هناك قلق في الولايات المتحدة، ولدى حلفاء واشنطن الأوروبيين والآسيويين، من سياسات الرئيس دونالد ترمب القائمة على شعار “أمريكا أولاً “، التي يمكن أن تقود الى تراجع القيادة والزعامة الأمريكية للعالم، وقد تؤدي هذه السياسة الجديدة إلى نهاية الانفراد الأمريكي للقيادة العالمية الذي انفردت به واشنطن منذ نهاية الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991.
سبب هذا القلق لدى حلفاء الولايات المتحدة وأنصار الحزب الديمقراطي في الداخل الأمريكي يعود حصريًّا إلى سياسات ترمب في مختلف أقاليم المعمورة، خاصةً بعد انسحاب سيد البيت الأبيض من اتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية، وفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وتقديم بعض أعضاء مجلسي النواب والشيوخ مشروع قرار في الكونغرس الأمريكي يدعو إلى الانسحاب الكامل من الأمم المتحدة، ووقف التمويل الأمريكي لها، الذي يزيد على 35 مليار دولار سنويًّا.
وتقوم حسابات المتخوفين من سلوك ترمب في الساحة الدولية على أن صدارة الولايات المتحدة للمشهد العالمي بدأت مع دخول واشنطن الحرب العالمية الثانية، والانتصار مع الاتحاد السوفيتي للقيم الإنسانية، وهزيمة الفاشية والنازية، وعزّز أهمية الانفتاح الأمريكي على العالم منذ نحو 80 عامًا أن الولايات المتحدة -التي لا يزيد عدد سكانها على 5% من سكان العالم- تستحوذ على نصيب الأسد من التجارة الدولية، وباتت المدن الأمريكية المقر الرئيس لنحو 130 شركة عالمية من بين الشركات الـ500 الأكبر في العالم وفق ترتيب فورتشن غلوبال، ويعيش في الولايات المتحدة أكبر عدد من المليارديرات في العالم، وبفضل الوضع الحالي تمتلك البنوك الأمريكية نحو 3 تريليونات دولار، فضلًا عن أن لدى واشنطن نحو 220 ألف جندي ينتشرون في أكثر من 900 قاعدة عسكرية في العالم.
وفق هذه الحسابات يخشى بعض مخططي السياسة الخارجية الأمريكية من وصول الأمر الى الانسحاب العسكري الأمريكي المحتمل من أوروبا، وتفكيك حلف دول شمال الأطلسي (الناتو) بعد أن أغلق الرئيس ترمب الوكالة الأمريكية للتنمية، وفرض الحواجز الجمركية على كثير من الدول، ويتحول تدريجيًّا من “التجارة الحرة” إلى “التجارة العادلة”، وكل ذلك قد يفسح المجال أمام روسيا والصين لملء الفراغ الإستراتيجي الذي تتركه قرارات الرئيس ترمب، خاصة مع زيادة “المقبولية الروسية والصينية” في العالم، وزيادة مساحة النفور والقلق لدى حلفاء واشنطن على الساحة الدولية، فهل تسهم خطوات ترمب في التحول سريعًا نحو “عالم متعدد الأقطاب”؟ وإلى أي مدى ستكون الأقطاب الأخرى، وفي مقدمتها الصين وروسيا، جاهزتين لملء الفراغ الأمريكي؟
منذ عهد الرئيس الأمريكي الأول “جورج واشنطن” كان هناك جدل بشأن مدى انخراط الولايات المتحدة في الصراعات الدولية؛ ففي خطاب الوداع الذي ألقاه الأب المؤسس للولايات المتحدة الأمريكية “جورج واشنطن” حذر خليفته من الانخراط في الصراعات الأوروبية، أو التحالف مع دولة ضد أخرى في أوروبا، وسار على المنهج نفسه رؤساء أمريكيون كثر طوال القرن التاسع عشر؛ ففي خطابه الافتتاحي في الرابع من مارس (آذار) 1801، كرر الرئيس الثاني توماس جيفرسون المبدأ نفسه القائم على عدم الانخراط في الخلافات الدولية، وظل يشكر الله كثيرًا الذي أعطى الولايات المتحدة المحيط الأطلسي ليفصلها عن “الفوضى الأوروبية”، وعندما جاء الرئيس الخامس جيمس مونرو وضع ما سُمي “مبدأ مونرو” الذي يدعو إلى عدم تدخل الدول الأوروبية في الشؤون الداخلية لدول أمريكا اللاتينية، وتكرر هذا الأمر مع رؤساء أمريكيين كثر حتى كُسِرت هذه العزلة في الحرب الأمريكية الإسبانية عام 1898، وتوالى بعد ذلك الانخراط الأمريكي في الحروب الدولية، ومنها الحربان الأولى والثانية، لكن في العصر الحديث يميل الديمقراطيون إلى تعزيز التحالفات السياسية والعسكرية والاقتصادية الخارجية، منها تأسيس الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن “تحالف أوكوس” في سبتمبر (أيلول) 2021، وتوقيع الرئيس الأسبق باراك أوباما “اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ” في 4 فبراير (شباط) 2016، وهي الاتفاقية التي ألغاها الرئيس ترمب في اليوم الأول له في البيت الأبيض في 20 يناير (كانون الأول) 2020، وفي الوقت الحالي يميل ترمب كثيرًا إلى سياسات الرؤساء الأمريكيين الذين كانوا يرفعون شعار “أمريكا أولًا”، فهذا الشعار ليس شعار ترمب؛ بل هو شعار المظاهرات الأمريكية التي خرجت اعتراضًا على مشاركة الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية.
هناك تيار كبير في الولايات المتحدة يتقدمه الحزب الديمقراطي يقول إن كل تحركات ترمب السياسية والاقتصادية والعسكرية تدفع بقوة نحو “عالم متعدد الأقطاب”، وتراجع الهيمنة الأمريكية في ظل تراجع الالتزامات الأمريكية تجاه شركائها وحلفائها من جانب، وخلق المشكلات السياسية والتجارية من جانب آخر، ويرى المناهضون لترمب أن هناك فرصًا لروسيا والصين لتغيير هيكل النظام الدولي، وقيام نظام متعدد الأقطاب، من خلال الخطوات التالية:
أولًا- ملء الفراغ
أبدت كل من روسيا والصين الاستعداد لملء الفراغ الذي تتركه واشنطن، خاصة عندما أبدت الصين رغبتها في زيادة تمويلها لمنظمة الصحة العالمية بعد انسحاب ترمب منها، كما أن الصين أبدت استعدادها لتقديم مساعدات جديدة للدول النامية التي كانت تتلقى مساعدات من وكالة التنمية الأمريكية التي أغلقها ترمب وصديقه إيلون ماسك، وهذا يفتح الطريق أمام أدوار جديدة وإضافية لروسيا والصين، ويضعف في الوقت نفسه من الحضور والزخم الأمريكي.
ثانيًا- التجارة الحرة
عندما فرض ترمب تعريفات جمركية جديدة على الصين، قالت بكين إنها سوف ترفع دعوى في منظمة التجارة العالمية، وهو نهج قابله الكثيرون باستحسان كبير، ونتيجة للتعريفات الجمركية التي يفرضها ترمب تفكر دول كثيرة في البحث عن شركاء تجاريين آخرين بخلاف الولايات المتحدة الأمريكية؛ بما يدفع إلى خسائر أمريكية لم يتضح حجمها في الوقت الحالي، وهناك توقعات بأن تصبح الصين الشريك التجاري الأول لباقي أقاليم العالم بعد أن أصبحت الصين بالفعل الشريك التجاري الأول لمنطقة الخليج، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية، فقرارات الرئيس ترمب سوف تصب في النهاية لمصلحة العلاقات التجارية الصينية الأوروبية.
ثالثًا- ظهور البدائل العسكرية
لا يمر يوم في أوروبا دون الحديث عن بدائل عسكرية للقوات الأمريكية التي لها نحو 100 ألف جندي في أوروبا، إذ يدور الحديث بجدية عن إتاحة السلاح النووي الفرنسي بديلًا لحماية أوروبا إذا سحب دونالد ترمب القوات الأمريكية من أوروبا، وحتى أوكرانيا قالت إنها ربما تفكر في بناء تحالف أوروبي للدفاع عنها إذا تخلى الرئيس ترمب عنها، واستعداد الرئيس ترمب لبناء “القبة الحديدية” الأمريكية يعني أنه غير مهتم بالقواعد العسكرية والتحالفات العسكرية الخارجية التي ينظر إليها دائمًا على أنها حائط صد متقدم لحماية الأراضي الأمريكية.
رابعًا- معادلة جديدة للتحالفات العسكرية
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تحمي الولايات المتحدة حلفاءها، وأرسلت نحو 50 ألف جندي إلى اليابان، و28 ألفًا وخمسمئة جندي إلى كوريا الجنوبية، ونحو 50 ألف جندي إلى ألمانيا، ونحو 42 ألف جندي في إقليم الشرق الأوسط الذي يمتد من أفغانستان وباكستان شرقًا حتى المغرب غربًا، واليوم يطرح الرئيس ترمب معادلة جديدة لا يقبلها كثير من هذه الدول، إذ يريد لهذه الدول أن تخصص نحو 5% من ناتجها القومي للشؤون الدفاعية، على أن تشتري الأسلحة الأمريكية، ويهدد على الدوام حلفاءه بأن عدم رفع الميزانية الدفاعية سوف يحرمهم من “مظلة الحماية الأمريكية”، ومن شأن هذه السياسة أن تدفع دولًا في حلف “الناتو” و”تحالف أوكوس”، و”تحالف كواد الرباعي”، و”تحالف العيون الخمس” إلى البحث عن شركاء آخرين بعيدًا عن الولايات المتحدة.
خامسًا- نهاية النظام الليبرالي
تنهي خطوات ترمب في السياسة الخارجية “النظام القائم على القواعد” الموروثة من نهاية الحرب العالمية الثانية، بل تنتهي “النظام الليبرالي” الذي تميزت به الولايات المتحدة في القرن الأخير، وهو أمر أقر به وزير الخارجية مارك روبيو في حديثه أمام مجلس الشيوخ في جلسة تثبيته في منصبه، عندما وصف النظام الليبرالي الأمريكي بأنه نظام يتقادم كل يوم، وهو ما يعني أن صورة الولايات المتحدة كقائد وزعيم للعالم الليبرالي تتراجع، بعد أن كانت في قمة التوهج بعد تفكك الاتحاد السوفيتي السابق.
سادسًا- تآكل دور المنظمات الدولية
كثيرًا ما ينتقد ترمب المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، وسبق له أن انسحب من المجلس الدولي لحقوق الإنسان، وهناك نواب جمهوريون في مجلس النواب، وأعضاء في مجلس الشيوخ طالبوا بضرورة الانسحاب الكامل من الأمم المتحدة وجميع المؤسسات الصحية والثقافية التابعة لها، مثل اليونسكو التي انسحب منها ترمب في ولايته الأولى، لكن في الوقت نفسه تتمسك الصين وروسيا بالشرعية الدولية، والقانون الدولي، والمنظمات الدولية، وهو ما يعطي الدول الأخرى، مثل الصين وروسيا، أدوارًا عالمية جديدة أمام تراجع الهيمنة الأمريكية وذبولها، في ظل مطالب كثيرة تسعى إلى التخلص من هيمنة الدولار، وضرورة إصلاح المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، ومجلس الأمن.
المؤكد أن خطوات ترمب القائمة على شعارات “أمريكا أولًا”، و”لنجعل أمريكا عظيمة من جديد” يفتح الطريق لبناء نظام عالمي جديد، وهو ما سوف يقود إلى بروز أكثر من لاعب، وأكثر من قطب في النظام الدولي الجديد الذي يسهم ترمب -سواء بقصد أو دون قصد- في التحول إليه والعمل به.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.