تقدير موقف

تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا بعد قطيعة طويلة.. تحليل للأبعاد الجيوسياسية والإستراتيجية


  • 22 يوليو 2024

شارك الموضوع

شهدت العلاقات بين سوريا وتركيا تحولات جذرية ومؤثرة منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، حيث انتقلت من تعاون وثيق وشراكة إستراتيجية إلى قطيعة تامة، وصراع دبلوماسي مستمر. هذه الأزمة التي اشتعلت نتيجة تداخل المصالح الإقليمية والدولية، وأدت إلى نزاع مسلح شامل، أثرت تأثيرًا كبيرًا في المشهد السياسي في الشرق الأوسط، والعلاقات بين الدول المجاورة. تركيا، التي كانت تتمتع بعلاقات جيدة مع الحكومة السورية قبل الأزمة، وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع دمشق بعد أن اختارت دعم المعارضة السورية سياسيًّا وعسكريًّا. أدى هذا الانقسام إلى تعقيد الوضع في سوريا، وزيادة التوترات الإقليمية، وجعل مسألة تطبيع العلاقات بين البلدين تبدو بعيدة المنال.

على الرغم من محاولات متعددة سابقة لإعادة بناء الجسور بين أنقرة ودمشق، فإن هذه المحاولات لم تنجح في تحقيق نتائج ملموسة، وظلت العلاقات متوترة حتى وقت قريب. ومع ذلك، شهدت الأشهر الأخيرة بوادر جديدة تشير إلى احتمال حدوث تحول في هذا المسار. جاءت هذه التطورات بفضل جهود الوساطة الروسية التي تسعى إلى إعادة تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا كجزء من إستراتيجيتها الأوسع لتحقيق الاستقرار في المنطقة. يعد هذا التطبيع جزءًا أساسيًّا لروسيا في سبيل تحقيق حل شامل للأزمة السورية، وتعزيز الأمن الإقليمي، فموسكو ترى أن استعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة يمكن أن تسهم في تقليل التوترات، وتعزيز التعاون الإقليمي، وتوفير بيئة أكثر استقرارًا لتنفيذ الاتفاقيات السياسية والأمنية في سوريا. إن الدور الروسي في هذا السياق لا يقتصر على الوساطة فحسب؛ بل يشمل أيضًا توفير الدعم السياسي والعسكري للطرفين لضمان تحقيق تقدم ملموس في هذا المسار.

إن تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا يكتسب أهمية خاصة في ظل التغيرات الجيوسياسية الكبيرة التي تشهدها المنطقة حاليًا؛ فالتوترات المستمرة في الشرق الأوسط، ومنها الصراع في غزة، والانسحاب المحتمل للقوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، تفرض على الدول المجاورة إعادة تقييم سياساتها وتحالفاتها. تركيا، التي تواجه تحديات داخلية وخارجية متعددة، تجد في إعادة بناء العلاقات مع سوريا خطوة مهمة لتخفيف الضغوط الداخلية المتعلقة بوجود ملايين اللاجئين السوريين على أراضيها، وتعزيز موقفها الجيوسياسي في مواجهة التغيرات الإقليمية.

على الجانب السوري، تسعى الحكومة السورية إلى كسر العزلة السياسية والاقتصادية المفروضة عليها منذ أكثر من عقد، واستعادة العلاقات مع تركيا يمكن أن تسهم في تحقيق هذا الهدف، بالإضافة إلى توفير فرص اقتصادية جديدة تسهم في إعادة بناء الاقتصاد السوري المتدهور. التعاون مع تركيا يمكن أن يوفر لسوريا دعمًا سياسيًّا واقتصاديًّا مهمًّا، ويسهم في تخفيف الضغوط الدولية المفروضة عليها. بالإضافة إلى ذلك، يعد التنسيق الأمني بين سوريا وتركيا أمرًا حيويًّا لكلا البلدين، فالتحديات الأمنية المشتركة، ومنها تهديدات التنظيمات الإرهابية والمجموعات المسلحة، تتطلب تعاونًا وثيقًا بين دمشق وأنقرة لضمان استقرار المناطق الحدودية، ومنع تصاعد التوترات الأمنية، والتعاون في هذا المجال يمكن أن يسهم في تحقيق استقرار أكبر في المناطق الشمالية من سوريا، التي لا تزال تشهد وجودًا عسكريًّا تركيًّا، ومجموعات معارضة مدعومة من أنقرة.

رغم الخلافات العميقة بين البلدين، فإن هناك مصالح مشتركة تدفعهما نحو البحث عن سبل للتقارب، من بينها الحد من الحكم الذاتي للأكراد في شمال شرق سوريا، الذي يراه كلا البلدين تهديدًا لأمنه القومي؛ فتركيا ترى أن وجود كيان كردي مستقل أو شبه مستقل على حدودها يشكل خطرًا كبيرًا، في حين ترى دمشق في هذا الحكم الذاتي تحديًا لسيادتها، ووحدتها الوطنية.

على الرغم من هذه العقبات، فإن هناك كثيرًا من العوامل التي تسهم في دفع البلدين نحو التقارب. من بين هذه العوامل التغيرات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة، ومنها تزايد النفوذ الإيراني، والتدخل الروسي في سوريا، بالإضافة إلى الضغوط الاقتصادية والسياسية الداخلية التي يواجهها كلا البلدين. تركيا، التي تواجه تحديات اقتصادية كبيرة وضغوطًا سياسية من المعارضة الداخلية، تجد في إعادة العلاقات مع سوريا فرصة لتخفيف بعض هذه الضغوط من خلال تحسين العلاقات الاقتصادية، وتقليل عدد اللاجئين السوريين الذين تستضيفهم. أما سوريا فاستعادة العلاقات مع تركيا يمكن أن تساعد على تخفيف العزلة الدولية، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي الذي تشتد الحاجة إليه.

بالإضافة إلى ذلك، ترى روسيا أن تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا يمكن أن يعزز دورها كوسيط رئيس في المنطقة، ويعزز نفوذها الإقليمي. من خلال دعم الجهود الرامية إلى إعادة بناء العلاقات بين دمشق وأنقرة، تسعى موسكو إلى تحقيق استقرار أكبر في سوريا، وتعزيز موقفها في مواجهة الضغوط الغربية. هذا النهج يتماشى مع السياسات الروسية التي تركز على تعزيز التحالفات الإقليمية، والحفاظ على التوازن في المنطقة. من خلال الاضطلاع بدور الوسيط، تتمكن روسيا من تعزيز صورتها بوصفها قوة قادرة على حل النزاعات، وتحقيق التوازن بين مختلف الأطراف.

مع أن الطريق إلى تطبيع كامل للعلاقات بين سوريا وتركيا لا يزال طويلًا ومملوءًا بالتحديات، فإن هناك مؤشرات على إمكانية تحقيق تقدم. يمكن أن يسهم التنسيق الوثيق بين موسكو وأنقرة في تسريع هذه العملية، خاصة إذا تم التركيز على القضايا الأمنية المشتركة، والمصالح الاقتصادية المتبادلة. يمكن للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب وتأمين الحدود أن يكون نقطة انطلاق جيدة لتحقيق تعاون أكبر بين البلدين. كما أن التطورات في الساحة الدولية والإقليمية قد تدفع البلدين إلى اتخاذ خطوات نحو تحقيق هذا الهدف، خاصة في ظل تزايد الضغوط الدولية لتحقيق الاستقرار في المنطقة.

الرؤية الروسية لتطبيع العلاقات وتأثيرها في شمال سوريا ومناطق قسد

تسعى روسيا جاهدة إلى تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا كجزء من إستراتيجيتها الأوسع لتحقيق الاستقرار في المنطقة، وهو ما أكدته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في تصريحاتها التي شددت على أهمية هذه الخطوة لحل شامل للأزمة السورية، وتعزيز الأمن الإقليمي. ترى موسكو أن تطبيع العلاقات يمكن أن يسهم في تهدئة التوترات المستمرة في شمال سوريا، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة. إن إعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق يمكن أن تؤدي إلى تنسيق أمني أفضل بين البلدين؛ مما يضعف موقف (قسد) ويقلل تأثيرها في المنطقة. هذا التنسيق قد يسهم في تقليل الحافز لدى القوات الكردية للمطالبة بمزيد من الحكم الذاتي، ويجبرها على التفاوض مع الحكومة السورية، والبحث عن تسويات سياسية. بالإضافة إلى ذلك، من شأن تطبيع العلاقات أن يعزز موقف الحكومة السورية في مواجهة المعارضة المسلحة المدعومة من تركيا في الشمال؛ مما قد يؤدي إلى استقرار أكبر في المناطق المتنازع عليها. في نهاية المطاف، يمكن لهذا التطبيع أن يسهم في خلق بيئة أكثر استقرارًا وأمانًا؛ مما يسهل جهود إعادة الإعمار، ويعزز قدرة سوريا على استعادة سيادتها، ووحدة أراضيها.

ما تريده تركيا والضغوط الداخلية على أردوغان

تسعى تركيا من خلال تطبيع العلاقات مع سوريا إلى تحقيق عدة أهداف إستراتيجية، وأمنية، واقتصادية. أهم هذه الأهداف هو تقليل الضغوط الداخلية المتعلقة بملف اللاجئين السوريين؛ إذ تستضيف تركيا نحو 3.6 مليون لاجئ سوري، وهو ما يسبب ضغطًا كبيرًا على الاقتصاد التركي، والبنية التحتية، والخدمات الاجتماعية. ومع تصاعد المشاعر المعادية للاجئين في الداخل التركي، يواجه الرئيس رجب طيب أردوغان ضغوطًا متزايدة من المواطنين والأحزاب المعارضة لاتخاذ خطوات حاسمة بشأن هذه القضية.

من خلال تطبيع العلاقات مع الحكومة السورية، يأمل أردوغان التوصل إلى اتفاق يسمح بعودة آمنة وطوعية للاجئين إلى سوريا؛ مما سيخفف العبء الاقتصادي والاجتماعي على تركيا. بالإضافة إلى ذلك، تسعى تركيا إلى تعزيز أمنها القومي من خلال التنسيق الأمني مع دمشق، خاصة في مواجهة التهديدات التي تشكلها الجماعات الكردية المسلحة في شمال سوريا؛ إذ ترى أنقرة أن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) تشكل تهديدًا لأمنها القومي؛ نظرًا إلى ارتباطها بحزب العمال الكردستاني (PKK)، المصنف منظمة إرهابية في تركيا.

تطبيع العلاقات يمكن أن يسهم في تقليص دعم (قسد)، ويعزز قدرة أنقرة على مواجهة التهديدات الأمنية على حدودها الجنوبية. كما يأمل أردوغان تعزيز التعاون الاقتصادي مع سوريا في مرحلة ما بعد الحرب، حيث يمكن لتركيا أن تضطلع بدور رئيس في جهود إعادة الإعمار؛ مما يعزز الاقتصاد التركي، ويوفر فرص عمل جديدة.

الضغوط الداخلية على أردوغان لا تقتصر على ملف اللاجئين فقط؛ بل تشمل أيضًا التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجه حكومته؛ فالأزمات الاقتصادية المتكررة، والتضخم المرتفع، وانخفاض قيمة الليرة التركية، زادت السخط الشعبي؛ مما يدفع الحكومة إلى البحث عن حلول جديدة لتخفيف هذه الضغوط، ويمكن أن يكون تطبيع العلاقات مع سوريا جزءًا من إستراتيجية أوسع لتعزيز الاستقرار الداخلي، وتقديم نتائج ملموسة للمواطنين؛ مما قد يسهم في تحسين موقف أردوغان السياسي قبل الانتخابات المقبلة.

تأثير الأزمة السورية في الاقتصاد التركي ونتائج الانتخابات

الأزمة السورية شكلت عبئًا كبيرًا على الاقتصاد التركي، حيث تستضيف تركيا نحو 3.6 مليون لاجئ سوري، مما يضع ضغوطًا كبيرة على البنية التحتية، والخدمات العامة، ومنها التعليم، والرعاية الصحية، والإسكان. هذا الوضع أدى إلى زيادة النفقات الحكومية، وتأثيرات سلبية في سوق العمل؛ إذ يشعر كثير من الأتراك بأن اللاجئين ينافسونهم على الوظائف والمساعدات الاجتماعية. في الانتخابات المحلية لعام 2024، عانى حزب العدالة والتنمية الحاكم- بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان- خسائر ملحوظة في عدة مناطق رئيسة، منها إسطنبول وأنقرة. هذه الخسائر كانت- إلى حد كبير- نتيجة لتزايد السخط الشعبي تجاه السياسات الاقتصادية للحكومة، وفشلها في معالجة الأزمة الاقتصادية المستمرة، التي تفاقمت بفعل تراجع قيمة الليرة التركية، وارتفاع معدلات التضخم. شعور الجمهور بأن الحكومة لم تقم بما يكفي لحماية مصالحهم الاقتصادية، في ظل الأعباء الناتجة عن استضافة اللاجئين السوريين، تسبّب في تراجع دعم حزب العدالة والتنمية. بالإضافة إلى ذلك، فإن تصاعد المشاعر المعادية للاجئين زاد الضغوط على الحكومة لتبني سياسات أكثر صرامة تجاه الأزمة السورية، والسعي إلى إيجاد حلول دائمة لتخفيف الأعباء الاقتصادية والاجتماعية.

الاستنتاجات

تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا يمثل خطوة إستراتيجية مهمة لكلا البلدين، وللمنطقة بأسرها. فيما يتعلق بروسيا، فإن دعم هذا التطبيع يعزز دورها بوصفها وسيطًا رئيسًا في الشرق الأوسط، ويسهم في تحقيق استقرار أكبر في سوريا. إعادة العلاقات يمكن أن تؤدي إلى تنسيق أمني أفضل بين دمشق وأنقرة؛ مما يقلل تأثير قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، ويضعف موقفها، ويعزز قدرة الحكومة السورية على استعادة السيطرة على أراضيها. تركيا، من جانبها، ترى في تطبيع العلاقات مع سوريا فرصة لتخفيف الضغوط الداخلية المتعلقة باللاجئين، وتحدياتها الاقتصادية. تعزيز التعاون مع دمشق يمكن أن يسهم في تأمين حدودها الجنوبية، والتصدي للتهديدات الكردية، بالإضافة إلى فتح آفاق جديدة للتعاون الاقتصادي في مرحلة إعادة الإعمار. الضغوط الداخلية على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من المواطنين والأحزاب المعارضة، بسبب ملف اللاجئين والأزمات الاقتصادية، تدفعه نحو البحث عن حلول جديدة، وتطبيع العلاقات مع سوريا يعد جزءًا من إستراتيجية أوسع لتحقيق الاستقرار الداخلي، وتعزيز موقفه السياسي. في المجمل، فإن هذه الخطوة تحمل إمكانات كبيرة لتحقيق الاستقرار الإقليمي، وتقديم فوائد ملموسة لكلا البلدين على الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والأمنية.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع