أمريكا لها رئيس واحد”، ظل هذا عُرفًا وتقليدًا سياسيًّا منذ الرئيس الأول جورج واشنطن. وكان المقصود في البداية بهذا المبدأ أنه في الفترة الانتقالية بين الرئيس المنتهية ولايته والرئيس المنتخب، هناك “رئيس واحد لأمريكا”، ولا يحق للرئيس المنتخب أن يتخذ قرارات في ظل استمرار ولاية الرئيس المنتهية ولايته.
في العقود والقرون الأولى بعد الاستقلال الأمريكي، خاصةً في الفترة بين عامي 1789 و1933، كانت “الفترة الانتقالية” تستمر نحو 4 أشهر، حيث تُعقد الانتخابات الرئاسية يوم الثلاثاء بعد الاثنين الأول في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) كل 4 سنوات، وكان الرئيس يُنصَّب في 4 مارس (آذار) من العام التالي. لكن بداية من عام 1937 حتى الرئيس الحالي دونالد ترمب، تقلصت الفترة الانتقالية من بداية شهر نوفمبر (تشرين الثاني) إلى 20 يناير (كانون الثاني) من العام التالي للانتخابات.
ظل الالتزام بروح ومعنى أن “أمريكا لها رئيس واحد” طوال ما يقرب من قرنين ونصف القرن (وهو تاريخ الولايات المتحدة)، بحيث تُسمع في الفترة الانتقالية عن قرارات الرئيس المنتهية ولايته فقط، ولا يتحدث الرئيس الجديد إلا في حالات نادرة، وتكون عن سياساته المستقبلية، وتشكيل فريقه الرئاسي.
كان مبدأ “أمريكا لها رئيس واحد” يتضمن أيضًا عدم انتقاد الرؤساء السابقين للرئيس الحالي، وعدم التعليق -من قريب أو من بعيد- على قراراته، وتجلى ذلك في ميثاق أو مبدأ “الاحترام المتبادل” الذي اتُّفق عليه عام 1976 بين الرئيسين الديمقراطي جيمي كارتر والجمهوري جيرالد فورد، بعد أن خاضا خصومة سياسية طويلة.
لكن لأول مرة في التاريخ الأمريكي، يتدخل 3 رؤساء سابقين في تقييم سياسات الرئيس الحالي، حيث لا يتوانى الرؤساء الديمقراطيون الثلاثة الذين على قيد الحياة عن انتقاد الرئيس الحالي دونالد ترمب؛ فخلال الأسابيع الأخيرة، لم تتوقف تنديدات الرؤساء بيل كلينتون، وباراك أوباما، وجو بايدن للرئيس ترمب في جميع المجالات والقطاعات، بداية من وزارة الكفاءات الحكومية التي يترأسها إيلون ماسك، وصولًا إلى سياسات ترمب بشأن العلاقة مع دول حلف شمال الأطلسي “الناتو”، والتحالفات العسكرية الأخرى، مثل “كواد الرباعي”، و”أوكوس”.
ويُحسب للرئيس الجمهوري جورج بوش الابن أنه الرئيس الوحيد على قيد الحياة الذي لم يوجه سهام النقد إلى الرئيس ترمب، رغم الخلافات العميقة بين ترمب وعائلة بوش. فهل هذا يُبشر بمرحلة تنزلق فيها الولايات المتحدة إلى ساحة جديدة من الخلافات والاستقطابات الداخلية؟ أم أن الهزيمة المدوية التي تعرض لها الحزب الديمقراطي، وحديث ترمب السلبي عن ميراث الرؤساء الثلاثة، هو ما يدفعهم إلى كسر “بروتوكول رئاسي” ظل راسخًا أكثر من 25 عقدًا؟ وهل للأمر علاقة بخطة الحزب الديمقراطي للعودة مبكرًا إلى طريق الانتصارات الانتخابية، والاستعداد من الآن لانتخابات التجديد النصفي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2026؟
من الطبيعي أن يكون هناك احتدام في النقاش بين مرشحي أكبر حزبين في الولايات المتحدة على مدار العقود الماضية. حتى الرئيسان جيمي كارتر وجيرالد فورد، اللذان كان بينهما تنافس شديد، استطاعا أن يجدا في النهاية “مساحة مشتركة”، ويعيدا تأكيد مبدأ “الاحترام المتبادل والصداقة الشخصية المكثفة”.
ورغم الحملة الانتخابية الساخنة في نهاية ولاية بيل كلينتون، التي فاز فيها جورج بوش الابن بفارق نحو 500 صوت فقط على المرشح الديمقراطي آل جور، فإن الرئيس بوش الابن يتحدث دائمًا بود واحترام شديدين عن الرئيس بيل كلينتون. وفي إحدى المناسبات، كشف عن صورة تجمعه مع بيل كلينتون، وقال عنه: “لقد أسهمت السنوات التي قضاها بيل كلينتون في البيت الأبيض في إبراز نقاط قوة هذا الرجل الذي ملأ البيت الأبيض بالطاقة والبهجة”.
كما أن الرؤساء الخمسة الحاليين (ومنهم دونالد ترمب) كانوا دائمي الإشادة بالرئيس الراحل جيمي كارتر، بوصفه كان صديقًا ومحبًا للجميع. لكن على العكس من كل ذلك، تتعمق الخلافات والمرارات الشخصية والحزبية بين ترمب من جانب، والرؤساء الديمقراطيين الثلاثة الذين على قيد الحياة من جانب آخر؛ بما يقوض أحد الأسس الراسخة والتقاليد العريقة بين النخب السياسية الأمريكية.
مؤشرات
تؤكد كل المواقف التي صدرت عن ترمب والرؤساء الديمقراطيين الثلاثة أن الشهور والسنوات المقبلة سوف تشهد مزيدًا من الانتقادات التي سيوجهها الرؤساء الديمقراطيون الثلاثة إلى الرئيس ترمب، الذي لم يتوقف هو أيضًا عن انتقادهم، ليس فقط بعد فوزه في انتخابات 5 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بل في أثناء الحملة الانتخابية.
فالرئيس ترمب يرى -على سبيل المثال- أن الرئيس السابق جو بايدن هو السبب في اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، وأن “اتفاقيات التجارة الحرة” التي وقّعها أوباما عام 2016 مع دول المحيط الهادئ أدّت دورًا كارثيًّا في الاقتصاد الأمريكي.
وهناك كثير من المؤشرات التي تقول إن الثلاثي الرئاسي الديمقراطي السابق سوف يقود حملة الديمقراطيين المقبلة ضد الرئيس ترمب خلال الفترة المقبلة، وأبرز تلك المؤشرات هي:
أولًا- تدمير أمريكا
وفق الأعراف السياسية الأمريكية، لا يمكن انتقاد الرئيس الجديد قبل مرور 100 يوم على وجوده في البيت الأبيض، حتى يكون التقييم موضوعيًّا، وله صدى لدى قاعدة الناخبين، لكن الرؤساء الديمقراطيين الذين على قيد الحياة لم ينتظروا مرور 100 يوم لانتقاد ترمب، واستغلوا كل مناسبة -عامة أو خاصة- لتوجيه اللوم إلى الرئيس الحالي.
فلا تتوقف تغريدات الرئيس السابق جو بايدن عن انتقاد ترمب في جميع المجالات، وحذر أكثر من مرة من خسارة الولايات المتحدة لحلفائها في العالم، وقال إن الوقت الحالي هو وقت خصوم الولايات المتحدة الذين يستفيدون من أخطاء ترمب، وإن ما بذله هو ورفيق دربه باراك أوباما في بناء تحالفات عميقة وقوية يُقوضه سلوك الرئيس دونالد ترمب وقراراته.
وما يؤكد أن هذه الانتقادات تستهدف في النهاية تغيير موقف الناخبين الذين خذلوا الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة، هو انتقاد جو بايدن فصل الموظفين الفيدراليين الذين فُصلوا بموجب إجراءات وزارة الكفاءات التي يقودها الملياردير إيلون ماسك.
وفي أول كلمة علنية له بعد الخروج من البيت الأبيض، قال بايدن في شيكاغو: “آخر ما يحتاج إليه المستفيدون من حكومتهم هو القسوة المتعمدة. في أقل من 100 يوم، خلفت الإدارة الحالية ضررًا ودمارًا كبيرين”.
ودائمًا ما كانت العلاقات متوترة بين الرئيسين ترمب وبايدن، حيث دأب ترمب على السخرية من “بايدن النائم”، وشن ترمب حملة شعواء على عائلة بايدن، لا سيما ابنه هانتر، وأقدم على أمر غير مسبوق أيضًا عندما سحب حق بايدن في الاطلاع على المعلومات الاستخباراتية، كما سحب الحماية الخاصة والسرية التي يتمتع بها الرؤساء السابقون وعائلاتهم، وهو ما يهدد حياة عائلة بايدن وفق كثير من خبراء الأمن الداخلي الأمريكي.
وهذا يؤكد أن الخلافات سوف تتفاقم بين ترمب وبايدن خلال الشهور المقبلة، حيث لا ينسى ترمب أنه أُدين أمام القضاء أكثر من مرة في أثناء عهد بايدن، في اتهامات وصفها بالسياسية، واتهام بايدن للحزب الجمهوري بقيادة ترمب بأنه يتجه نحو “الفاشية”، وأن ترمب يشكل خطرًا على الديمقراطية الأمريكية.
ثانيًا- تحركوا بسرعة
مع أن الرئيس الأسبق باراك أوباما معروف عنه الحذر وانتقاء الكلمات، فإن الأسابيع الأخيرة شهدت دعوته -أكثر من مرة- إلى “التحرك” ضد القرارات والإجراءات التي يقوم بها ترمب على الصعيدين الداخلي والخارجي. ومع أنه لم يحدد طبيعة الخطوات التي يمكن القيام بها، فإنه قال: “يقع على عاتقنا جميعًا إصلاح هذا الوضع، وإن أهم منصب في هذه الديمقراطية هو المواطن. أدعو كل الذين لديهم موارد إلى رفض مطالب البيت الأبيض”.
ولا يفوّت أوباما فرصة لتوجيه الانتقادات والسخرية من ترمب، وأكثر ما أزعج ترمب هو وصف أوباما له بأنه “دائم الشكوى والتذمر”، وأنه يشبه بذلك الزعيم الكوبي فيدل كاسترو.
ثالثًا- تقسيم أمريكا
الرئيس بيل كلينتون ذهب بعيدًا في انتقاد ترمب، وحذر من أن قراراته تهدد 250 عامًا من الوحدة والاتحاد الأمريكي، لا سيما أن الرئيس الحالي دونالد ترمب كثيرًا ما كان ينتقد أيضًا هيلاري كلينتون، زوجة الرئيس بيل كلينتون، ومنافسته على منصب الرئاسة عام 2016.
وفي مقابل فصل ترمب آلاف العمال والموظفين الفيدراليين من أعمالهم، أشاد بيل كلينتون بهم، مطالبًا الرئيس ترمب بالتراجع عن هذه القرارات، وإعادة الموظفين إلى أعمالهم.
التزامن في توجيه الانتقادات من الرؤساء الديمقراطيين الثلاثة إلى ترمب ليس من قبيل المصادفة، ولا تقف خلفها الخلافات والانتقادات الشخصية فقط؛ بل تأتي ضمن “خطة إستراتيجية متكاملة” لتقويض ميراث دونالد ترمب شخصيًّا، وإفشاله سياسيًّا، بهدف عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض في انتخابات 2028، وقطع الطريق على أي محاولة من ترمب للترشح مرة ثالثة، والبقاء في البيت الأبيض إلى ما بعد 20 يناير (كانون الثاني) 2029.
ويتزامن كل ذلك مع وضع الديمقراطيين خطة متكاملة ضد سياسات ترمب، تقوم على “مناكفة” أي خطوة أو قرار يقوم به ترمب على الصعيدين المحلي والدولي، وعدم ترشيح امرأة للرئاسة في 2028 بعد هزيمة ترمب لامرأتين، هما هيلاري كلينتون وكامالا هاريس، وإعادة “تعريف العلاقة” مع اللاتينيين والسود والعرب والمسلمين، والاعتراف “بالقناعات المتحركة للناخبين”، التي تعني عدم الجمود في رسالة انتخابية واحدة، مع ضرورة الاستماع إلى الناخب، وتوجيه رسائل واضحة، وإعطاء أولويات واضحة بشأن قضية الهجرة.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.