مختارات أوراسية

ترمب وواقعية التعددية القطبية


  • 10 سبتمبر 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: bloomberg

استحضرت التطورات الدبلوماسية في مطلع الشهر مسألة التعددية القطبية، ففي قمة منظمة شنغهاي للتعاون والعرض العسكري في الصين، استُعرِضَ القسم غير الغربي من العالم بصورة مهيبة، حتى إن دونالد ترمب لم يُخفِ انطباعه؛ إذ عكست تعليقاته في وسائل التواصل الاجتماعي، الممزوجة بسخرية تنطوي على احترام، أن المشهد لم يتركه غير مبالٍ.

وقد بادر المعلّقون إلى الحديث عن اقتراب ولادة نظام عالمي جديد، لكن ما المقصود أصلًا بـ”النظام”؟ الكلمة تعني وجود انتظام وقواعد يلتزم بها الفاعلون في العلاقات الدولية. هكذا كانت الحال في الأنظمة المعروفة للجميع: نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم نظام ما بعد الحرب الباردة. لم تكن تلك الأنظمة مثالية، أو تعمل كآلة دقيقة، لكنها كانت واضحة الأطر والمحددات.

ومع ذلك، فإن تحويل الوثائق المشتركة إلى أساس لمؤسسات دولية راسخة على النحو الذي اعتاده العالم لم يعد ممكنًا، بل لم يعد ذلك أصلًا هدف المرحلة، ففي البنية العالمية المقبلة (وهو توصيف أدق من “النظام”) ستغدو المرونة هي السمة الجوهرية: أي القدرة على التكيّف مع ظروف متغيرة باستمرار، فالفاعلون الدوليون كُثر، والتشابكات والاعتمادات المتبادلة بينهم متعددة، والعوامل المؤثرة في مسار الأحداث الدولية آخذة في التزايد، وقد تآكلت الهيمنة العالمية في الأساس بفعل هذه التغيرات، أكثر مما تأثرت بظهور مراكز قوة جديدة.

في هذه البيئة لا يمكن الحديث عن توازن شامل. غاية ما يمكن بلوغه هو توازنات إقليمية ظرفية، تختلف في طبيعتها عن “النظام” الذي لا يقوم أصلًا دون نوع من التوازن العام. أما العالم الذي يوصف اليوم بـ”متعدد الأقطاب” فهو فضاء يضم مراكز متباينة الحجم والقوة، تتفاعل فيما بينها وفق إمكاناتها ومصالحها الخاصة.

كانت هشاشة بعض الأطراف في السابق تُعوض جزئيًّا من خلال الحدّ من نفوذ أطراف أخرى. أما اليوم فقد أصبحت المعادلة أكثر صرامة؛ إذ لم يعد قياس موازين القوى يتم من خلال وساطة مؤسسات أو هياكل؛ بل -بصورة مباشرة- وفق ما يمكن تسميته بـ “المقاييس الحقيقية”.

ومن المفارقة أن التعبير الأكثر اتساقًا مع هذا المنظور المتعدد الأقطاب يتمثل في مقولة دونالد ترمب “السلام عبر القوة”، فهو يزدري المؤسسات الدولية، ويفضّل معالجة القضايا مع كل طرف على حدة، مقتنعًا بأن الولايات المتحدة لا تكاد تجد لها ندًّا في أي مواجهة “واحد لواحد”؛ وبذلك فإن ترمب -في جوهر الأمر- لا يعارض التعددية القطبية؛ لأنه يعتبر بلاده أصلًا القطب الأقوى فيها.

ومع أنه قد يبدو عنصرًا متناقضًا داخل هذا السياق -بل ربما يرفض هو نفسه هذا التوصيف- فإن الواقع يؤكد خلاف ذلك؛ فالتعددية القطبية ليست ناديًا للأفكار المتشابهة، وإنما فضاء تنافسي تتقاطع فيه اتجاهات متباينة. وفي سياقه تندلع صراعات حادة، وتتشكل توليفات مصالح، وتقاربات ظرفية، بل حتى تحالفات. غير أن هذه التحالفات لا تشبه -بحال- حلف شمال الأطلسي، الذي ظل -حتى وقت قريب- نموذجًا للتحالفات الصلبة.

وعندما يواجه ترمب رفض القوى الكبرى الاستجابة لمطالبه، يُبدي غضبًا شديدًا. غير أنه -في الوقت نفسه- يُظهر احترامًا واضحًا للدول والقادة الذين يثبتون على مواقفهم بثبات، على عكس موقفه من الحلفاء الذين يبدون استعدادًا لفعل أي شيء خشية أن يغضب “الأب”.

وكما لم تكن “الاشتراكية الواقعية” مطابقة لما حلم به مؤسسوها، فإن “التعددية القطبية الواقعية” تختلف عمّا تصوّره المنظّرون قبل ربع قرن، غير أنها -كما قال أولئك المؤسسون أنفسهم- واقع جاد ودائم، لا بد من التكيف معه، والتأقلم ضمن شروطه.

المصدر: مجلة روسيا في السياسة العالمية

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع