبعد أن شن الشيوعيون في روسيا ثورة ضد الحكم القيصري، اقتادوا أسرة رومانوف الملكية، ممثلة في القيصر نيقولاي الثاني وزوجته ألكسندرا وأبنائهما الخمسة (الصبي الصغير أليكسي، وأربع فتيات هن: أولغا، وتاتيانا، وماريا، وأناستاسيا)، وبأمر من زعيم الثورة “فلاديمير لينين”، أطلقوا النار على رؤوسهم جيمعًا، فسقطوا صرعى في ليلة 17 يونيو (حزيران) عام 1918.

حين زرت يكاترينبورغ عام 2016 وجدت إحياء لأسرة رومانوف، ورد اعتبار لعهدها الملكي، وزرت كنيسة مهيبة تحمل اسم “كنيسة على الدم” أقيمت عام 2000 في الموضع نفسه الذي تمت فيه عملية إراقة دماء القيصر وعائلته.

أكثر ما استوقفني في زيارة يكاترينبورغ مما له صلة بتاريخ عائلة رومانوف هو متحف العائلة القيصرية التي اغتيلت، ويضم المتحف متعلقات وأغراضًا وأثاثًا وملابس للعائلة الملكية.

بمساعدة مديرة المتحف (وهي سيدة تعج بالنشاط، يملؤها شغف بعملها وتاريخ مدينتها) وقفتُ أمام مجسم لمترو موسكو، وخريطة لشبكة الطرق عليها توقيع القيصر نيقولاي الثاني يعطي أوامره بتنفيذ هذه الشبكة لتطوير البلاد، وتنمية العاصمة.

ذكرتني مديرة المتحف أن مترو موسكو لم يظهر إلا بعد هذا الحدث بسنوات بعيدة، حين اعتبرته الدعاية السوفيتية فخر التنمية الشيوعية، مع أن القيصر الذي أُعدم هو صاحب المشروع.

وبنفس شهيتها للعمل، وحركتها المرحبة المحتفية بضيف أتي من الجنوب، أخرجت لي مؤلفًا طازجًا لمؤرخ روسي يعيد كتابة تاريخ ما قدمه القيصر نيقولاي وعائلته من إنجازات لنهضة الأمة الروسية.

تملكتني الدهشة بعد كل تلك السنوات التي نشأت فيها أجيال من الشعب الروسي تعلمت أن القيصر وعائلته كانوا أعداء الشعب.

2- تشلبيانسك

زرت مدينة تشليابنسك في الجناح الجنوبي الشرقي لجبال الأورال، غير بعيد عن حدود روسيا مع كزاخستان، وكان من أهم أهداف الزيارة معرفة الآثار التي خلفها سقوط نيزك بتاريخ 15 فبراير (شباط) 2013، مخترقًا سماء المدينة بسرعة 60 ألف كم في الساعة (20 كم في الثانية!)

حين ظهر النيزك في سماء إقليم الأورال شاهده كثير من الناس في الجمهوريات المجاورة، وذهب البعض إلى أنهم شعروا بحرارته على الأرض.

نتيجة السرعة الكبيرة التي دخل بها الغلاف الجوي، انفجر النيزك وخلّف الانفجار كمية ضخمة من الغبار والسحب الغازية والترابية، فضلًا عن كثير من الشظايا الصخرية.

نتج عن اختراق النيزك للغلاف الجوي كمية انفجار ضخمة قدرها العلماء بنحو 500 كيلوطن من مادة “تي. إن. تي” الشديدة الانفجار.

وقع عشرات آلاف السكان في نوبات هلع من موت وهلاك محدق، وسقط أكثر من 1500 جريح بإصابات خطيرة! كما انهارت أجزاء كثيرة من نحو 7 آلاف مبنى في الإقليم الذي مرت به الصدمة الصوتية التي أحدثها دخول النيزك الإقليم.

يعد هذا النيزك المنسوب إلى اسم المدينة التي سقط فيها “نيزك تشليابنسك Chelyabinsk meteor” هو الأكثر شهرة في العالم خلال 100 سنة مضت.

يحتفي متحف جامعة تشليابنسك بقطعة من هذا النيزك، التقطتُ معها صورة شخصية.

شغلني اسم المدينة، فبحثت في أصله ومعناه، ودلني السكان المحليون إلى أن  اسم المكان لا علاقة له باللغة الروسية؛ بل مستمد من اللغات المحلية التي تعني فيها كلمة “تشلياب”: “مستنقع طيني”، أو “وحل”؛ اتفاقًا مع الحالة الطبوغرافية للمنطقة المؤلفة من عدد من البحيرات والمستنقعات التي تكونت في حوض نهر مياس.

قال لي المختصون من أهل البلاد إن المرادف لكلمة “تشلياب” في اللغة الروسية هو كلمة “بالوطا”، وهي ذات جذر شبيه بكلمات يونانية، كتلك الكلمة التي أطلقها الجغرافيون الإغريق على شمال غرب سيناء باسم “بيلوز”، التي تعني في أغلب الآراء “الأرض الطينية الغدقة”، ثم حُرّفت في اللغة العربية فيما بعد إلى “بالوظة”، ثم تُرجم المعنى إلى اللغة العربية بين الجغرافيين المعاصرين إلى “سهل الطينة”.

3- أوفا

في عام 1998، تعرفت في الجامعة خلال دراستي الدكتوراة في سانت بطرسبورغ إلى زميل روسي من مدينة أوفا، عاصمة جمهورية “بشكورتوستان” الإسلامية، كان يحدثني دومًا عن مدينته، ونصحني بزيارتها. احتفظت بهذا الحلم حتى عام 2015، وزرت المدينة.

تقع مدينة أوفا على “النهر الأبيض”، الذي يعد أحد أكبر أنهار الأورال الجنوبي، ويصب لاحقًا في نهر كاما، والأخير يصب في الفولغا: نيل روسيا.

في زيارتي إلى “أوفا” دار نقاش مع بعض الباحثين في التاريخ في المدينة، حين ذكروا اسم المؤرخ الفارسي الرائد رشيد الدين فضل الله الهمذاني (نسبة إلى مدينة همذان في إيران)، الذي كان المصدر التاريخي الأول عن الشعوب التترية والبشكيرية التى تسكن روسيا حاليًا، ويعود كتابه “جامع التواريخ” إلى بدايات القرن الرابع عشر الميلادي. وقد أدى التحول إلى المركزية الأوربية- من جراء الاستعمار، وعقدة التخلص من إرث الدولة العثمانية- إلى قطع الصلة مع الحضارات الآسيوية، مع أن البشكير والتتر والقوقاز (وعددًا من الشعوب الأخرى التي كانت تؤلف القيصرية الروسية والاتحاد السوفيتي فيما بعد) ظلوا يستعملون اللغة العربية حتى عام 1929، قبل أن يستسلموا ويخضعوا لجهود السوفيت بنقل أبجديتهم إلى الأبجدية الكيريلية.

في ختام زيارتي لمدينة “أوفا” مررت على الإدارة الدينية للمسلمين في جمهورية بشكيريا، فوجدتها نموذجًا مصغرًا لمشيخة الأزهر في مصر، والعين لا تخطئ هنا كيف يدير الكرملين ملف الشؤون الدينية لدى القوميات البشكيرية والتترية بخبرة عالية، مستفيدًا من تجارب متنوعة بين الصدام المسلح والحوار السلمي، تلك التجارب التي عاشتها روسيا خلال ربع القرن الماضي منذ انهيار المنظومة الشيوعية.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع