لفهم تعقيدات المشهد السياسي في بلدان الاتحاد السوفيتي السابقة؛ علينا العودة إلى قانون «إجراءات حل القضايا المتعلقة بانسحاب جمهورية اتحادية من الاتحاد السوفيتي»، الصادر في الثالث من أبريل (نيسان) 1990، والموقع عليه من كافة ممثلي الجمهوريات السوفيتية الراغبة في الانفصال، حيث ينظم هذا القانون الإجراءات التي ينبغي اتباعها حال قررت جمهورية سوفيتية الاستقلال، وكيفية التعامل مع القوميات المختلفة بداخلها، والتي تمتعت بوضعية «الحكم الذاتي» في ظل السلطة السوفيتية.
بدأت القصة عندما تم توقيع «معاهدة تأسيس الاتحاد السوفيتي»، في 30 ديسمبر (كانون الأول) 1922، والتي ضمت البلدان الثلاثة (روسيا – أوكرانيا – بيلاروس)، وانضمت إليها فيما بعد باقي أقطار الإمبراطورية الروسية المنهارة، والتي لم يكن لها دولة قومية سابقة ولا حدود واضحة متعارف عليها، ولذلك جرى رسم حدود لها على عدة مراحل منذ العام 1922 إلى أن استقرت في ستينيات القرن الماضي، ولمواجهة إشكالية وجود قوميات مختلفة عن غالبية سكان الجمهوريات الجديدة “الروس” في كازاخستان الوليدة وبقية جمهوريات آسيا الوسطى السوفيتية – “الأرمن” داخل جمهوريتي جورجيا وأذربيجان – “الأبخاز” و “الأوسيتيين” في جورجيا، إلخ. نص الميثاق السوفيتي، على تمتع كل قومية داخل الاتحاد السوفيتي، بوضعية “الجمهورية” التي كانت أكبر من كونها فيدرالية وأقل من كونها كونفدرالية. أما القوميات الصغيرة داخل هذه “الجمهوريات” فمنحها الميثاق التأسيسي الحق في الحكم الذاتي، الذي بموجبه يتم احترام لغتها وثقافتها، وعدم فرض اللغة القومية الخاصة بهذه الجمهورية على سكانها، على أن تكون الروسية هي اللغة المشتركة لكل شعوب الاتحاد، واحتفاظ كل قومية بحقها في استعمال لغتها القومية والتدريس بها.
عندما ظهرت بوادر النزعة القومية داخل الاتحاد السوفيتي، وتزايد الرغبات بالاستقلال من بعض الجمهوريات، خشيت القوميات الصغيرة من أن تضيع حقوقها، ولحل هذه المشكلة؛ تم الاتفاق على إصدار قانون «إجراءات حل القضايا المتعلقة بانسحاب جمهورية اتحادية من الاتحاد السوفيتي»، والذي نظم وضعية هذه القوميات في المادة الثالثة من القانون، والتي تنص على التالي: “في حال تشكل أي جمهورية اتحادية تضم مناطق أو مقاطعات متمتعة بالحكم الذاتي، يتم إجراء استفتاء منفصل لكل منطقة حكم ذاتي. تحتفظ شعوب الكيانات المتمتعة بالحكم الذاتي بالحق في اتخاذ قرار مستقل بشأن مسألة بقائهم في الاتحاد السوفيتي أو في جمهورية الاتحاد المنفصلة، وكذلك إثارة مسألة وضعهم القانوني كدولة مستقلة”.[1] – منح القانون ثلاث خيارات لهذه الكيانات:
نتيجة فشل جميع الجمهوريات السوفيتية السابقة في إيجاد لحل للمسألة القومية، وسعي قادتها الجدد لبناء “دولة الأمة” ذات اللغة والثقافة الواحدة المنتمية للأغلبية، ثارت هذه المناطق على الجهوريات الجديدة، وصوتت في استفتاء بقاء الاتحاد السوفيتي من عدمه على بقاءه، وبعد تفكك الأخير صوتت لصالح الاستقلال، وطلبت الانضمام للاتحاد الروسي؛ كونه – أولاً، الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي – ثانيًا، لأن الاتحاد الروسي، طبق النظام الفيدرالي والحكم الذاتي للقوميات الغير سلافية (يوجد 22 جمهورية فيدرالية داخل الاتحاد الروسي، ومنطقتي حكم ذاتي)، بينما لم تطبق أي جمهورية سوفيتية سابقة هذا النموذج. وجدت موسكو أن عليها “مسؤولية” تاريخية في حماية هذه القوميات، وإمكانية استخدامهم كوسيلة لبقاء نفوذها على الجمهوريات المستقلة حديثًا خصوصًا في ظل وجود أقليات روسية كبيرة في بعضها. ومن هذا المدخل نشأت أزمة المناطق المتمردة، والعلاقة بينها وبين موسكو، التي عززتها الأخيرة في تعديلات الدستور الذي دخل حيز التنفيذ في 4 يوليو (تموز) 2020، الذي جاء في نص البند الأول بالمادة (67)، ما يلي: “الاتحاد الروسي الحالي، هو الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي؛ فيما يتعلق بكافة التعهدات والاتفاقيات والمسؤوليات التي التزم بها”[2] – يمكن تقسيم هذه المناطق المتمردة، إلى ثلاثة أقسام رئيسية.
يضاف لما سبق، وجود شتات روسي يقدر بحوالي 20% في بلدان آسيا الوسطى الخمسة (أوزباكستان – طاجيكستان – قرغيزستان – كازاخستان – تركمانستان)[8]، واستخدام واسع النطاق بهذه المنطقة للغة الروسية بجانب بلدان جنوب القوقاز (جورجيا – أرمينيا – أذربيجان).
باختصار، لدى روسيا أوراق لعب عديدة وحلفاء مسلحين في كل هذه المنطقة قادرة على تحريكهم في الوقت الذي تراه مناسبًا، وخلط كافة الأوراق للغرب، وتحويل المنطقة من بحر البلطيق مرورًا بآسيا الوسطى وصولاً لأوروبا الشرقية ووسطها لكتلة من اللهب الذي يحرق الجميع. مع إمكانيات كبيرة لديها تمكنها من استعادة التوتر المسلح من جديد في وسط أوروبا من خلال بوابة البلقان عبر حلفائها من القوميين الصرب الطامحين لاستعادة “صربيا الكبرى”، وانتزاع إقليم كوسوفو، وجمهورية صرب البوسنة، والأراضي ذات الأغلبية الصربية في كرواتيا ومقدونيا الشمالية، خلافًا لوجودها العسكري في بيلاروس ومنطقة كالينينغراد، وقواعدها الجوية والبحرية في سوريا، ونظرة واحدة على الخريطة توضح الوضع الجديد، وتطويق القدرات العسكرية الروسية للناتو من عدة اتجاهات.
ما ورد في البحث يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير