منذ أن وصل دونالد ترمب إلى منصب الرئاسة الأمريكية أول مرة في عام 2017، أثارت سياساته وتصريحاته جدلًا عالميًّا لا يهدأ. وبالرغم من مغادرته البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) 2021 بعد ولاية واحدة، فقد استطاع العودة مجددًا من خلال فوزه في انتخابات 2024، ليصبح الرئيس الأمريكي مرة أخرى. ولطالما شكلت مواقفه من القضايا الدولية محورًا مثيرًا للجدل، خاصةً فيما يتّصل بعلاقاته مع روسيا وأوكرانيا، فبعد الأزمة الأوكرانية- الروسية التي تفجّرت منذ ضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014، أصبحت أوكرانيا إحدى أبرز ساحات التجاذب بين موسكو والغرب. ومع عودة ترمب إلى السلطة، برز حديث عن اقتراح منسوب إليه بـ”الاستحواذ” على محطات الطاقة النووية الأوكرانية؛ ما أثار حزمة أسئلة جادّة عن مدى واقعية هذا الطرح وتبعاته على توازن القوى في المنطقة.
تستمد هذه القضيّة تعقيدها من موقع أوكرانيا المحوري في شرق أوروبا، إذ تشتبك المصالح الروسية الرافضة لأي تحوّل جذري في كييف تجاه الغرب مع رغبة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في احتواء نفوذ موسكو، وتعزيز الاعتماد على مصادر طاقة بعيدة عن روسيا. وقد ازدادت أهمية هذا الملف مع إدراك العالم مكانة الطاقة النووية الأوكرانية؛ فهذه الدولة تمتلك عددًا من المفاعلات النووية التي توفر جزءًا كبيرًا من حاجتها إلى الكهرباء، أبرزها محطة زاباروجيا التي تُعَدّ الأكبر في أوروبا. ويمثّل هذا القطاع ورقة إستراتيجية بالغة الحساسية، سواء على الصعيد الاقتصادي أو الأمني؛ لذا فإن أيّ مشروع يهدف إلى “الاستحواذ” على هذه المنشآت يثير قلقًا مضاعفًا، ليس لدى روسيا وحدها؛ بل لدى المجتمع الدولي عمومًا؛ نظرًا إلى الخطورة المترتبة على جرّ المفاعلات النووية إلى بؤرة الصراعات الإقليمية.
خلال ولايته الرئاسية الأولى (2017–2021)، اتسم نهج ترمب في السياسة الخارجية بالتوجّه الأحادي، والانسحاب من كثير من الاتفاقيات الدولية، فضلًا عن أسلوبه الخطابي الحاد الذي انعكس بوضوح في أكثر من ملف. وبينما دأبت واشنطن على فرض عقوبات متعاقبة ضد روسيا، تذبذبت علاقة ترمب شخصيًّا مع الرئيس فلاديمير بوتين، وهو ما جعل موقفه من الأزمة الأوكرانية محاطًا بالشكوك. ومع انتخابه مجددًا في 2024، استعاد ترمب موقعه في قيادة الإدارة الأمريكية، وسط تساؤلات عن مدى تشدّده هذه المرّة في مواجهة موسكو، لا سيما أن ملف أوكرانيا أصبح أكثر سخونة، وتفاقمت المخاوف من احتمال تحوّل المواجهة بين روسيا والغرب إلى مواجهات أشدّ خطورة.
في ظل هذه المعادلة المعقّدة، ظهرت تقارير إعلامية تتحدّث عن رغبة إدارة ترمب الجديدة في مدّ نفوذ الولايات المتحدة نحو مفاصل حيوية في أوكرانيا، ومنها المفاعلات النووية. وبحسب تلك التقارير أو “التسريبات”، قد يُطرح نموذج من قبيل “الاستحواذ” أو “حق الانتفاع” الطويل على هذه المحطات، تحت ذرائع متنوعة، كالاستثمار، وتوفير الدعم الفني، أو مساعدة كييف على الانفصال التام عن الاعتماد الطاقي على موسكو. لكن هذه الفكرة لم تخرج في تصريحات رسمية واضحة من واشنطن أو كييف؛ ما يعكس حذر الطرفين من إثارة ردّ فعل روسي عاصف، أو عدم جدية الطرح من الأساس. مع ذلك، فإن سوابق ترمب في طرح أفكار “غير تقليدية”، على غرار شراء غرينلاند من الدنمارك، تجعل مسألة “الاستحواذ” على أصول حيوية لدى دول أخرى فرضية غير مستبعدة كليًّا في ذهنه، أو في دوائر مقرّبة منه.
لا يمكن إغفال العوائق الدولية والقانونية التي تواجه هذه الفكرة؛ فالطاقة النووية ليست مجرّد قطاع استثماري مفتوح؛ بل ترتبط بضوابط مشدّدة تفرضها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، واشتراطات عدم الانتشار النووي، فضلًا عن الحقّ السيادي للدول على أراضيها ومرافقها الحسّاسة. هذا من ناحية الإجراءات والالتزامات الرسمية. ومن ناحية أخرى، ستنظر موسكو إلى أي خطوة تعزّز الحضور الأمريكي في أوكرانيا، خاصةً في مجال حساس كالمفاعلات النووية، على أنّها تهديد للأمن القومي الروسي. وقد تدفع هذه الخطوة الكرملين إلى ردود فعل تتراوح ما بين تحريك قوات إضافية في محيط أوكرانيا، أو توسيع نطاق المواجهة الاقتصادية؛ وهو ما سيزيد التوتر القائم أصلًا ويهدّد بتداعيات تتجاوز حدود شرق أوروبا لتشمل المنظومة الدولية برمّتها.
على صعيد آخر، سيجد الأوروبيون أنفسهم في موقف حرج؛ إذ سيستفيد بعضهم من تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، في حين سيتوجس آخرون من ردود الفعل الروسية، وخطر الانزلاق إلى مواجهة مباشرة قد تطول دول البلطيق أو بولندا. أما داخل أوكرانيا، فإن الرأي العام قد يكون منقسمًا؛ إذ قد يرحّب البعض باستثمارات أمريكية تضمن عزل النفوذ الروسي، في حين سيعارض آخرون ما قد يرونه مساسًا بالسيادة الأوكرانية، أو خطوة تنطوي على مجازفة كبيرة في إدارة ملف حساس كالطاقة النووية. أضف إلى ذلك أنّ المفاعلات النووية لا تزال تستعين بخبرات وكوادر محلية وفنية معقّدة؛ ما يجعل نقل الإدارة أو بيعها أمرًا مُكلّفًا ومتشعّبًا.
إن عودة ترمب إلى البيت الأبيض سلطت الضوء مجددًا على نهجه الخاص في التعامل مع القضايا الدولية، ودفعت المحللين إلى إعادة النظر في كيفية إدارته للصراع بين روسيا وأوكرانيا، بما في ذلك موضوع المفاعلات النووية الأوكرانية. ومع أن فكرة “الاستحواذ” لم تتبلور رسميًّا أمام الرأي العام، فإن تداولها يعبّر بوضوح عن مدى استخدام الملفات النووية في المناورات الجيوسياسية الكبرى، ومدى هشاشة البيئة الأمنية العالمية أمام الأفكار غير المسبوقة التي قد تخرج من هذه الدولة العظمى أو تلك. وفي كل الأحوال، تبقى أي محاولة للسيطرة على مرافق نووية خارج الحدود عنصرًا شديد الحساسية؛ فهو ينطوي على مخاطر دبلوماسية وعسكرية قد تشعل صراعًا واسع النطاق، ويزيد الشكوك بشأن مستقبل النظام الدولي الذي يفترض به أن يحمي السلم والأمن، لا أن يُخضعهما للمساومات والمقايضات.
يتضح -أولًا- أن عودة ترمب مجددًا إلى البيت الأبيض لم تبدّد الجدل بشأن نهجه “غير التقليدي” في إدارة الملفات الدولية؛ بل أعادت تسليط الضوء على سياسته الخارجية القائمة على النزعة الأحادية، وإمكانية طرح أفكار “جريئة” قد تبدو لبعضنا صادمة، ويتجلّى هذا بوضوح في تداول مسألة “الاستحواذ” على المفاعلات النووية الأوكرانية، وهي خطوة تنطوي على أبعاد إستراتيجية شديدة الخطورة، سواء تعلّق الأمر بتوازن القوى مع روسيا، أو بمستقبل التعاون النووي المدني المقيّد بشروط عدم الانتشار، والرقابة الدولية.
ثانيًا- يبرز الموقف الأوكراني عاملًا حاسمًا؛ إذ لن يتمكن أي طرف من تحقيق مكاسب أحادية في مجال حساس كهذا دون توافق كييف التي تواجه تحديات في تجنب الاصطدام الصريح مع موسكو من جهة، والحفاظ على سيادتها على منشآتها الحيوية من جهة أخرى، وهذا يظهر أن أوكرانيا ليست رقعة شطرنج سهلة المنال؛ بل دولة لها مصالح وطنية، وأوساط داخلية منقسمة حيال أي تدخل خارجي؛ ما يجعل أي صفقة محتملة أكثر تعقيدًا.
ثالثًا- تنعكس حساسية الملف النووي على المجتمع الدولي كله؛ فأي تحرّك أمريكي نحو امتلاك نفوذ مباشر على محطات نووية خارجية قد يستفز روسيا، ويُحرج الحلفاء الأوروبيين المنقسمين أصلًا بشأن كيفية موازنة علاقتهم مع موسكو وضمان أمن الطاقة، وقد يحفّز في الوقت نفسه دولًا أخرى على التشكيك في منظومة الضمانات والمعاهدات النووية السائدة. وتؤكّد هذه المعطيات جميعها أن لعبة “الأوراق النووية” في السياسة العالمية تحمل أخطارًا متعاظمة قد تقلب المعادلات، وتفجّر أزمات عابرة للحدود.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.