أدب

تشيخوف.. القصة القصيرة


  • 5 مارس 2024

شارك الموضوع

تربطني بهذه المجموعة القصصية ثلاثة روابط؛ فقبل عدة سنوات خلت، تجولت في الشوارع التي نشأ فيها أديب روسيا الشهير أنطون تشيخوف، ملتمسًا تلك البيئة الجغرافية التي شكلت وجدان هذا العبقري.

ولد تشيخوف وعاش صباه- وصدمته الدنيا- في بلدة صغيرة على البحر الأسود تسمى “تاجان روك”.

لو كان في البلدات المصرية على بحيرات شمال الدلتا- مثل المعدية، وإدكو، وبلطيم، وعزبة البرج- مسحة من نظافة ونظام، لقلت لك إن “تاجان روك” هي النسخة الروسية من بلدات الدلتا المصرية.

أما الرابط الثاني فهو اسم المترجم المصري العظيم الراحل د. أبو بكر يوسف، فقد التقيته في موسكو مرتين أو ثلاثًا قبل ثماني سنوات، كان أهمها ذلك اللقاء الذي امتد ساعتين في عامه الأخير قبل رحيله عن الدنيا.

يقول أبو بكر يوسف إنه حين يترجم تشيخوف يرجع إلى القاموس العربي الشائع في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ليختار أقرب الكلمات الدالة على زمان الأحداث ومكانها، ويلتمس روح ذلك العصر، بل إنه كان يبحث في بعض الأحيان عن أقرب أديب أو كاتب عربي لديه قاموس يشبه قاموس تشيخوف ليستعير منه ويختار مفردات تناسب حرفة التعريب والترجمة.

الرابط الثالث في هذا الكتاب، هو الأحداث التي تضمها تلك المجموعة القصصية المزدحمة بكل من السخرية، والإحباط، والألم من مساخر الفساد السياسي والمجتمعي.

والحقيقة أن المجتمع الروسي في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، يعطي أمثلة متكررة لما عاشته- ولا تزال- بعض مجتمعاتنا العربية.

وقد رأيت أنه قبل أن أعلق على هذه المجموعة القصصية، أعيد قراءة المقدمة الشارحة التي كتبها أبو بكر يوسف عن أنطون تشيخوف.

وفي السطور التالية، لن أقوم بأكثر من تلخيصها في شكل نقاط مكثفة موجزة.

ولد أنطون تشيخوف في يناير (كانون الثاني) ١٨٦٠م، ورحل عنها في يوليو (تموز) ١٩٠٤م، وخلال هذا العمر القصير (٤٤ سنة)، والعمر الأدبي القصير (٢٤ سنة) ترك لنا إرثًا أدبيًّا خالدًا من القصص القصيرة، والروايات، والمسرحيات التي أحدثَت انقلابًا حقيقيًّا في القصة القصيرة، والأدب المسرحي.

تعرض والده- التاجر الصغير في مدينة تاجان روك على شاطئ بحر آزوف في جنوب روسيا- لأزمة إفلاس مالي، انتهت بأن عاش أنطون طفولة شَّقيَّة تعيسة؛ فقد أفلس الأب، وهرب سرًّا من الدائنِين إلى موسكو، ثم لحِقت به عائلته ما عدا أنطون، الذي بقي ليكمل تعليمه الثانوي، وظل وحيدًا طوال ثلاث سنوات يكسب رزقه بإعطاء الدروس الخاصَّة، ويقتصد من هذا الكسب الضئيل بعض المال ليرسله إلى موسكو؛ مساعدة لوالديه وإخوته.

في عام ١٨٧٩م أنهى أنطون تشيخوف المدرسة، ورحل إلى موسكو؛ حيث التحق بكلية الطب بجامعة موسكو، وتخرَّج فيها عام ١٨٨٤م، ومارَس مهنة الطب مدة قصيرة.

تفتَّحت موهبة تشيخوف الأدبية وهو بَعدُ في الصف الأول بكلية الطب، فشرع في كتابة الفكاهيات والقصص القصيرة الساخرة، والمشاهد المضحِكة، ونشرها في الصحف والمجلات الأسبوعية الفكاهية في موسكو، وبطرسبورغ.

يشير النُّقاد والمؤرِّخون إلى أن فترة الثمانينيات (حتى بداية التسعينيات) من القرن التاسع عشر كانت من أشد الفترات ظلامًا ورجعيَّة في تاريخ روسيا الحديث؛ فقد فشل مشروع الإصلاح الذي تبنَّاه القيصر ألكسندر الثاني، عندما أصدر مرسوم تحرير عبيد الأرض (الفلاحين) عام ١٨٦١م، وأفلَست حركة “الشعبِيِّين” الثورية، ودخلَت طريقًا مسدودًا، فتَبنَّى جناحها المتشدِّد أسلوب الاغتيال الفردي، وبالفعل اغْتِيل القيصر ألكسندر الثاني عام ١٨٨١م.

ترتب على ذلك تدهور في الأوضاع السياسية والمجتمعية، وتراجعت السُّلطة حتى عن الحد الأدنى من الحرِّيَّات الذي كان موجودًا، وتوالت الإجراءات القمعية في الأرياف والأقاليم، وأُلغيَ مبدأ الانتخاب، وفُرِضت رقابة صارمة على الصحف والمجلات بصدور قانون النشر الجديد عام ١٨٨٢م، الذي أباح إغلاق المجلات بسبب اتجاهها العام، وليس فقط بسبب مقال محدَّد، وألغيَ الاستقلال النسبي الذي تَمتَّعت به الجامعات.

في هذه الفترة العصيبة الخانقة، بدأ تشيخوف بنشر قصصه، وإسكِتشاته المَرِحة، وفكاهياته “البريئة” اللاهية في المجلات الفكاهية المعروفة آنذاك، التي لم تكن تستهدف سوى إضحاك القُرَّاء وتسليتهم.

لكن موهبة تشيخوف كانت أكبر من أن تبقى أسيرة هذه القيود. وشيئًا فشيئًا تبرز في قصصه القصيرة الفكاهية جوانب السخرية اللاذعة من عبَدة المناصب والألقاب، والمنافقِين، وذوي الطباع الفظَّة الذين يستعذبون إهانة الضعفاء، وضعاف النفوس الذين يستسلمون لمصايرهم دون محاولة احتجاج.

وتمتد سخرية تشيخوف إلى المسحوقِين أنفسهم، فهو يسخر من “العبيد الصِّغار” الذين يجدون قمة اللذة والسعادة في إهانة السادة وإذلالهم، والذين يموتون خوفًا من غضب الرؤساء، وأصحاب النفوس الصغيرة التافهة الذين يفرحون لنشر أسمائهم في الصحف، حتى لو كان ذلك بسبب دهس عربات الخيل لهم، والشخصيات المشوَّهة، وليدة المجتمع الظالم الذي يفرِّخ “الجواسيس المتطوِّعِين” الذين يريدون “منع كل شيء”، و”الإبلاغ عن كل الناس”.

كان تصوير تشيخوف للتشوُّهات النفسية، والأخلاقيات المترَدِّية في تلك الفترة (ثمانينيات القرن التاسع عشر) يُفضي بالقارئ مباشرة إلى استنتاج واحد؛ أن كل هذه الفظاظة، وهذا النفاق والابتذال والضعة والطغيان… إنما هي ثمرة الأوضاع الاجتماعية المختلَّة التي يُكرِّسها النظام القائم، ويُسبغ عليها ثياب الشرعية والدَّيمُومة.

ولا عجب- إذن- أن تنتبه الرقابة “اليقظة” لهذه المعاني، فتمنع صدور أولى مجموعات الأديب القصصية، وتُواصل تدخُّلها في كل ما يكتب.

ويجذب الأديب اهتمام القراء وزملائه بتحفته الأولى “السهوب” في جنس الرواية القصيرة “النوفيلا”، التي ظهرت عام ١٨٨٨م، مُؤْذِنة بشق طريق إبداعي جديد لموهبة كبيرة؛ حيث لا تلعب الأحداث أو الحبكة الروائية الدور الرئيس؛ بل يلعبه المزاج العام للقصة، ولوحات السهوب الشاسعة بآفاقها اللا محدودة، وسحرها الخاص، وكأنَّما يرمز الكاتب إلى وطنه روسيا، وقوته وجماله، وتطلُّعه إلى مستقبل أسعد. ويمتزج التفاؤل والفرحة بالحزن العميق الأغوار، وتَرنُّ النبرة الوجدانية كموسيقى حزينة خافِتة مُصاحِبة للسياق العام للرحلة عبر هذه السهوب المترامية.

في عام ١٨٩٠م، يقرِّر أنطون تشيخوف القيام برحلة شاقَّة محفوفة بالخطر من موسكو في الغرب إلى جزيرة سخالين في أقصى شرق روسيا عبر سيبريا كلها، قاطعًا عشرة آلاف كيلومتر بالقطار، والسفينة، والقوارب، وخيول البريد، والعربات الصغيرة، متعرِّضًا لأخطار الغرق، والبرد، والضياع لكي يصل إلى جزيرة سخالين (أرض المعاناة التي لا تطاق)، ويستقصي أحوال السُّجناء والمنفِيِّين هناك، ليقدم بعد ذلك دراسة سوسيولوجية أدبية. وخلال هذه الرحلة، أُصيب تشيخوف بمرض الدَّرَن الرئوي، الذي كان السبب في رحيلة المبكِّر عن العالم.

لم تظهر عبقرية أنطون تشيخوف من الفراغ. لقد عاش تشيخوف في وقت واحد مع ليف تولستوي العملاق الذي أثَّر فيه تأثيرًا كبيرًا في مرحلة معيَّنة، وكان من أساتذته معاصره سالطيكوف- شيدرين؛ أعظم الكُتَّاب الروس الساخرِين، وأحاطَت به مجموعة من الكُتَّاب الموهوبِين الذين ذاعَت شهرتهم في حياة تشيخوف (جوركي، وبونين، وكورلنكو، وكوبرين، وغيرهم).

وكان من أصدقائه أكبر مصوِّري ذلك العصر: لفيتان وريبين، وأبرز الموسيقِيِّين الروس: تشايكوفسكي ورحمانينوف، وأكبر مخرج ومُنظِّر عرفه المسرح الروسي والسوفيتي: قسطنطين ستانسلافسكي، وزميله نيميروفتش- دانتشنكو.

 وإلى وسادة الأدب الروسي الوثيرة، التي صنعها بوشكين، وجوجول، وليرمنتوف، وتورجينيف، ودوستويفسكي، أسند أنطون تشيخوف ظَهْرَه، مستمِدًّا من هذا الإرث الثقافي الضَّخم قُوَّته الإبداعية الفذَّة.

جاء تشيخوف الفنان إلى الدنيا حاملًا رؤية جديدة، ترتدي ثياب الفكاهة والسخرية، ومفهومًا جديدًا عن “المضحِك”، لا باعتباره شيئًا كوميديًّا؛ بل باعتباره تراجيكوميديا، يجمع بين البسمة والسخرية والحزن، وهذا ما ميَّزه عن بقية الكُتَّاب الروس. أما المأساة عنده فليست في وقوع شيء فاجِع خارق؛ بل في عدم وقوع أي شيء، وبقاء الأمور كما هي عليه!

 إنه يُقدِّم أبطاله دون “تزويق”، أو سَتر لعيوبهم وضعفهم؛ لأنه يؤمن بأن “الإنسان سيصبح أفضل عندما تُظهرون له ما هو عليه”، دون استدرار للشفقة، أو اللجوء إلى “الكذب السامي”. من هنا يتَّسم أسلوب تشيخوف بالموضوعية الصارمة، التي قد تبدو نوعًا من البرود تجاه مصاير الأبطال.

في أعمال تشيخوف الروائية والقصصية والدرامية تحسّ- رغم تحفظ الكاتب و”حياديته”- بتعاطفه العميق مع شخصياته المعذَّبة، وأبطاله المُهانِين الذين سحَقَتهم الحياة بابتذالها وكآبتها، وبعطفه عليهم حتى وهو يدين ضعفهم ورذائلهم.

ولم يقتصر تشيخوف في إبداعه على تصوير المثقَّفِين، الأقرب إليه روحيًّا واجتماعيًّا، بل هبط إلى القاع، فقدَّم لنا نماذج بشرية من الفلاحين، والتجار، والعمال، والحِرفِيِّين، والأطفال.

 ولم يقسم أبطاله إلى أشرار وأخيار، فتَحت تأثير الصراع النفسي الداخلي، والهزَّات الأخلاقية، تتبدَّل النفوس فتسمو، أو تنهار، أو تتبادَل المواقع.

وفي هذا التعاطف العميق مع البشر يَكمُن سِحر تشيخوف الخاص الذي يجعل منه معاصرًا بعد رحيله، ومحبَّبًا إلى كل القلوب.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع