مقالات المركز

تحولات الموقف الروسي من الرئاسة الأوكرانية.. من بوروشينكو إلى زيلينسكي


  • 27 أغسطس 2025

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: ifpnews

منذ ثورة “الميدان” عام 2014، والإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش، أصبح مصير رئاسة أوكرانيا نقطة محورية في الصراع بين موسكو والغرب. اعتبرت روسيا ما حدث في كييف “انقلابًا” على الشرعية الدستورية، وصنّفت الحكومة الجديدة بأنّها غير شرعية وخاضعة لضغوط غربية. ومع تنصيب بيتر بوروشينكو رئيسًا في يونيو (حزيران) 2014، تبنّت موسكو خطابًا مزدوجًا: أعلنت استعدادها للحوار مع القيادة الجديدة، في حين شكّكت في شرعيتها. سعى هذا المقال إلى تتبّع التحوّلات الرئيسة في موقف روسيا الرسمي من رئاستَي أوكرانيا: بوروشينكو ثم زيلينسكي، مرورًا باتفاقيات مينسك وحروب الدعاية الدائرة حول مفهوم الشرعية والنظام الدمية.

20142015 .. انقلاب الميدان وبدايات بوروشينكو

في فبراير (شباط) 2014 أُطيح بيانوكوفيتش إثر احتجاجات شعبية حاشدة. وصفت روسيا هذه الأحداث بأنها “انقلاب مسلح” مدعوم من الغرب، وأكّدت أن يانوكوفيتش ما زال الرئيس الشرعي للبلاد ما لم يُعزل دستوريًّا، أو يستقيل.  وعلى الفور، رفضت موسكو الاعتراف بالحكومة المؤقتة في كييف، وأطلقت عليها صفة “خُونْتَا” (انقلابية). وبعد فوز بوروشينكو بالانتخابات في مايو (أيار) 2014، كان على روسيا أن تختار بين التصعيد والتفاوض. ففي خطاب أمام نظيره الروسي عقب تنصيبه، شدّد بوروشينكو على رفضه التنازل عن سيادة أوكرانيا، بما في ذلك على القرم. من جهتها، عبّرت موسكو عن استعدادها لإيجاد “حوار متوازن” مع القيادة الأوكرانية الجديدة. قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: “الفرصة المتاحة لإقامة حوار متوازن على ضوء هذه النتائج يجب ألا تضيع، ونحن مستعدون لاحترامها”.  لكن هذا الاستعداد الحذر ترافق مع تحميل بوروشينكو مسؤولية التصعيد العسكري في شرق أوكرانيا، واتهام حكومته بالتخطيط لعملية عسكرية واسعة ضد الموالين لروسيا. وأشار لافروف إلى أن الحملة الأمنية الحكومية في الشرق “خطأ فادح” يجب تجنبه.

خلال تلك الفترة تم توقيع اتفاقيات “مينسك” للتهدئة بين روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا (سبتمبر/ أيلول 2014 وفبراير/ شباط 2015). مثّلت موسكو طرفًا فاعلًا في هذه الاتفاقات، لكن خطابها الرسمي ركّز على تحميل الجانب الأوكراني مسؤولية التنفيذ. وإذ أشارت موسكو إلى أولوية “الوفاء بجميع الاتفاقات المبرمة بما فيها تلك المتعلقة بالتجارة والطاقة”، فقد كرّرت نداءها لكييف بتغيير دستورها لإضفاء حكم ذاتي على شرق البلاد. وفي مقابلات ومؤتمرات صحفية، شكك المسؤولون الروس في التزام بوروشينكو بهذا المسار، ووصفوا تشريعات كييف بأنها “خطاب حزب حرب”، ومزايدات إعلامية.

في هذه المرحلة تذبذب الموقف الروسي بين التسليم الشكلي بنتائج الانتخابات (ضمن إطار سعي موسكو للاحتفاظ بدور في الأزمة الأوكرانية) والتشكيك في شرعية السلطة الجديدة ووصفها بأنها “موالية للغرب” ومُستبدّة. لم ترد موسكو بوضوح على شرعية بوروشينكو إلا من خلال الإشارة الدائمة إلى “الانقلاب” الذي أوصله إلى السلطة، في حين استخدمت مصطلحات مثل “جماعة حرب”، و”خطاب عدائي” لوصف سياساته.

20192022 .. عهد زيلينسكي قبل الغزو الكامل

عندما فاز فولوديمير زيلينسكي برئاسة أوكرانيا في أبريل (نيسان) 2019 بفارق كبير، اتخذت موسكو موقفًا متحفّظًا. رسميًّا، لم ترفض روسيا نتائج الانتخابات الجديدة؛ بل عبّر رئيس الوزراء الروسي دميتري ميدفيديف عن تفاؤل بحظوظ “تحسين العلاقات”. ولم يتأتَ أي تعليق حاد مباشرة من الكرملين على فوز زيلينسكي، واكتفى المتحدثون الرسميون بالقول إنهم “لن يرفضوا أي شكل من أشكال العمل مع أوكرانيا” إذا توقف خطاب كييف العدائي.

 20222025 .. الحرب الكاملة وتشكيك موسكو في شرعية زيلينسكي

مع اندلاع الصراع الروسي الأوكراني (فبراير/ شباط 2022)، وصل الخطاب الروسي إلى أوجه ضد شرعية النظام السياسي في اوكرانيا. اعتبرت موسكو أن زيلينسكي لم يعد يمثل حاكمًا ذا شرعية دستورية، خاصة بعد انقضاء ولايته القانونية (بحسب الدستور الأوكراني) دون إجراء انتخابات جديدة نتيجة إعلان الأحكام العرفية. كررت وزارة الخارجية الروسية إشاراتها إلى أن بقاءه في السلطة وقتًا إضافيًّا يجعل أي اتفاقية دولية مشكوكًا في صحتها. ففي مقابلة مع إعلام أمريكي، قال وزير الخارجية لافروف: “لا نعترف إلا بأنه رئيس نظام بحكم الواقع، وبصفته هذه نحن مستعدون للقاء معه”. وأضاف متسائلًا باستهزاء: “كيف يمكن أن نجتمع مع شخص يدّعي أنه قائد؟”.

كما توالت كلمات الاتهام على لسان القادة الروس لوصف زيلينسكي وحكومته، فاتهمه بوتين بأنّه عرّاب “الحكومة النازية” في أوكرانيا، مدّعيًّا أن بلاده تدخل من أجل “نزع النازية” عن السلطة. أمّا ماريا زاخاروفا، الناطقة باسم الخارجية الروسية، فقد ألصقت بحكمه وصف “النظام الإجرامي واللا شرعي”، وزادت أنه يُظهر “طبيعته النازية”، واستُخدمت مصطلحات مثل “نظام دمية”، و”نظام عميل” ليصل التحقيق إلى وصف كييف بأنها “حكم من جانب الغرب”، واعتبرت أن قرارات السلام يجب أن يوقّعها شخص شرعي وفقًا للدستور، وهو ما ترى موسكو أنه غير متحقق في زيلينسكي.

في مجمل خطابها الدبلوماسي، وظفت موسكو دائمًا مفاهيم “الشرعية” و”النظام” و”الدمى”، مؤكدة أن أي تغيير في السلطة في كييف بقيادة مؤيدة للغرب كان نتيجة “انقلاب” أو “دعم خارجي”؛ وبذلك سعت روسيا إلى تشويه سمعة كل قيادة أوكرانية جديدة لمصلحتها، وصاغت سردية تَظهر فيها تلك الحكومة كـ”دُمية” تابعة وتفتقر إلى أي استقلالية حقيقية.

ومع ذلك، جرى تحليل فوز زيلينسكي في الإعلام الروسي على نحو سلبي أو ساخِر. وصف الإعلام الرسمي الحملة الانتخابية بأنها “سيرك”، و”مسرحية هزلية”، وركز على خلفيته الفنية ليبرّر شكّه في كفاءته. في الوقت نفسه، اعتبر عدد من المحللين الأقرب إلى الكرملين أنه جديد عارٍ من الخبرة السياسية وقد يفتقر إلى الأجندة الواضحة. ورغم تصريحات مهدِّئة، ظلت موسكو تعتبر أن زيلينسكي يجب أن يلتزم بتنفيذ مبادراتها الإقليمية (مثل المباحثات بشأن الدستور وغيرها) إذا أراد بناء الثقة.

في السياسة العملية برز الخلاف بشأن علاقات أوكرانيا بالغرب وحلف الأطلسي. رفض زيلينسكي في حملته التلويح بقبوله وضع الحياد، بل شدد على انضمام بلاده المتقدم إلى الاتحاد الأوروبي والناتو؛ حينئذ أبدت روسيا رفضًا قاطعًا لأي توجه يقود أوكرانيا إلى الخروج من فلكها التاريخي، معتبرة أن ضم أوكرانيا إلى الناتو خط أحمر. كان لافروف يردد أن أمن روسيا يُهدده توسع الحلف باتجاه الحدود الأوكرانية. وعلى المستوى الدبلوماسي، لم يلتقِ بوتين بزيلينسكي وجهًا لوجه قبل تصعيد الحرب، وأدرك الكرملين أن رئيس أوكرانيا الجديد ليس حليفًا محتملًا؛ بل قائدًا يدعم موقف بلاده الداعم للغرب.

الخاتمة

يتبيّن من المراحل السابقة أن موقف روسيا من رئاسة أوكرانيا تغيّر باستمرار وفقًا لأولوياتها الإستراتيجية؛ ففي 2014- 2015، تركّز الخطاب الروسي على رفض ما يرونه انقلابًا مسلحًا، وإبقاء باب الحوار مفتوحًا حذرًا مع بوروشينكو، مع محاولة إلزام أوكرانيا بتنفيذ اتفاقيات “مينسك” لصالح موسكو. أما في 2019- 2022، فقد اتخذت موسكو موقفًا مشوبًا بالترقب تجاه انتخاب زيلينسكي، بانتظار إذا ما كان سيبادر نحو حلحلة الأزمة أم يلتزم بنهج مواجهة متشدد. ومع اجتياح فبراير (شباط) 2022، ارتفعت لهجة موسكو لتشكك في شرعية السلطة الأوكرانية، مدعية أنّ قيادتها “نظام دمية” تقوده أجندات خارجية غير شرعية. وفي كل تلك المراحل، استعانت الدبلوماسية الروسية بمفردات “الشرعية”، و”النظام” في وصف كييف، كأدوات لتأطير الرواية السياسية التي تبرز موسكو فيها المدافع عن القانون الدولي، وقيم الأمن القومي لروسيا. يخلص ذلك إلى أن الخطاب الروسي تجاه الرئاسة الأوكرانية كان تابعًا لصراع النفوذ الجيوسياسي؛ فرُؤيته لشرعية الحكم الأوكراني ضمنًا تعكس المصالح الروسية وموقفها من أي تغيير في خريطة تحالفات أوكرانيا وتصرفاتها تجاه روسيا.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع